السبت، 4 أبريل 2020

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (39)
بقلم : فخرى كرم

«كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» (مت6: 12)
في (مت18: 23-35) يحكي لنا الرب مثلاً يشرح فيه الرابط بين غفران الله الأبوي لذنوبنا وغفراننا نحن للمذنبين إلينا، في هذا المثل نرى عبداً مديوناً للملك بمبالغ طائلة لا يمكنه سدادها بأي حال من الأحوال، وكان الحُكم العادل أن يُباع هو وأسرته وممتلكاته لكي يُوفى الدين، وأن «يُباع» تعني أن يُخرجه الملك من دائرة ملكيته إلى ملكية سيد آخر، أي أن تنقطع علاقته بسيده إلى الأبد، وهذا العبد يشبه كل واحد منا في حالة المديونية الأبدية لله، أجرة خطايانا كانت تحتم أن ننفصل عن الله إلى الأبد ويمتلكنا سيد آخر الذي هو إبليس ونُطرح معه في الظلمة الخارجية، وهذه الأجرة تحتاج إلى غفران أبدي.
 وأمام عجز وتوسل هذا العبد لسيده لكي يرحمه من هذا المصير المرعب نجد الملك يقدم نعمة عظيمة لعبده، نجده يقدم له غفراناً أبدياً لخطيته ويمنحه عفواً لمديونيته ويطلق سراحه بلا قيد أوشرط!! إنها صورة جميلة لنعمة الله التي اتجهت لنا في المسيح، النعمة المجانية التي تغفر لنا خطايانا مهما كان حجمها وتعطينا تبريراً كاملاً من ثقل مديونيتنا الأبدية، وهذا الغفران الأبدي مجاني وليس له مقابل سوى أن نعترف بعجزنا ونضع ثقتنا في رحمة الله التي ظهرت في الصليب!!
لكن كان من البديهي والمتوقع أن تنشيء هذه النعمة الغنية إحساساً عميقاً بالشكر والإمتنان في قلب هذا العبد، وأن يدفعه هذا الإحساس للاقتراب أكثر من سيده والإلتصاق به وتنفيذ مشيئته وأفكاره، وإذا كان هذا العبد قد أدرك أن مشيئة سيده هي الرحمة والغفران للمذنبين فكان البديهي أن نراه يحب هذه المشيئة ويسعى في كل حياته لتقديم الرحمة والغفران للمذنبين، وهو لا يفعل هذا من عندياته بل من الرحمة والغفران الذي أخذهما من سيده، إنه في الحقيقة يسعى فقط لتمرير النعمة التي أخذها إلى الأخرين، فالإنسان لا يمكنه أن يكون مصدراً للنعمة لكن أقصى ما يستطيعه أن يكون قناة تنتقل فيها نعمة الله للأخرين!!
لكن للأسف يحكي لنا السيد أن هذا العبد لم يقدّر نعمة الملك ولم يلتصق بقلبه ولم ينفذ مشيئته الغافرة للمذنبين، بل اختار أن يضع نفسه في موضع غريب ويقف في أرض بعيدة عن أرض سيده، اختار أن يتخذ موقف الدائن الذي يطالب بالدين دون رحمة أو غفران، أحب أن يقف على أرض القسوة والتلذذ بتذكير الأخرين بمديونيتهم وعجزهم، وما أبعد المسافة التي تفصل هذه الأرض عن الأرض التي يقف عليها إلهنا الرحوم!!
كان موقف هذا العبد من العبد رفيقه موقفاً خاطئاً يحتاج إلى غفران جديد من الملك، ليس الغفران الأبدي هذه المرة بل الغفران الأبوي الذي يعيده للشركة والتوافق مع ارادة سيده، لأن هذا الموقف حدث في دائرة ملكوت السيد وتجاه عبد من عبيده، وهذا الموقف الردئ ينشر في ملكوت السيد روحاً غريبة ومضادة لروح السيد نفسه، أي أن هذا العبد عندما اختار أن لا يغفر للعبد رفيقه كان في الحقيقة يقاوم مشيئة الملك ويمنع انتشار روح نعمته في دائرة ملكوته!! لكن هل من المعقول أن ننتظر من السيد أن يغفر لهذا العبد خطأه تجاه العبد رفيقه طالما ظل هذا العبد واقفاً في هذه الأرض المضادة لمشيئة سيده؟ بالطبع كلا!! لذلك نرى السيد لا يغفر لهذا العبد خطأه الجديد بل يأمر بتعذيبه حتى يتوب ويصحح موقفه من السيد أولاً ثم من العبد رفيقه ثانياً!! إن غفراننا للأخرين يعني أننا نقدّر غفران الله لنا ونختار أن نرتبط به ونعمل مشيئته ونمرر نعمته للأخرين، وهكذا يمكن لله أن يغفر لنا ذنوبنا ويعيدنا إلى شركته الأبوية!! وللحديث بقية (يتبع)