السبت، 6 مارس 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (49)

بقلم : فخرى كرم

 

«سراج الجسد هو العين» (مت6: 22)

يستطرد الرب ليذكر لنا سبباً رابعاً يمنعنا من اكتناز المال ووضع رجائنا عليه:

(4) خطورة فقدان العين البسيطة:

في هذا الجزء الهام من موعظة الجبل لا يتكلم ربنا عن العين الخارجية للجسد بل بالأحرى عن «وجهة النظر» الداخلية التي ننظر بها إلى الأشياء المحيطة بنا، ووجهة النظر هذه هي التي تنير أو تظلم كياننا النفسي الداخلي، فالعين البسيطة هي وجهة النظر المستقيمة التي ننظر بها فنرى كل الأشياء في حقيقتها كما يراها الله، أما العين الشريرة فهي التي ترى كل الأشياء بطريقة مركبة ملتوية لا تتفق مع حقيقتها.

العين البسيطة ترى أن المال وسيلة لعمل الخير لأنفسنا وللآخرين وليس غاية في حد ذاته، العين البسيطة ترى أننا مجرد وكلاء على المال ولسنا مالكين له، لا يجوز لنا أن نحجبه عن محتاج أو نمنعه عن سائل، العين البسيطة ترى بوضوح أن السعادة ليست في المال بل في فعل مشيئة الله ومرضاته، أي أن اكتناز المال لا يضمن أي سعادة في الحاضر أو في المستقبل، لأنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله.

 العين البسيطة ترى النفس الإنسانية ثمينة لأنها مخلوقة على صورة الله بغض النظر عن ما تملكه من متاع هذه الحياة، ووجهة النظر هذه تجعلنا نقدِّر ونحب ونخدم الجميع على قدم المساواة بعيداً عن الممتلكات والأوضاع الإجتماعية، النظرة البسيطة هذه تحفظ كياننا النفسي من الشعور بالصغر تجاه البعض أو الشعور بالتعالي تجاه البعض الآخر، باختصار أن العين البسيطة تجعل كياننا كله منيراً!!

أما إذا أحببنا المال واعتقدنا أن أماننا في اكتنازه فنحن نمتلك العين الشريرة!! العين الشريرة لا ترى الأمور على استقامتها ولا تبصر حقيقة الأشياء كما يراها الله، العين الشريرة ترى أن قيمة الإنسان بحجم ما يملكه من أموال، وأنه كلما امتلك أكثر كلما صار أكثر قيمة في نظر نفسه والآخرين، هذه العين لا تستطيع أن ترى الناس سواسية ولا تعرف أن تتعامل معهم على نفس المستوى، هذه النظرة تجعل النفس الداخلية لا تشعر بالهدوء والسكينة بل هي دائماً في حالة صراع ومقارنة مع الجميع، إما أن تنتفخ بالغرور الباطل أو تنبطح تحت الإحساس بالصغر والدونية، بالاختصار هذه النظرة تجعل النفس دائماً مظلمة لا تنعم أبداً بالسلام!!

الابن الأصغر في (لو15) امتلك هذه العين الشريرة التي جعلته يرى الأمور على غير حقيقتها، رأى أن الحياة في كنف الآب مملة ورتيبة وليست بها سعادة، وأن السعادة الحقة في امتلاكه للمال وانفاقه على المتع والملذات، وهذه النظرة ملأت نفسه ظلمة وقسوة وجحود، فأخذ المال من أبيه وذهب إلى كورة بعيدة وأنفقه بعيش مسرف، وعندما اصطدم بالواقع المرير بدأ يرجع إلى نفسه ويبصر الأشياء مستقيماً، فرأى بوضوح أن السعادة لم تكن يوماً في امتلاك المال بل في الوجود في طاعة الآب ورضاه، وعندئذ بدأ طريق الرجوع إلى بيت الآب حيث السعادة الحقيقية.

أخشى أن الكثيرين من المؤمنين اليوم يعانون من العين الشريرة، والدليل هو الإظلام والتعب والغيرة التي تملأ قلوب الكثيرين، عدم وجود سلام بين أعضاء الكنيسة الواحدة، الكل ينظر إلى ما يملكه الآخرين!! إننا نحتاج أن نراجع أنفسنا في ضوء كلمات ربنا الفاحصة ونعود إلى العين البسيطة التي ترى أن قيمتنا وسعادتنا الحقيقية هي في وجودنا في طاعة الآب وليست فيما نمتلكه من أموال!! وللحديث بقية (يتبع)