الخميس، 5 يوليو 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (18)
بقلم : فخرى كرم
«فاترك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك» (مت5: 24)
عندما أعطى الله الناموس قديماً كان هدفه هو الوصول بشعبه إلى حياة تحب «الحق والرحمة والإيمان» (مت23: 23) فهذا هو جوهر الناموس وأثقله على النفس البشرية التي لا تحب بطبيعتها الساقطة الحق والرحمة والإيمان، حتى أن ربنا لخَّص لنا وصايا الناموس كلها في وصيتين عُظمتين: «تحب الرب إلهك» و«تحب قريبك كنفسك» (مت22: 37-40) لو أحب الإنسان الرب إلهه من كل القلب وأحب قريبه كنفسه يكون قد وصل إلى جوهر الناموس وتمَّم مقصده الحقيقي، ولابد أن تمتلئ حياته بالقيم والسلوكيات العملية المتفقة مع الحق والرحمة والإيمان، وسيجد نفسه يتمم كل وصايا الناموس ببساطة وتلقائية بدون معاناة أو تظاهر.
لكن الإنسان دائماً يحاول الالتفاف على وصايا الله وتجريدها من جوهرها ومضمونها الحقيقي!! فترك قادة الشعب جوهر الناموس وأثقله واهتموا بالحفاظ على ظاهر الوصايا التي يراها الناس، خلت قلوبهم من محبة الله والقريب ولكنهم أمعنوا في اظهار تدقيقهم في تعشير النعنع والشبث!! اهتموا بتقديم الذبائح في الهيكل أكثر من اهتمامهم برحمة الأبوين واكرامهم!! والسبب وراء هذا الاهتمام بالعبادة الظاهرية هو رغبتهم في الوصول الى «البر» في عيون الناس وليس «البر» في عيني الله، حتى أن ربنا واجههم بتشخيص دقيق لحالتهم بقوله «هكذا أنتم أيضاً تظهرون للناس أبراراً ولكنكم من داخل مشحونون رياء وإثماً» (مت23: 28)
واهتمام الانسان بحصوله على صفة «البر» في عيون الناس يهدف الى المصلحة الشخصية، فهذا البر يعطيه سلطاناً على نفوس الناس وقدرة على التحكم بهم وتسييرهم بحسب هواه، ويجعله يجني الكثير من المكاسب المادية من وراء انجذابهم خلفه، أما البر في عيني الله فلا يعطي صاحبه كل هذه المكاسب الشخصية والمادية، فلذلك لا يهتم الانسان الساقط كثيراً بأن يكون باراً في عيني الله!!
في موعظة الجبل يؤكد ربنا لسامعيه على جوهر الوصية ومضمونها رغبة منه في تكميل الناموس والوصول به إلى غايته الحقيقية، ولكي يؤكد على حقيقة أن الله يهتم في المقام الأول بمضمون الوصية وليس بمظهرها أدهش ربنا سامعيه بقوله «ان قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك»!! ربنا يؤكد هنا أن الله يعنيه أن يكون هناك سلام في الخفاء بين الأخوين أكثر مما يعنيه أن يتصاعد دخان الذبيحة الى السماء أمام عيون جمهور العابدين!! الله يهتم أن يتنسم رائحة سرور من المحبة المتبادلة بين القلوب أكثر مما يهتم برائحة الشواء التي تملأ الانوف!!
ولنلاحظ أن ربنا لم يقل إن التصالح مع الأخ يُغني عن تقديم الذبيحة، بل بعد التصالح لابد أن يعود ويقدم ذبيحته، فتحقيق جوهر الوصية ليس بديلاً عن الاهتمام بتطبيق الجانب الظاهر للوصية، فربنا لم يأت لينقض أياً من وصايا الناموس بل ليصل بها إلى الكمال، السر كله يكمن في كلمة «أولاً»، فلابد أن نعرف ترتيب الأولويات في عيني الله، الباطن أولاً ثم الظاهر، الخفي أولاً ثم المُعلن، المحبة والحق والرحمة والإيمان أولاً ثم الطقس، وللحديث بقية (يتبع)