الجمعة، 2 مارس 2018

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (14)
بقلم : فخرى كرم
«لكن إن فسد الملح فبماذا يُملَّح؟ ..لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعةعلى جبل ولا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال» (مت5: 13، 15)

كل امتياز يحمل في طياته مسئولية وكل نعمة تستلزم بالضرورة جهاد!! ولذلك أضاف الرب في حديثه عن امتيازات أبناء الملكوت إشارات واضحة عن مسئولياتهم وتحذير شديد من فشلهم في القيام بها، فإذا كان من امتياز أبناء الملكوت أنهم ملح للأرض فمسئوليتهم أن لا يفقدوا ملوحتهم، وإن كانوا نوراً للعالم فينبغي ألا يختفوا عن عيون الناس!!
تكلمنا قبلاً عن معنى «الملح» و«النور» ولكن تحذيرات الرب تدفعنا لنسأل عن مصدرهما، من أين نكتسب الملح والنور؟ هل أبناء الملكوت يحملون في ذواتهم البشرية أي ملح أو نور؟ كلا البتة، فأبناء الملكوت مثلهم مثل سائر البشر لا يمتلكون في ذواتهم أي صلاح (مت19: 17) إن مصدر الملوحة والنور هو روح الله الذي يحل في داخلهم بالإيمان بالمسيح، روح الله هو الذي يحمل طبيعة الله الصالحة المنيرة إلى أعماقنا المظلمة، روح الله هو وحده مصدر الملوحة التي تصنع الخير في حياة الناس وتقاوم انتشار الفساد بينهم، روح يسوع فقط هو النور الحقيقي الذي يطرد الظلمة وينير البصائر والأذهان. 
الملح يفسد من داخله أما النور فيُحجب عن الأنظار بعوامل خارجية مثل المكيال، إذاً فالرب يحذرنا هنا من خطر مزدوج: داخلي وخارجي!! الداخلي هو توقف عمل روح الله في داخلنا، والخارجي هو فشلنا في اظهار هذا العمل للآخرين. إذاً فأبناء الملكوت لابد أن يسيروا زمان غربتهم بخوف مزدوج، الخوف من أن يفقدوا تقديس الروح المستمر في داخلهم والخوف من فشل ارساليتهم للعالم، وطالما استمر هذا الخوف المقدس يلازمهم استمرت حياتهم مملحة بملح مشرقة بنور للعالم.

† الخطر الداخلي: إذا تهاون المؤمن في تعامله مع روح الله وتسبب ذلك في حزن الروح أو إنطفائه فسوف يفقد المؤمن فوراً تأثيره كملح للأرض، ولا توجد أي قوة تستطيع أن تعيد الملوحة للقلب الذي انطفأ فيه عمل الروح، فكل قوى النفس والجسد لا يمكنها أن تعوض غياب قوة الروح القدس، ولو ظن المؤمن المستهين أنه يستطيع بمهارته ومواهبه الطبيعة أن يعوِّض غياب عمل الروح القدس فهو واهم، والحقيقة أنه لم يعد يصلح لشيء إلا أن يُطرح خارجاً ويُداس من الناس!!
وكم من أمثلة نعرفها عن مؤمنين كانت حياتهم مؤثرة في العالم حينما كان لروح الله سلطاناً على الحياة وبعد انحسار هذا السلطان الإلهي اختفى تأثيرهم الإيجابي على حياة الآخرين رغم بقاء نشاطاتهم ومواهبهم الطبيعية كما هي، بل أحياناً قد يلجأ المؤمن لزيادة النشاط والاجتهاد في محاولة لتعويض لمسة الروح وتأثيره، ولكن هيهات!! فالرب يؤكد أن الملح إذا فسد لا يمكن لأي شيء على الأرض أن يُصلحه لأن مصدر الملوحة إلهي وليس انساني!!
الحل الوحيد للمؤمن الذي فقد ملوحته هو أن يتوب عن استهانته ويرجع يضع حياته مرة أخرى تحت سلطان الروح القدس، وإذا عاد سلطان الروح وعمله في القلب أعاد خلق ملوحة جديدة في الحياة، لا تضيع وقتك في محاولة اصلاح الملح الذي فسد لكن أطلب من الروح ملئاً جديداً وملحاً جديداً!!

† الخطر الخارجي: قد لا يخطئ المؤمن ضد الروح العامل بداخله لكنه يسمح للظروف والمخاوف الخارجية أن تمنع شهادته عن عمل الروح داخله، وهذا أيضاً فشل مؤلم!! لقد بنى الرب كنيسته على جبل لكي يراها العالم كله، أراد الرب لنوره الذي تركه في الكنيسة أن ينتشر إلى كل الناس، لم يوقد الرب سراج الكنيسة لكي يضعه تحت مكيال المشغوليات بل على منارة الشهادة ليضيء لجميع الذين في البيت، أرسل تلاميذه إلى العالم أجمع ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، طلب منهم أن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم ويعلِّموهم أن يحفظوا جميع وصاياه، أمرهم أن ينادوا على السطوح بكل ما سمعوه منه في المخادع، لم يطلب الرب قط من تلاميذه أن ينكفئوا على أنفسهم ويحجبوا نوره عن الآخرين!!

آه، كم أخطأنا في حق الرب وفي حق أنفسنا حين سمحنا لهموم العالم ومخاوفه أن يحجبوا نور الروح الذي أشرق به داخلنا ومنعنا وصوله للآخرين!! كم من مكيال مشغولية وُضع على مصباحنا وكم من جدران مخاوف بناها العدو في محاولة لإخفاء المدينة التي وضعها الرب على جبل!! ليت الرب يوقظ كنيسته لتعود ملحاً للأرض ونوراً للعالم!! وللحديث بقية (يتبع)