الخميس، 18 أبريل 2024

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (69)

بقلم: فخري كرم

قلنا إن رمز المصباح والعين يشير إلى شخص الروح القدس في عمله كروح المعرفة والإعلان الذي يكشف وينير كل شيء ولا يخفى عنه شيء وهو الذي نحتاج إليه لكي يكشف أمامنا مواضع العثرة فلا نعثر في طريقنا، سواء أتت العثرة من أنفسنا أو من الآخرين أو من إبليس، كما نحتاج إليه أيضا لكي يكشف أمامنا أعماق الله حتى نستطيع أن نعرف شخصه ونتجاوب مع مشيئته، واليوم نضيف أن هذا الرمز أيضا يشير إلى عمل الروح باعتبار ما يلي:

مراقب كل الأرض

«ليست خليقة غير ظاهرة قدام إلهنا، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذاك الذي معه أمرنا» (عب 4: 13) الله يعرف كل ما يدور في الأرض ويراقب كل تصورات قلوب البشر، والمسؤول عن هذه المعرفة هو روح العين المبارك كما نقرأ عنه في (رؤ 6:5) «سبع أعين هي سبعة أرواح الله المرسلة

إلى كل الأرض» وفي (زك 4: 10) «إنما هي أعين الرب الجائلة في الأرض كلها» وفي (۲ أي 16: 9) يقول حناني الرائي «لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه».

الأسفار!!

 روح الله يراقب ويفحص قلوب وأفكار البشر ويدون كل ما يراه في «أسفار»!! لا يوجد شيء في حياة الناس إلا وهو معروف و محفوظ أمام الله، وقريبا سيأتي يوم الدين الذي تفتح فيه هذه الأسفار ويدان البشر مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم (رؤ 20 : 12) من لم توجد أسماؤهم في « سفر الحياة » سيدانون بما هو في الأسفار بحسب أعمالهم، والمقصود بأعمالهم ليس فقط الأعمال الخارجية الظاهرة بل أيضا الكلمات والأفكار السرية التي ظلت حبيسة الأعماق الخفية!! قال عن هذا رب المجد « إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابا يوم الدين» (مت 12 : 36) والرسول بولس يؤكد أن الرب في هذا اليوم سيدين « سرائر» الناس أي أفكارهم ورغباتهم التي ظلت سراً في أعماقهم (رؤ 2 : 16) ويقول حكيم الأجيال « افرح أيها الشاب في حداثتك وليسرك قلبك في أيام شبابك وأسلك في طرق قلبك وبمرأى عينيك واعلم أنه على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة، لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفي إن كان خيرا أو شرا» (جا 11 : 9 ـ 14) . ليت الأشرار يعرفون هذه الحقيقة المرعبة منذ الآن لكي يهربوا إلى المسيح فلا يستطيع أن يمحو ما قد كتب في «الأسفار» إلا دم المسيح!!

والمؤمنون أيضا

المؤمنون أيضا يحتاجون لمعرفة هذا الحق، فمعرفة الله لأعمال البشر وتدوينها ومحاسبتها ليست قاصرة على أعمال الأشرار فقط بل أيضا المؤمنين، وإن كان الأشرار تدون أعمالهم في «الأسفار» التي ستفتح أمام العرش الأبيض العظيم فأعمال المؤمنين أيضا ستمتحن بنار أمام كرسي المسيح قبيل عشاء العرس العظيم، يقول الرسول «عمل كل واحد سيصير ظاهراً لأن اليوم سيبينه، وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو» (1كو ۱۳:۳) وإن كان إظهار أعمال الأشرار هو دليل وصك دينونتهم فإظهار أعمال المؤمنين هو لتحديد مكانهم ومكانتهم في المجد (لو19 : 17) . كل عمل في حياتنا ليس بحسب إرادة إلهنا ستلتهمه النار وسنخسره!!

سبب الضلال

إن سبب أي ضعف أو خطية أو ضلال في حياة المؤمنين هو غياب هذا الحق الثمين عن أذهانهم. عندما يسمح المؤمن بخطية تسكن مخادع نفسه فهو لا يدرك أن الرب يراه، قد يعترف باللسان بهذا الحق لكن يبقى لسان حال أعماقه هو ما قاله شيوخ بيت إسرائيل قديماً «الرب لا يرانا!! الرب قد ترك الأرض» (حز8: 12)

وأصل القداسة!!

إن هذا الحق الثمين هو أصل لكل قداسة يمكن أن توجد في حياتنا، لو كنا نسير كل أيامنا وبداخلنا يقين أن الرب يراقب أعماقنا فلن نسمح لفكر رديء أن يتسلل إلى أذهاننا أو تصور قبيح أن يسكن في أعماقنا أو هدف شرير أن يتكون في إرادتنا!! لو عشنا ساعات يومنا في ضوء «كرسي المسيح» حيث كل شيء يمتحن بنار فلن نسمح بالوجود في حياتنا إلا للذهب والفضة والحجارة الكريمة!!

هذا الحق الثمين كفيل بأن يجعل قداستنا هي قداسة السر وليس فقط العلن، إدراكنا أن روح الله يراقب أعماقنا سيجعلنا نهتم بأن تكون أعماقنا مقدسة ومرضية أمامه، وعندما أدرك المرنم قديما أن الرب يعرف مسلكه ومربضه ويفحص جلوسه وقيامه، بل إنه يعرف الكلمة وهي بعد في لسانه والفكرة وهي بعيدة في أعماقه، كان رد فعله الطبيعي أن يقول «اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف أفكاري، وانظر إن كان في طريق باطل واهدني طريقاً أبدية» (مز 139: 23).

أحيانا نهتم بالظاهر أكثر من الباطن لأننا نخشى دينونة الناس أكثر من دينونة الله!! نهتم بأن نكسي أنفسنا بثياب جميلة يرضى عنها الناس لكيلا يروا قبح أعماقنا المستترة، وننسى أن كل شيء «عريان» أمام عيني إلهنا!! الناس تنظر إلى العينين أما الرب فينظر إلى القلب، وقلوبنا عريانة أمامه لا يسترها شيء، فدعونا إذا نهتم بقداسة القلوب (يتبع).

 

السبت، 13 أبريل 2024

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (68)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الله لم يره أحد قط ولا نستطيع أن نعرفه إلا بمعونة «روح الحكمة والإعلان» (أف ۱۸:۱) روح العين والمصباح المبارك الذي يعلن لنا أمور الله وطبيعته حتى نستطيع التعامل مع إلهنا والدخول في شركة حقيقية معه، ولقد استخدم الرب نفس كلمة « إعلان » بخصوص معرفة الله عندما قال «لا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له» (مت 11 : 27) لكن دعونا نتساءل:

ما معنى الإعلان ؟

          الإعلان هو المعرفة التي تأتي إلينا من مصدر أعلى منا وليس نتيجة قدرة في أذهاننا، أحيانا يأتي كلمعان البرق المفاجيء يبرق في أذهاننا علي غير توقع أو انتظار، وأحيانا أخرى يكون تدريجيا كأشعة الفجر التي تشرق وتزداد وتتسلل برفق إلى داخلنا مصحوبة بفهم عميق ومريح للنفس، لكنه في كل الأحوال استنارة تضيء أعماقنا فنرى أموراً ما كنا نستطيع أن نراها بأنفسنا، استنارة ذات سلطان على حياتنا تغير سلوكنا ومنهجنا في الحياة، استنارة تعطى لعلاقتنا بالله بعداً جديداً وعميقاً، وفي كل الأحوال يدرك الإنسان أن لا يد له في هذا الإعلان المبارك، وأنه لو بذل أقصى مجهود في ذهنه ما استطاع أن يفهم هذا الفهم، إنه نعمة خالصة وهبة إلهية ثمينة!!

لماذا الإعلان ؟

إننا نحتاج لروح الحكمة والإعلان في معرفة الله لأن ذهننا البشري المحدود لا يمكنه أن يدرك الله أو يفهم أموره بشكل كامل من تلقاء نفسه، الذهن البشري المخلوق قادر على فهم أمور الخليقة التي على نفس مستواه أو أقل منه، وبما أن الإنسان هو تاج خليفة الله و أرقى مخلوق على هذه الأرض لذلك فذهنه قادر على فهم أمور هذا العالم المنظور، ولقد استطاع بالفعل أن يدرك الكثير من أمور الخليقة المحيطة به ويسخرها لخدمته، أما أمور الله الخالق فهي أعلى من مستوى الذهن البشري المخلوق ولذلك لا يستطيع فهمها بنفسه، يقول الكتاب: «ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء، لأن من عرف فكر الرب أو صار له مشيرة؟» (رو 11 : 33 ، 34) والمرنم أدرك هذه الحقيقة قديماً فأنشد: «عجيبة هذه المعرفة؛ فوقي ارتفعت، لا أستطيعها !! عجيبة هي أعمالك ونفسي تعرف ذلك يقينا» (مز 139 : 6 ، 14)

حدود المعرفة الذهنية

 المعرفة الذهنية محدودة بأرض الواقع المنظور، فالذهن البشرى يستطيع أن يتأمل في عظمة أعمال الله بعدما تتحقق في هذا العالم المنظور، يستطيع أن يمعن فيها التفكير بعدما تصبح جزءاً من نسيج الواقع الإنساني، يستطيع أن يحفظ كلمات الله التي قيلت قديماً بعدما دونت من خلال عقول وأيدى إنسانية، يستطيع إذا تأمل في روعة الخليقة أن يستنتج عظمة قدرة الله السرمدية ولاهوته (رو1 : 20) وإذا تأمل في أعمال الله في تاريخ الشعوب السابقة يفهم عظمته ويهتف بمجده (مز 66) وإذا جاءه خبر ما فعله الرب بالأشرار قديماً يجزع ويخاف (حب 3 : 2) لكن هذه المعرفة ستبقى معرفة ذهنية ناقصة ومتأخرة:

* ذهنية أي أنها وحدها وبدون عمل روح الإعلان لا تستطيع أن تقود الإنسان إلى معرفة روحية حقيقية بالله، والدليل هو ملايين النفوس التي ترى روعة الخليقة كل يوم ولا تمجد الله، وآلاف النفوس التي تعرف قصص التاريخ المقدس ومع ذلك لا تتوب، وآلاف النفوس التي قرأت المكتوب بصورة خاطئة وابتدعت بدعاً وهرطقات مهلكة!! إننا لا نستطيع أن نعتمد على المعرفة الذهنية فقط في فهم المكتوب بل لابد أن تكون مصحوبة بروح الإعلان الذي ينقل المكتوب بمعناه النقي وسلطانه الإلهي إلى أعماقنا.

* كما أنها ناقصة لأننا لا نستطيع دائما أن نعرف كل صفات الله بمجرد رؤية أعماله، فكم من مرة تكون الأعمال غير معبرة عن حقيقة قصد الله!! فكم من أعمال تبدو قاسية كان الدافع وراءها هو المحبة، مثل الأحداث التي مر بها يوسف وأيوب، فمن يستطيع وهو يراقب ما كان يحدث معهما أن يتوقع الخير؟ لولا أننا نقرأ قصتهما بعد نهايتها وظهور القصد الإلهي المجيد ما كنا قد فهمنا معاملات الله معهما، وهذا ما نقصده بأنها أيضا معرفة:

* متأخرة أي أن الذهن لا يفهم أحكام الله إلا بعد أن تصدر وتنفذ في أرض الواقع وتصبح ماضي يمكننا أن نقرأ عنه ونتأمل فيه ونستخلص منه الدروس، أي بعد فوات أوان التجاوب معها والمشاركة فيها. لو كنا لا نمتلك إلا المعرفة الذهنية فلن يفهم مقاصد الله تجاه جيلنا إلا الجيل الآتي بعدنا !! أي بعدما يصلهم خبر ما حدث معنا فإنهم يفهمون مقاصد الله الصالحة نحونا، لكني أعتقد أن الوقت حينئذ سيكون متأخراً جدا بالنسبة لنا للاستفادة من هذه المعرفة!! روح الإعلان وحده يستطيع أن يعلن لأعماقنا مقاصد إلهنا وهي بعد في طور التنفيذ ولم تظهر بعد للعيان، وحده يستطيع أن يكشف لنا إرادة الله نحونا والفرصة مازالت بعد سانحة للتجاوب معها ، ذلك لأنه وحده

يعرف أعماق الله

الروح القدس وحده هو الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله ( 1كو 2 : 10) لذلك هو وحده يستطيع أن يدخل بنا إلى تلك الأعماق. إذا كنا نريد شركة حقيقية مع الله، إذا كنا نريد أن نفهم مقاصده من نحونا ، إذا كنا نشتاق أن نشاركه في تتميم مشيئته في جيلنا، فدعونا إذا نفسح المجال في أعماقنا لروح الحكمة والإعلان، دعونا لا نكتفي بمعرفة ناقصة في أذهاننا بل نطلب إعلاناً منيراً في أعماقنا يغير حياتنا وينقلها لعمق الشركة الحية مع إلهنا، وللحديث بقية.

 

الاثنين، 8 أبريل 2024

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (67)

بقلم : فخري كرم

قلنا إننا نحتاج إلى روح المصباح المبارك لكى ينير الطريق أمامنا لكي لا نعثر ، سواء جاءت العثرة من داخلنا أو من الآخرين أو من إبليس ، فالمؤمن لا يستطيع أن يسير خطوة واحدة في متاهات هذه الحياة بدون أن يكون له نور الحياة ، واليوم نضيف أننا نحتاج إلى روح المصباح لأجل هدف آخر ألا وهو :

معرفة الله وأموره ( أف ا: ۱۷- 23)

الروح لا ينير لنا فقط طريقنا أثناء سيرنا في هذه الأرض لكنه يسمو بنا لينير لنا طريقنا أثناء شركتنا مع إلهنا في السماويات ، لقد صلى الرسول بولس من أجل المؤمنين في أفسس لكي يعطيهم الله روح الحكمة والإعلان في معرفته حتى تستنير عيون أذهانهم ليعلموا أمور الله العظمى والثمينة الموهوبة لهم ، أي أننا لا نستطيع أن نعرف الله نفسه أو أموره إلا بمعونة روح « الحكمة و الإعلان» الذي هو روح المصباح الذي نتحدث عنه، إنه « ينير » عيون أذهاننا فنرى إلهنا ونعرف مشيئته نحونا وعطاياه الممنوحة لنا في شخص المسيح .

الكثير من المؤمنين تظل شركتهم مع الله مقيدة في حدود لا تتخطاها ، ورغم مرور السنين تظل علاقتهم بالرب أسيرة المفاهيم الأولى و المعرفة البدائية التي ابتدأوا بها حياتهم الروحية ، إن معرفتهم لإلههم لا تتعدى معرفة الطفل الصغير لأبيه ، معرفة ساذجة محدودة بالمصالح والاحتياجات ولا ترتقي أبدأ لتواصل حقيقي وشركة عميقة وعطاء متبادل ، حياتهم تظل فقيرة وجافة لأن البركات الأولى لم تعد تكفيهم وعيونهم مغلقة عن البركات العميقة التي ينبغي السعى لامتلاكها ، والسبب هو عدم إعطاء روح الحكمة والإعلان الفرصة لكى ينير عيون أذهانهم ويفتح الآفاق الروحية الرحيبة أمامهم .

الله لم يره أحد قط

معرفة الله لم تكن متاحة للإنسان قديماً ، فبعد السقوط فقد الإنسان فرصة التقدم في معرفة الله ، وصارت الخطية فاصلة بيننا وبين إلهنا حتى لا نراه ولا نعرفه ، الفساد الذي أصاب طبيعتنا خلق فجوة لا يمكن عبورها بيننا وبين الطبيعة الإلهية ، وظل الحال هكذا حتى جاء الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب وخبر ، لم يكن الخبر بالكلام فقط لكن أيضا بالتجسد !! لقد «ظهر» الله في الجسد ، أعلن لنا ذاته في شخص المسيح ، وهذا الإعلان لم يكن ممكناً إلا لأن الرب قدم نفسه ذبيحة لكي يرفع الخطيه الفاصله بيننا و بين إلهنا ، لو لم تنل العداله الإلهية حقها ما كان ممكنا أن يعلن الله ذاته لنا .

دور روح الإعلان

لقد أعلن الرب يسوع المسيح إعلاناً كاملاً عن الله في قلب التاريخ البشري ، عندما جاء له المجد في ملء الزمان وجال بين الناس كان يحمل في داخله صورة الله غير المنظور ورسم جوهره ، لكن هذا لا يكفي وحده لكي نعرف نحن الله !! لكي ينتقل هذا الإعلان إلى أعماقنا و تنفتح عيوننا فتراه وتعرفه نحن نحتاج إلى روح «الحكمة والإعلان»!! روح الله يهيئ للإعلان مكانا بداخلنا ثم ينقل هذا الإعلان ليصبح حقيقة في أعماقنا ، يطهرنا من أفكارنا القديمة ثم يزرع أفكار الله ، يغسلنا من رؤيتنا القديمة لله ثم يعطينا الرؤية السليمة لجلاله ، ينتزع من ثنايا مشاعرنا الأحاسيس الجسدية التي تقيس كل شيء بمقياس الجسد ويغرس مشاعر مقدسة تعرف كيف تقيس الأشياء بمقياس الله .

لا معرفة حقيقية بدون إعلان

أي أنه لا يكفي أن نعرف أقوال الرب يسوع أو ندرس حياته لكي نعرف الله ، المعرفة الذهنية لأقوال وحياة الرب لا تغرس معرفة روحية في الأعماق ولا تغير الحياة ، الإعلان الذي أتى به الرب لم يكن فكرة جديدة عن الله حتى نستقبله بأذهاننا بل كان «روحاً وحياة»، لذلك لا نستطيع استقباله إلا بالروح القدس. كثيرون في أيامنا لديهم معرفة ذهنية كبيرة لأقوال الكتاب لكن حياتهم منطفئة وشركتهم مع الله منعدمة ، أقوالهم رائعة لكن سلوكهم معيب !! وهؤلاء يسببون العثرة للبسطاء الذين تخدعهم الكلمات وتؤثر فيهم المظاهر، لكن المؤمن الناضج يعلم أن معرفة الكلمات شيء وقبول الإعلان شيء آخر ، إننا لا نستطيع أن نستغني عن عمل روح الإعلان لكي يحول حياة الرب وكلماته التي قالها منذ ألفي عام إلى قوة تسري في أعماقنا واستنارة تضيء أعيننا و حياة تفيض في كياننا وعمق جديد في معرفتنا لله وشركتنا معه ، حتى التلاميذ الذين اقتربوا من الرب بالجسد وعاشوا معه وسمعوا الكلام من فمه مباشرة لم يتحول هذا الكلام إلى إعلان حى في حياتهم إلا بعد حلول روح الإعلان في داخلهم يوم الخمسين ، فتحول خوفهم إلى قوة وحزنهم إلى فرح وانطفاء شهادتهم إلى لمعان ، وللحديث بقية .

 

الأحد، 31 مارس 2024

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (66)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن صورة المصباح والعين تشير إلى روح الحق الذي ينير أمامنا حقائق الأشياء ويفتح عيوننا لنراها ، ونحن نحتاج لرؤية حقيقة الأشياء لعدة أسباب أولها لكى نتجنب العثرة ، فإذا كنا نسير ولا نرى أمامنا فلابد أن نعثر ، وقد تأتي العثرة من داخلنا إذا فوجئنا بما لا نتوقعه من أنفسنا ، وقد تأتي من الآخرين إذا اكتشفنا فيهم ما لم نتحذر منه ، واليوم نضيف أن العثرة قد تأتي أيضا

من إبليس

كل قوة إبليس مستمدة من عدم رؤية الإنسان لمكايده وفخاخه وجهله بأفكاره ، إن مملكة الشر بأكملها تسود على «ظلمة هذا الدهر» ( أف 6 :12) بل إن سلطانها يسمى «سلطان الظلمة» ( لو 22: 53، كو 1 : 13) إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين وأغرقهم في ظلمات روحية كثيفة لكي يسهل اقتناصهم في فخاخه وحبائله .

منذ أن سقط الإنسان في فخ إبليس الأول في جنة عدن أصبح عاجزاً عن تمييز أعماله والنجاة منها ، انفصاله عن الله أدخله إلى الظلمة لأن الله هو النور الذي لا ظلمة فيه البتة (1يو1: 5) الرب الله هو «شمس ومجن» (مز84: ۱۱) أي أنه النور والحماية ، فالنور هو الحماية الحقيقية من السقوط في فخاخ الظلمة ، فباطلا تنصب الشبكة في عيني كل ذي جناح ، لكن بالانفصال عن الله صار الإنسان بلا نور أو حماية، أصبح يجلس في الظلمة وظلال الموت ..

إن كل قدرات الإنسان الطبيعية لا تستطيع أن تحل محل نور الله ، فإبليس أكثر حكمة من أحكم إنسان ، إنه «ملآن حكمة» (حز 28 : 12) لذلك فكل حكمة الإنسان وتمييزه وفطنته وخبرته لا تستطيع أن تنير له أعمال إبليس وتحميه من مكايده ، فليس من قدرات الإنسان الطبيعية أن يرى في الظلام !! صار الإنسان محتاجاً إلى من يفتح عينيه لكي يرجع من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله (أع۲6: ۱۸)

 

الرب نوری و خلاصى

بالنسبة لكل المؤمنين الرب هو «النور» وبالتالي هو «الخلاص» من كل خبايا الظلمة ، من يتبع الرب لا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة ، روح المصباح ينير لنا أفكار العدو و نياته (۲ كو ۲: ۱۱) وإذا كنا لا نجهل أفكاره فسنستطيع مقاومته وهزيمته .

الروح ينجينا من «فخ الصياد» (مز۹۱: ۲) إنه يعرف كل شيء ويستطيع أن يخبرنا بما يرتبه العدو في الخفاء وما ينصبه لنا من فخاخ ، كما أخبر أليشع بمخططات العدو وأخبر بولس بمكايد اليهود ضده ، لا شيء يخفي عن السبعة العيون المرسلة إلى كل الأرض !!

فلنتعلق بالرب !!

          إذا كانت طريقنا تمتلئ بالعثرات سواء من داخل أنفسنا أو من الآخرين أو من إبليس رئيس مملكة الظلمة فكيف نستطيع أن نسير دون أن نعثر ؟ إذا اعتمدنا في سيرنا على رؤيتنا المحدودة وقدراتنا الضعيفة ومعرفتنا السطحية فلابد أن نعثر ونسقط ، فكمية ما نجهله من الأشياء المحيطة أكبر مما نتصور ، ولعل سر ضعف كنيسة اليوم هو تعثر وسقوط المؤمنين في قيود وفخاخ لم يروها ولم يتوقعوها ، العدو يستغل جهلنا بأفكاره وينصب لنا فخاخه لكي نظل طوال حياتنا ضعاف مقيدين غير نافعين للسيد .

دعونا إذا نتعلق بالرب نورنا وخلاصنا ، شمسنا ومجننا ، روح المصباح الذي ينير عيوننا فتبصر خفايا الظلمة المحيطة بنا ، الروح الذي يحفظ أنفسنا في الحياة ولا يسلم أرجلنا إلى الزلل ،لا نسير دون أن نهتدي بنوره ولا نخطو خطوة دون مشورته ، نمتلئ به وبكلمته ليكون لنا نور الحياة فالنور حلو للعينين !! (يتبع).

 

الثلاثاء، 26 مارس 2024

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (65)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الصورة الأخيرة للروح القدس هي صورة «العين والمصباح» والتي تشير إلى «روح الحق » الذي يزيل الظلام ويكشف حقائق الأشياء، ومن منا يستطيع أن يستغني عن عمل العين والمصباح !! من منا يستطيع أن يسير في الظلام ؟! إننا نحتاج لروح العين والمصباح لعدة أسباب :

أولا : لكي لا نعثر !!

قال رب المجد : « إن كان أحد يمشي في النهار لا يعثر لأنه ينظر نور هذا العالم ، ولكن إن كان أحد يمشي في الليل يعثر لأن النور ليس فيه « (يو 11 : 9 ، 10) الإنسان يعثر حينما تصطدم رجلاه بشيء لم يكن يراه أو يتوقعه ، وكم من أشياء كثيرة في العالم الروحي لا نراها ولا نتوقعها ، أشياء في أعماقنا وأخرى محيطة بنا ، أشياء نابعة من الإنسان وأخرى من الشيطان وثالثة من الله ، ولو سار الإنسان بدون نور المصباح في وسط هذه الأشياء فلابد أن يعثر ويسقط .

النهار ... والليل !!

النهار هو الوقت الذي كان فيه رب المجد على أرضنا يسير ، كان هو النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان وكل من سار معه كان يسير « في النهار »، ولا يمكن أن يعثر ، ولكن بعد رحيل الرب عن عالمنا وحلول الظلام أصبحنا نسير «في الليل» حيث لا يجب أن نتوقع نورا من خارجنا بل لابد أن نحمل النور داخلنا ، في النهار كانت الشمس تشرق حولنا و تسير بيننا وتنير سبيلنا ، أما في الليل فينبغي أن نأخذ مصابيحنا ونخرج للقاء العريس ، تلك المصابيح التي لا تضاء إلا بزيت الروح القدس الساكن فينا ، أي أن مصدر النور أثناء الليل ينبغي أن ينبع من داخلنا ، من روح «المصباح والعين » العامل فينا ، أما من يسير وليس « فيه » النور فلابد أن يعثر، والعثرة قد تأتي من عدة اتجاهات :

من أعماقنا !!

إننا نجهل الكثير مما يدور في أعماقنا ، لا نعرف حقيقة أنفسنا كما يراها الله ، نعتقد في أنفسنا ما ليس بحقيقي ونجهل عنها الكثير مما هو حقيقي ، لذلك نحن نحتاج لروح المصباح والعين الذي يكشف لنا حقيقة أنفسنا ، أما إذا سرنا بدون نور المصباح في داخلنا فقد نفاجأ بما لم نكن نتوقعه من أنفسنا فنعثر ونسقط !!

كان بطرس يعتقد في نفسه ما ليس حقيقياً ، كان يظن أنه يحب الرب حتى إلى الموت بينما الحقيقة التي كان يجهلها أنه يحب نفسه أكثر من أي شيء آخر ، وجهله بنفسه كان سبب عثرته وسقوطه!! لو كان يرى أعماقه ويعرفها لتوقع غدرها وتجنب شرها وسعي لإصلاحها ووضعها بين يدي الرب بانكسار وتوبة ، لكن للأسف عندما واجهه الرب بحقيقة نفسه نراه يرفض النور الذي يكشف أعماقه ويتمسك بفكره عن نفسه (مت 26 : 34 ، 35) ومن يرفض النور لابد أن يعثر ويسقط سقوطاً عظيماً بقدر ما كان اعتقاده عن نفسه عظيماً !!

طوبى للإنسان الذي يعرف حقيقة نفسه !! فلا يحملها مالا تطيق ولا ينتظر منها ما لا تستطيع ، لا يعطيها كرامة لا تستحقها ولا ينتفخ على الآخرين ، يكون الاتضاع سهلا بالنسبة له ويجد طريقه ببساطة إلى أقدام الرب، يتعلم بسهولة ولا يحتاج إلى ضربات موجعة أو سقطات عنيفة حتى يتعلم .

و من الاخرين !!

عدم رؤيتنا الصحيحة للمحيطين بنا تسبب لنا الكثير من العثرة ، فعادة ما يكون فكرنا عن الناس بما يظهر منهم أما حقيقة باطنهم فتبقى مجهولة لنا ، نرسم لهم صورة بحسب كلامهم ثم نصطدم فجأة بما لم نكن نتوقعه منهم فنهتز ونفقد توازننا ونسقط ، نشعر بالأمان والحرية ثم نكتشف أننا مكبلون بقيود وأغلال ، نعقد صداقة مع من نظن أنه ملاك ونفاجأ بأنه شيطان ، نطمئن للشركة مع خروف ثم نراه ذئباً ، والمأساة هي أننا عادة لا نرى الحقيقة إلا بعد الكثير من الخسائر والجروح !!

كم من مرة أسلمنا أنفسنا لقائد ثم اكتشفنا أنه أعمى مثلنا ، لكننا لا نكتشف هذه الحقيقة إلا بعد ان نقع سوياً في الحفرة !! وكم من مرة ألقينا رجاءنا على قوى ثم عرفنا أنه ضعيف مثلنا ، لكننا لم نعرف هذا إلا بعد أن سقطنا سوياً !!

كم من أشراك وفخاخ تحيط بنا من كل جانب ، بعضها بسوء نية من الآخرين وبعضها بسوء تقدير منا ، عدم رؤيتنا لحقيقة الناس والأشياء المحيطة بنا لابد أن تؤدي بنا إلى السقوط في هذه الأشراك ، أما إذا أسلمنا أنفسنا لقيادة روح الحق الذي يخبرنا بكل شيء وينير أمامنا الطريق فلن نعثر لأن النور « فينا » !! كم من «مؤمنين » أحاطوا بالرب لكنه لم يستأمنهم على نفسه ، لماذا ؟ لأنه كان يعلم ما في داخل الإنسان ( يو 2 : 24 ، 25) كم نحتاج إلى مثل هذه المعرفة لكي نتجنب الكثير من العثرات ، وللحديث بقية.

 

الخميس، 22 فبراير 2024

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (64)

بقلم : فخري كرم

بعد أن تتبعنا الصور الرمزية لشخص الروح القدس في الكتاب المقدس ورأينا صورة « الحمامة» التي تحدثنا عن روح الوداعة ، و راقبنا بخشوع صورة «النار» التي تشير إلى روح القداسة والتطهير ، وسمعنا صوت «الريح» التي تخبرنا عن الروح الخفي الذي لا يمكن وضعه تحت المراقبة أو التوقع ، ووقفنا أمام ينبوع «المياه » الحية الذي يرمز إلى روح الشبع والحياة ، وشممنا الرائحة العطرة ل «زيت» المسحة المقدس الذي أشار إلى روح الخدمة والعمل ، وتذوقنا «الخمر» الجيدة التي تشرح لنا تعزية الروح ومعونته لحياتنا ، حان الوقت الآن لنتقدم إلى آخر أسفار الكتاب لنرى آخر الصور الرمزية التي دونت في كلمة الله ، الصورة التي اقتبسنا منها عنوان هذه السلسلة من المقالات ، وهي في الواقع صورة مزدوجة وإن كانت تشير إلى معنى واحد ، ألا وهي صورة :

المصباح المنير والعين الثاقبة!!

« وأمام العرش سبعة مصابيح نار متقدة هي سبعة أرواح الله» (رؤ4: 5)

« ورأيت ...خروف قائم كأنه مذبوح له سبعة قرون وسبع أعين هي سبعة أرواح الله المرسلة إلى كل الأرض « (رؤ5: 6)

والواقع أن هاتان الصورتان - المصباح المتقد بنار والعين - تتحدان في أكثر من موضع مما يؤكد أنهما صورة واحدة مزدوجة تشير إلى معنى واحد :

«هذا يقوله ابن الله الذي له عينان كلهيب نار .. فرس أبيض والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً وعيناه كلهيب نار .. وعيناه كمصباحي نار» (رؤ۲: ۱۸، 19 : 12 ، دا 10 : 6) والجدير بالملاحظة هنا أن النار في هذه الأجزاء ليست نار الفرن التي تمتحن وتطهر التي تكلمنا عنها من قبل ، بل هي النار التي كانت تستخدم لإنارة المصابيح والسرج قديماً ، النار التي تنير الظلمة وتكشف المستور لكي تستطيع العين أن ترى حقيقة الأشياء بوضوح !! العين تستطيع أن تبصر الأشياء الموجودة في النور ، أما الأشياء الموجودة في الظلمة فالمصباح ينيرها لكي تستطيع العين أن تراها أيضا ، إذا فالعين والمصباح هما وسيلة الإنسان لإدراك حقيقة الأشياء المحيطة به ، الأشياء الموجودة في النور وأيضا تلك الموجودة في الظلام ، أي أن صورة المصباح المتقد والعين تريد أن تخبرنا عن الروح القدس باعتباره

روح الحق

أحد الأسماء التي أطلقها رب المجد على الروح القدس هو «روح الحق» ( يو 26 : 15 ، 16 : 13) أي انه الروح الذي يدرك حقيقة كل الأشياء ، لا شيء يخفى عن عينيه ، كل شيء عريان و مكشوف أمامه ، حتى الظلمة لا تظلم لديه ، كالظلمة هكذا النور ، مهما اكتنفت الظلمه حياتي فروح «المصباح» يضيء سراجي و ينير ظلمتي (مز ۱۸: ۲۸) لو قلت الظلمة تغشاني أجد الليل مثل النهار يضيء ( مز ۱۳۹: 11 ، 12) دائرة معرفته لا حدود لها ، فهو يعرف « جميع الحق» (يو 16: ۱۳) ويستطيع أن يعلمنا «كل شيء»  (يو 14: ۲۹) و « كل شيء» هذه تعني :

كل شيء في الأرض

          عيناه تجولان في كل الأرض وتراقبان كل الأمم (۲ أي 16 : 9 ، مز 66: 7)  عيناه مفتوحتان على كل طرق بني آدم ليعطي كل واحد حسب طرقه (إر ۳۲: 19) إنه يعرف جلوسى و قيامي ، يفهم أفكاري المختفية بداخل عقلي ، يعرف دوافعي إذا سلكت ويدرك أهدافي إذا ربضت ، يعرف كل كلمة في لساني قبل أن أنطق بها ، بل أن تلك العينين المباركتين قد رأتا كل أعضائي وعدتا عظامي قبل أن تراني عيني أمي، أين أذهب إذاً من هذا الروح المبارك ؟ أنه يحاصرني من خلف ومن قدام ( مز۱۳۹ ) إنه يعرف كل الحق عن كل ما في الأرض..

.. وفي السماء أيضا !!

يقول الكتاب : «لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله» (1كو ۲: ۱۰) أي أن روح «العين» يرى كل ما يدور في قلب إلهنا المبارك، يعرف كل ما يجول في فكره ومقاصده ، فهو موجود دائماً «أمام العرش» (رؤ4: 5) وفي ذات الوقت هو مرسل إلى «كل الأرض» ( رؤ5: 6) أي أن دائرة علمه تمتد من عرش الله نفسه إلى أطراف الأرض، من أعماق الله وحتى أعماق الإنسان ، من أعماق النور الذي لا يدنى منه في السماويات إلى أعماق الظلمة الحالكة في أقسام الأرض السفلي !! وللحديث بقية .

 

 

 

 

 

 

الأحد، 11 فبراير 2024

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (63)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الله لا يتعامل مع الكيان العتيق الساكن بداخلنا إلا بالموت ، لأن هذا الكيان غير قابل للتعليم أو التدريب أو التغيير ، واليوم نختتم حديثنا ببعض الملاحظات الهامة ، أولها أن موت أو صلب هذا الكيان له جانبان :

شرعي و عملي

عندما يتكلم الكتاب عن هذا الموت بصيغة الماضي باعتباره عملا قد تم بالفعل فهو يتكلم عنه شرعياً أمام الله ، فكما قلنا أن الله أصدر حكم الموت على هذا الكيان يوم أصدر حكم الموت على البديل ، ربنا يسوع المسيح ، صليب المسيح قد وضع هذا الكيان الأثيم في حكم الموت أمام الله مرة واحدة و إلى الأبد ، وعلى هذا الأساس يقبلنا الله ويتعامل معنا كأناس تم فيهم حكم الموت شرعاً !!

أما عندما يتكلم الكتاب عن هذا الموت باعتباره عملاً حاضراً ينبغي أن يتم كل يوم فهو يتكلم من وجهة النظر العملية ، فالحكم الشرعي الذي تم تنفيذه في شخص البديل لابد أن تظهر آثاره عملياً في حياتنا ، وموقف الله من هذا الكيان شرعاً لابد أن يكون هو نفسه موقفنا العملي اليومي ، إذا كنا قد قبلنا موت المسيح كنائب عنا فنحن إذا قبلنا ضمنيا موت إنساننا العتيق معه، لذلك لا ينبغي أن ندعه يحيا فينا بعد أو يمارس سلطانه على حياتنا .

والرسول يجمع الجانبين معا في عدة مواضع ، مثل قوله : «عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ( شرعا ) ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضا للخطيــة (عملياً ) » (رو6: 6) وهذا يقودنا بالضرورة إلى الملاحظة الثانية ألا وهي :

الموت لا يعني التلاشى !!

          أحيانا نظن بالخطأ أن « موت » الإنسان العتيق يعني عدم وجوده، ولعل هذا الظن يرجع لمفهوم الموت في حياتنا العملية، فعندما نقول عن شخص ما أنه مات فهذا يعني أنه لم يعد موجوداً بيننا ، لكن الأمر ليس هكذا في موضوع الإنسان العتيق!! فالكتاب لا يعلمنا أن صلب الإنسان العتيق مع المسيح يعني أنه لم يعد موجوداً اليوم في حياتنا العملية ، ولا يعلمنا أن إماتته عملياً في أرض الواقع ستصل إلى حد أنه لا يعد موجوداً ، فالموت لا يعني في كلمة الله التلاشي ، ولن يأتي يوم لا نشعر بوجود هذا الكيان بداخلنا ، فهذا الكيان باق حتى نتحرر منه بالخروج من الجسد والاستيطان عند الرب ، إذا ما معنى موت هذا الكيان؟

الموت هنا يعني فقدان السلطان على حياتنا ، لا تصبح لهذا الكيان فيما بعد القدرة على تسيير أمورنا والتحكم فيها ، تصير أفكاره ومواقفه وأعماله مرفوضة منا وغير مطاعة، إنه موجود ولكنه غير مؤثر ، يشبه الملك الذي كان يوما مسيطراً على الحياة لكنه أنزل عن عرشه ووضع في سجن وأغلال لأن الحياة صارت لملك آخر !! هذا هو معنى كلمة «يبطل» في (رو6:6) أي لا تعود له القدرة أو السلطان ، إن الروح يميت فينـا « أعمال الجسد وليس الجسد نفسه ، الروح يعتقنا من « ناموس» ( أي سلطان ) الخطية والموت ولكنه لا ينزع منا الكيان القابل للخطأ !! وهذا يقودنا للملاحظة الثالثة :

مسئولية مشتركة

مسئولية وضع الإنسان العتيق في حكم الموت تقع عملياً على كل من المؤمن وشخص الروح القدس ، مسئولية الروح هي القوة والسلطان ومسئولية المؤمن هي الإرادة والاختيار، فالمؤمن لا يستطيع بقواه أن ينتصر على جسد الخطية والله لا ينتظر منه هذا ، الروح فقط هو المسئول عن مقاومة هذا الجسد (غل 5 : 17) فناموس الخطية والموت لا يستطيع أن يعادله وينتصر عليه إلا ناموس آخر هو ناموس روح الحياة (رو ۸: ۲) الروح وحده هو الذي يميت أعمال الجسد (رو8: ۱۳) هذه هي تعزية ومعونة الروح لنا في معركتنا مع الإنسان العتيق .

لكن المؤمن يشارك في المسئولية بإرادته واختياره ، فالروح لن يستطيع أن يميت أعمال الجسد إذا كنا نحن نقبلها ونتعاطف معها ، لو لم يقتنع المؤمن تماما أن كيانه العتيق مرفوض من الله ويشترك مع الله في هذا الرفض ، ويقبل ويخضع لسلطان الروح داخله وهو يقاوم الجسد فلن يستطيع الروح أن يفعل شيئا !! بدون معونة الروح لن يستطيع الإنسان التحرر من جسد الخطية ، وبدون إرادة الإنسان لن يستطيع الروح أن يحرره!!

لو كنا لا نزال نعاني من هذا الكيان الساقط فالقصور بكل تأكيد ليس من جانب الروح بل من جانب إرادتنا المنقسمة التي تعرج بين الفرقتين!! مازلنا غير مقتنعين بفسادنا ومازلنا متعاطفين مع ذواتنا ، ليت الله يقنعنا بأنه لا يسكن فينا شيء صالح حتى نرفض ونندم في التراب والرماد ونخضع برضا وسرور لمعاملات الروح معنا ، تاركين له الفرصة الكاملة حتى يعطينا الغلبة على هذا الكيان الأثيم ، إنه الروح المعزى الذي أتى لكي يعين ضعفنا ويصنع منا أناس بحسب مشيئة الله ، له كل المجد (يتبع)