الثلاثاء، 3 يونيو 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (1)
فخرى كرم
«للسكوت وقت وللتكلم وقت» (جا3: 7)
البلاغة هي القدرة على «ابلاغ» المعنى للمتلقِّي، وكلما كان الإنسان قادراً على توصيل المعنى الذي يقصده للآخرين بدقة وبوضوح كلما كان «بليغاً»، ولا شك أن البشر يتفاوتون في درجة بلاغتهم تفاوتاً كبيراً، ففئة الأدباء والشعراء هم أكثر الناس قدرة على تبليغ المعاني والمشاعر التي تختلج داخلهم للآخرين، يمتلكون أدواتهم من الألفاظ والتشبيهات والصور الذهنية التي يستخدمونها بحِرَفية وبراعة لتوصيل أفكارهم للآخرين، فالأديب الحقيقي اذا قرأت له أو استمعت إليه تجد نفسك قد امتلأت بفكر وأحاسيس ووجهة نظر جديدة لم تكن تمتلكها من قبل، ولكن هناك آخرون أقل بلاغة من هؤلاء يجدون صعوبة في توصيل ما يقصدونه للآخرين ولا تستطيع التواصل معهم إلا بمعاناة، ناهيك عن بعض الناس الذين تنقصهم البلاغة تماماً حتى أنك تصاب بالارتباك والضجر إذا حاولت فهمهم وبالتالي تفضِّل الابتعاد عنهم وتجنُّب الحديث معهم!!  
وللبلاغة وسائط كثيرة وإن كان أشهرها هو الألفاظ والكلمات، حتى ظن البعض ان فن البلاغة قاصر على الأدب المكتوب، لكن هناك مَن يستطيع أن يكون بليغاً ويعبِّر عما بداخله بتعبيرات وجهه أو بابتسامته الرقيقة أو بصرخة غضب مكتوم أو بحركة معبِّرة من جسده، حتى أن الكثيرون من أشقائنا في المجتمع من أصحاب الإعاقة أصبحوا يتواصلون بلغة الإشارة التي تتكون من مجموعة من الحركات الجسدية المقنَّنة، ومن أشهر فنون البلاغة هو فن الباليه الذي يعتمد على الموسيقى المصاحبة لحركات الجسد الرشيقة للتعبير عن المعاني المقصودة دون استخدام للكلمات والألفاظ إلا في أضيق الحدود.
لكن ما لا يعلمه الكثيرون هو أن السكوت أحياناً يكون أكثر بلاغةً من أي كلمات أو تعبيرات، والشخص الحكيم حقاً يعلم أن للسكوت وقت كما أن للتكلُّم وقت، والبليغ فعلاً يعرف أن يعبِّر بسكوته عما لا تستطيع الكلمات أن تعبِّر عنه، وما لا يعلمه الكثيرون أيضاً أن الجاهل هو الذي يُكثر الكلام (جا10: 14) كما أن كثرة الكلام لا تخلو من معصية (أم10: 19) وأن مَن يحب أن يتخذ موضع المُعلِّم ويتكلم كثيراً يأخذ دينونة لنفسه لأنه في أشياء كثيرة نعثر جميعنا (يع3: 1، 2)

وللأسف فإن احدى الآفات التي أصابت مجتمعنا المصري في الآونة الأخيرة هي كثرة الكلام، وللأسف أيضاً أن الكنيسة لم تنجو من هذه الآفة المدمرة، أصبح الكلام سلعة تُباع وتُشترى، بل أصبح الكلام حرفة للبعض تجلب لهم الرزق، وأصبح التنافس بين الجميع على مَن يستطيع أن يتكلم أكثر من الآخرين ومَن يرفع صوته فوق الآخرين، أصبحنا نشعر أننا في «مكلمة» كبيرة تبتلع الأمة كلها وتصيبها بالارتباك والانقسام والتشرذم، كل هذا يحدث بينما الواقع على الأرض يتدهور من سيء إلى أسوأ في كل يوم، مما يعطي مؤشراً واضحاً لكوننا لا نفهم القيمة الحقيقية للكلام والهدف منه ومدى جدواه، ومما يؤشِّر أيضاً لكوننا نحتاج أن نفهم قيمة السكوت وبلاغته وتوقيت اللجوء إليه، وهذا ما سنحاول أن نناقشه في المرات القادمة مسترشدين بكلمة الله التي تُنير وتُعقِّل الجُهَّال (يتبع)