الجمعة، 9 ديسمبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله ( 26 )

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن الرب تعامل مع الإنسان بروح الوداعة أولا ثم بروح القداسة والقضاء ثانياً، زرع بنعمته في البداية ثم طالب بالحصاد أخيراً، والحق أن هذا هو أسلوب تعامل الله مع الإنسان منذ بدء التاريخ وحتى يومنا هذا، وأول ما نرى هذا الأسلوب نراه في:

جنة عدن

 بدأ الله تعامله مع آدم - ممثلا للجنس البشری - بنعمة غامرة وعطاء بلا حدود ، قبل أن يخلقه صنع له كل ما يلزم للحياة السعيدة، خلق لأجله الأرض والسماء وملأها بالكائنات الحية من كل صنف ونوع، وغرس له جنة ووضعه فيها، وقبل أن يطالب الله بحقه أعطى للإنسان كل حقوقه - إن جاز لنا القول أن للإنسان حقوقاً - أعطاه حق التمتع والشبع بكل شجر الجنة، وحق التسلط والسيادة على كل الأرض، وحق الصحبة والمعونة إذ خلق له حواء معينة نظيره، بل أعطاه حق الاختيار عندما غرس في وسط الجنة شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشر، وكان الوصول إليهما متاحاً وسهلا، فالله لن يطلب الطاعة من إرادة مقيدة بل من إرادة حرة تملك أن تخطىء كما تملك أن تصيب!!

أليست هذه هي روح الوداعة التي تعطى للإنسان حقه كامل غير منقوص ؟ أي حق للإنسان لم يأخذه بل أي خير لم ينله بفيض ووفرة ؟ عندما يطالب الله الإنسان بأي شيء بعد ذلك فهو يطالبه مما سبق وأعطاه له، وعندما ينتظر منه محبة فهي لن تكون سوى رد فعل زهيداً لمحبة الله الكاملة وعندما يتوقع منه الطاعة فلأنها أقل مقابل للحرية والمجد اللذين كلله بهما.

بل إن روح الوداعة لم تكن تجاه آدم فحسب بل حتى تجاه الحية أحيل جميع حيوانات البرية!! لقد منحها الفرصة لكي تشتكي عليه ـ له المجد ـ وتنسب له ظلمة وتفسد بمكرها ذهن المرأة، أي وداعة تلك التي غلفت جنة عدن !! حتى إن من أراد أن يخطىء تجاه الله ما كان يجد أي مانع!! لكن لا شك أن بعد روح الوداعة هذه لابد أن يأتي الله بروح آخر.

روح القضاء

بعدما أخذ الإنسان فرصته الكاملة ومارس حقوقه كما أراد حان الوقت الذي ينبغي فيه أن يأخذ الله حقوقه ويمارس سلطانه، فوجدنا الرب الإله يأتي إلى الجنة بروح القضاء ويمارس سلطانه في إدانة الخطية، ورأيناه يعاقب آدم وحواء والحية كلا بحسب خطئه، ونلاحظ أن أحدا منهم لم يعترض على القضاء أو يطالب برأفة لأن كلا منهم يعلم أنه أخذ فرصته كاملة وأنه كان كامل الإرادة وحر الاختيار عندما أخطأ ، ونلاحظ أيضا أن روح القضاء كان مقترناً بصورة رمزية معبرة وهي:

 

لهيب سيف متقلب

أول مرة نرى فيها النار في الكتاب المقدس نراها عندما أقام الرب الإله لهيب سيف متقلب الحراسة طريق شجرة الحياة، وعندما يقترن اللهيب بالسيف في صورة رمزية واحدة فلكي يعبر لنا عن حق روحي مزدوج وهو أن قداسة الله (اللهيب) تطالب بالموت (السيف) قصاصاً لخطية الإنسان، لقد باتت قداسة الله وقضاؤه هما العقبة في طريق شجرة الحياة !! وأصبح الإنسان مفصولا عن الحياة الأبدية ولا يجرؤ على الاقتراب منها، لأنه إذا أراد أحد أن يصل إلى الحياة فعليه أن يجتاز لهيب قداسة الله وسيف عدالته، ولأن «كل» ما في الإنسان يستوجب الموت بحسب قداسة الله، لأنه لا يسكن فيه شيء صالح، لذلك فالهلاك هو مصير كل من يقترب من سيف النار المتقلب، وإذا اجتاز لهيب قداسة الله فسوف يحتــــرق « كله » ولن يبقى فيه ما يعبر إلى الحياة.

إلى أن جاء الشخص الوحيد الذي استطاع أن يجتاز لهيب السيف المتقلب ويبقى حياً، اشتعلت «نار» قداسة الله في قلبه حتى ذاب كالشمع في وسط أحشائه (مز 22 : 14 ) واستيقظ « سيف » القضاء عليه فضربه إلى الموت (زك 13 : 7 ) (فالسيف كان نائماً منذ خروج آدم من الجنة لأن أحدا لم يجرؤ على الاقتراب منه!) وبعدما اجتاز هذا الشخص المبارك في لهيب السيف المتقلب حاملا لخطايانا ونائباً عنا وجدناه يقوم من الموت في ملء الحياة، لم تنته حياته في لهيب قداسة الله بل استطاعت أن توفي قصاص الله ومع ذلك تبقى حية، لأنه إن كان يحمل على كاهله خطايانا التي تستوجب الموت فقد كان يحمل أيضا في داخله طبيعة طاهرة أرضت قلب الآب وسرته، لهذا السبب لم يكن ممكناً أن يمسك من الموت.

وبعدما اجتاز الرب يسوع - له المجد - لهيب السيف المتقلب صار الطريق إلى شجرة الحياة مفتوحاً مرة أخرى لكل من ارتبط بشخص المسيح واستتر فيه (رؤ 2 : 7 ) وهؤلاء لن يؤذيهم السيف الملتهب لأنه «لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع» (رو 8 : 1) لأنه - بالنسبة لهم فقط - قد انطفأت النار في دماء المخلص وانكسر السيف في جسده الكريم !! (يتبع).

 

الخميس، 1 ديسمبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (25)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن الله شاء في حكمته أن يتعامل مع الإنسان بروح الوداعة أولا ثم بروح القداسة، والحق أن هذا هو أسلوب الله في التعامل مع الإنسان دائماً، التعليم أولا ثم الامتحان، فرصة التوبة أولا ثم القصاص، الزرع أولا ثم الحصاد ، وهذه هي حكمة الله وعدالته أيضأ، فعدالة الله لن تمتحن الإنسان بخصوص شيء لم يتعلمه مرة ومرات، ولن تقتص من خطية إلا بعد أن تمنحه نورا كاشفاً على هذه الخطية ووقتاً كافياً للتوبة عنها، وعدالة الله لن تطلب أن تحصد ما لم تزرعه النعمة في قلب الإنسان، الله لا يطالب الإنسان بشيء من عندياته لأنه يعلم أن الإنسان لا يمتلك شيئا إلا خطاياه، إن ما تزرعه روح الوداعة هو ما تحصده روح القداسة، وما تعلمه لنا روح الوداعة هو ما تصعد به روح القداسة بخوراً طيباً أمام الله.

مثل الحنطة والزوان

وضح لنا الرب في مثل الحنطة والزوان (مت 13 : 24 ـ 30 ) أن ملكوت السموات يمر دائماً بمرحلتين هما الزرع والحصاد ، ولكل مرحلة سماتها الخاصة:

مرحلة الزرع تتميز بالاختلاط، فنجد الإنسان الصالح الذي زرع زرعا جيدا في حقله كما نجد الإنسان العدو الذي زرع الزوان في وسط الحنطة، ونرى الحنطة التي نمت وأخرجت ثمرأ جيداً كما نرى الزوان الذي نما أيضا وأخذ شكل الحنطة ولكن بلا ثمر. أما مرحلة الحصاد فتتميز بالحسم والفصل، فالاختلاط لا يمكن أن يستمر بلا نهاية بل لابد أن يصير الفرق واضحاً بين الزرع الجيد الذي زرعه صاحب الحقل والزرع الرديء الذي زرعه الإنسان العدو، بين الحنطة النافعة والزوان الباطل.

مرحلة الزرع تتميز أيضا بالوداعة والصبر ، الوداعة التي أعطت الفرصة للإنسان العدو أن يزرع زرعه وسط الحنطة، الوداعة التي أعطت للحنطة الفرصة الكافية للنمو كما أعطت للزوان ذات الفرصة!! الوداعة التي تصبر على نبات مصيره إلى الحريق!! أما مرحلة الحصاد فتتميز بالقضاء والحكم، فلابد للحنطة أن تجمع إلى المخازن أما الزوان فيحرق بنار، وهذا ما قلناه عن عمل النار التي تمتحن طبيعة الأشياء فتحرق الرخيص وتزگی الثمين.

يوحنا المعمدان

تنبأ يوحنا المعمدان عن عمل الروح في حياة الرب في هاتين المرحلتين، تنبأ عن مرحلة الزرع عندما قال «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1 : 29 ) فحبة الحنطة لابد أن تسقط في الأرض وتموت قبل أن تأتي بثمر كثير، وهذه المرحلة لابد أن تتميز بالوداعة والصبر (الحمل) وتنبأ أيضا عن مرحلة الحصاد عندما قال عن الرب «الذي رفشه في يده و سينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ » (مت 3 : 12 ) هذه هي مرحلة الحصاد التي تتميز بالفصل والحكم.

ولكن يبدو أن طبيعة إرسالية يوحنا النارية جعلته يميل أكثر إلى مرحلة الحصاد في إرسالية الرب ويتطلع بشغف لحدوثها ويتخطى ببصره مرحلة الزرع الطويلة والمضنية، ولذلك كاد يعثر في الرب عندما طال انتظاره لعمل النار وأرسل يسأل ما إذا كان الرب هو الآتي أم ينتظر آخر!! رغم أنه هو نفسه تنبأ عن مرحلة «الحمل» وشاهد بعينيه «الحمامة» لكنه كان يتعجل «النار» !!

ولقد أجابه الرب بأنه ما زال يعمل في مرحلة الزرع، فها هم العمى يبصرون والعرج يمشون والصم يسمعون، فلابد أن يفتح الرب عيون الناس قبل أن يحاكمهم على ظلمتهم، ولابد أن يشفى العرج قبل أن يحاسبهم على عدم سعيهم نحوه، ولابد أن يفتح آذان الصم قبل أن يعاقبهم على عدم استماعهم لصوته!! الزرع أولا ثم الحصاد !! صحيح أن مرحلة الزرع كانت شاقة وطويلة ومن الصعب احتمالها وصحيح أن الرب اجتازها بألم وهوان ودم ودموع، إلا أنها ضرورية لكي يكون الرب عادلاً في أحكامه .

عندما يأتي الحصاد !!

وعندما انتهى وقت الزرع ونضجت الحنطة التي انبثقت من موت حبة الحنطة الإلهية، وعندما حضر يوم الخمسين الذي كان عيدا للحصاد (تث 16 : 9 ، 10 ) !! حضر الروح المبارك في هيئة جسمية مثل ألسنة من نار إيذانا ببدء الحصاد والحكم، ورأيناه من خلال الكنيسة - جسد المسيح - يقلب المسكونة (عمل الرفش) ( أع 17 : 6) ورأينا الحنطة تتجمع معاً (أع 4 : ۳۲) والزوان أيضا يجتمع معاً (أع 4 :۲۷) ورأينا في الحنطة ثماراً صالحة: سلاماً ونعمة وشفاء، ورأينا كيف أن الزوان لا ثمر له سوى البغضة والحسد والمكايد ، ولم تمض سوى سنوات حتى أحاط تيطس الروماني بأورشليم وأحدق بها وهدمها وبنيها فيها، ثم أشعل فيها النار لتلتهم كومة التبن التي لم تتجاوب مع عمل النعمة وروح الوداعة، ولم تعرف زمان افتقادها !! (يتبع).

 

 

الجمعة، 25 نوفمبر 2022

أحاديث من القلب

سبعة أرواح الله (24)

بقلم : فخرى كرم

بعدما رأينا الصورة الرمزية الأولى للروح القدس ألا وهي صورة الحمامة، وعرفنا أنها كانت مناسبة للتعبير عن روح الوداعة التي اصطبغت بها حياة رب المجد وخدمته وسط الناس، ننتقل اليوم للحديث عن صورة رمزية ثانية للروح القدس شاء أن يعلن نفسه بها في مرحلة أخرى من مراحل تعامله مع الإنسان، ألا وهي صورة

النار

رغم أن يوحنا المعمدان هو الذي رأى الروح ينزل على المسيح في هيئة جسمية مثل حمامة لكنه عندما تنبأ عن طبيعة عمل الروح الذي سيرسله المسيح ليعمل في وسط كنيسته قال إنه سيكون مقترناً بالنار ( لو 3 : 16 ) وبالفعل عندما حضر يوم الخمسين وجدنا الروح القدس يعلن عن حضوره في وسط الكنيسة بهيئة جسمية كألسنة منقسمة من نار استقرت على كل واحد منهم ( أع 2 : 3 ) مما يشير إلى أن السمة الغالبة لعمل الروح القدس في الكنيسة ستختلف عن السمة الغالبة لعمله في حياة الرب له المجد، فإذا كانت الحمامة تشير إلى الوداعة فإن النار في الكتاب المقدس تشير دائما إلى

القداسة

اقترنت النار بقداسة الله في أكثر من موضع، فعندما اشتعلت النار في العليقة صار الموضع مقدساً (خر 3 : 5 ) وعندما تجلى الرب على جبل سيناء بنار صار الجبل مقدسا (خر ۲۳:۱۹) ... إلخ.

لكن ما هي القداسة؟ هي «الصلاح المؤثر»!! «الصلاح» وحده هو أن يكون الشخص مملوءأ من الخير وخالياً من الشر، أما «الصلاح المؤثر» فهو أن يكون امتلاؤه من الخير وخلوه من الشر مؤثراً في الآخرين حتى أنه يجذب لنفسه الخير ويظهره ويدين الشر ويفضحه، إذا اقترن الصلاح الشخصي بهذا السلطان الخارجي نسميه « قداسة». .

أن تكون محبا فهذا صلاح أما أن تكون محبتك ذات سلطان حتى تفضح البغضة الموجودة في المحيطين بك وتدينها فهذه هي القداسة، أن لا تجد الخطية مكانا لها في قلبك فهذا صلاح، أما أن لا تجد لها مكاناً في الوسط المحيط بك لأن طهارة قلبك تفضحها أولا بأول فهذه هي القداسة!!

بين النار والقداسة

إن ما تفعله النار في الأشياء تفعله القداسة في الأشخاص، النار تمتحن الأشياء التي توضع فيها فتزگی وتنقي المعادن النفيسة وتفضح تفاهة المعادن الرخيصة وتحرق الخشب والعشب والقش وتحيلها رماداً ، الأشياء لا تبقى كما هي قبل وبعد اجتيازها للنار، وأنت لا تستطيع أن تبقى كما أنت قبل وبعد تعرضك لقداسة الله، أشياء سوف تتغير وأخرى ستنتهي وأخرى ستظهر ويزداد لمعانها !!

إذا أراد موسى أن يقترب من البقعة المقدسة فلابد أن يخلع نعليه، لابد أن يتخلص من الأجزاء الملامسة لهذه الأرض الملعونة، وإذا تواجد إشعياء في محضر «القدوس » فحالا تظهر الأجزاء النجسة في حياته وتحرقها جمرة من على المذبح، ومن يريد أن يصعد إلى جبل الرب ويقوم في موضع «قدسه » لابد أن يكون طاهر اليدين ونقى القلب (مز 24 : 3 ، 4 ) لا يمكنك أن تتعامل مع قداسة الله وأنت تتستر على شر أو تخفــي إثما في القلـب (مز 66 : 18 ) إن قداسة الله - مثل النار - تمتحن كل شيء فتجتذب الخير وتظهره وتنقيه وتفضح الشر وتدينه وتعريه.

بين الوداعة والقداسة

نستطيع الآن أن نرى أن روح الوداعة يبدو - ظاهرياً - مغايراً تماما لروح القداسة، فروح الوداعة يعطى للإنسان الفرصة لكي يظهر ما بداخله ويعبر عن مكنونات قلبه دون خوف، أما روح القداسة فيدين الشر وهو كامن في الأعماق ولا يمنحه فرصة للبقاء.

الوداعة لا تقتحم الإنسان بل تشجعه لكي يعبر بحرية عن إرادته، أما القداسة - إن تواجدت في محضرها - فهي تمتحن إرادتك الخفية وتظهرها إلى النور دون أن تملك لها دفعاً .

لكن الحقيقة أنه لا تناقض البتة بين اظهارات الروح الواحد، فكل من أوجه تعامله مع الإنسان هام وحتمي ولا غنى عنه، وهو في حكمته اختار أن يتعامل مع الإنسان بالوداعة أولا من خلال حياة رب المجد وخدمته لكي يعطى للإنسان الفرصة ليفهم ويختار بإرادته أن يتوب ويرجع إلى الله، لكن لا يظن أحد أن تعامل الوداعة يمكن أن يستمر إلى الأبد، فلابد أن يواجه الإنسان يوما قداسة الله وعندئذ لن تكون هناك فرصة بعد بل قضاء سريع، وللحديث بقية.

 

  

السبت، 12 نوفمبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله ( 23 )

بقلم : فخرى كرم

تكلمنا عن روح الوداعة التي تعطي لكل ذي حق حقه، وقلنا إن لها ثلاثة اتجاهات: اتجاه الله واتجاه الآخرين واتجاه النفس، ورأيناها تتحرك في اتجاه الله فتعطيه حقه كاملا في الطاعة والخضوع، وتتحرك في اتجاه الإنسان فتعطيه حقه كاملا في الاختيار والتعبير، ولم يبق لنا إلا أن نتكلم بإيجاز عن الاتجاه الثالث ألا وهو اتجاه النفس، فروح الوداعة عندما تمتلك نفس ما تعطيها حقها كاملا غير منقوص، فإذا اجتهدت النفس فمن حقها أن تكافأ وإذا زرعت فمن حقها أن تفرح بالحصاد وإذا انتصرت فمن حقها أن تفتخر بالانتصار، الإنسان الوديع يدرك حقوق نفسه ويمارسها دون أن يشعر بأية غضاضة في ذلك، ويخطىء من يظن أن الوداعة تعطى لله حقه على حساب حق النفس، أو أنها تمنح الآخرين حقوقهم وتبخس النفس حقها ، كلا، فالله الوديع هو أيضا عادل ولا يكيل بمكيالين، ولذلك قال الرب له المجد «أعطوا تعطوا ، کيلا جيداً ملبداً مهزوزاً فائضا يعطون في أحضانكم، لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يكال لكم» (لو 6 : 38 ) أي أن النفس التي تعلمت أن تعطى للآخرين حقوقهم لابد أن يمنحها الله حقوقها وبذات المكيال.

ولقد رأينا روح الوداعة في حياة الرب تمنح للنفس حقها كما منحت لله وللآخرين حقوقهم، فمن أشهر التعبيرات التي تصادفنا في أحاديث الرب تعبير:

أنا هو !!

تكلم الرب كثيراً عن نفسه وأعطاها حقها كاملا أمام الناس، ورغم أن كلام الإنسان عن نفسه عادة ما يثير الاستنكار في نفوس السامعين إلا أننا نندهش عندما نجد كلام الرب عن نفسه لا يثير بداخلنا هذا الإحساس بل على العكس نجد فيه شبعاً وارتواء، ما هو السبب؟ السبب هو أن الرب ينطق بالحق عن نفسه، فهو لا يمدح نفسه بما ليس فيه ولا يدعي قدرة ليست له ولا وضعاً لا يستحقه، كما أن الدافع وراء كلامه عن نفسه هو خير السامعين وليس مجد ذاته لأنه مجداً من الناس لم يقبل ، روح الوداعة التي كان الرب يتكلم بها عن نفسه هي التي منحتنا القبول والإيمان بهذه الكلمات.

الوداعة في مقياس الإنسان هي أن يتكلم عن نفسه بالسوء ويسعى للتقليل من شأنها والتحقير من قدراتها ، لكن العجيب أنك قد تستمع لشخص يقلل جدا من شأن نفسه ورغم ذلك تشعر بالنفور من كلماته، لماذا ؟ لأن خلف الكلمات التي تقلل من شأن الذات تكمن روح تهدف من وراء هذه الكلمات عينها لتمجيد الذات وإضفاء صفة التواضع عليها !! هذه الوداعة مزيفة، والله لا يريدنا أن نتكلم بالسوء عن أنفسنا ولا أن نتكلم عنها بزهو بل أن نتكلم عنها - إذا لزم الأمر - ما هو حق في نظر الله.

 

أنا أفضل !!

اضطرت الظروف الرسول بولس في بعض الأحيان أن يتكلم عن نفسه ( 1كو 15 : 10      ، 2كو 11 ، 12 )  فنجده يعدد لنا الكثير من مجهوداته واحتماله وتعبه في سبيل الخدمة، حتى نجده يعقد مقارنة بينه وبين الآخرين فيقول «أنا أفضل» ( 2كو 11 : 23 ) ومع ذلك لا نشعر بأي انزعاج من كلامه لأنه يقول الحق عن نفسه ( 2كو 12 : 6 ) والدافع من وراء كلامه ليس أن يأخذ مجدا من الناس بل أن يحمى الكنيسة التي تعب في تأسيسها من تشكيك المشككين في ارساليته ( 2كو 11 : 2 ، 3 ) الوداعة التي في بولس لم تمنعه من الكلام عن نفسه لكنها حفظت كلامه في نطاق الحق.

التنازل عن الحق

                إذا كانت الوداعة تعطى للنفس حقها إلا أن النفس قد تختار إرادياً أن تتنازل عن هذا الحق لإنجاز عمل ما أو تتميم مشيئة الله، مع بقاء الإدراك الكامل لهذه الحقوق وقدرة النفس أن تستعيدها في أي وقت، مثلما كان لبولس سلطان أن لا يشتغل بيديه بل يعيش من الإنجيل، وسلطان أن يجول بأخت زوجة مثل باقي الرسل، لكنه اختار أن لا يمارس هذا السلطان لكي لا يجعل عائقا لإنجيل المسيح ( 1كو 9 : 12 ) . وفي الليلة الأخيرة نرى الرب يقوم عن العشاء ويغسل أرجل تلاميذه آخذاً مركز الخادم رغم إدراكه الداخلي لمركزه الحقيقي ( يو 13 : 3 )  وبعدما غسل أرجلهم قال لهم «أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأني أنا كذلك» ( يو 13 : 13 ) . لقد قام بعمل الخادم وهو مدرك تماما لمركزه كالسيد، وهذا هو الفرق بين «صغر النفس» و «وداعة النفس »!! فمن يعاني من «صغر النفس» قد يضع نفسه في مركز منخفض بسبب إحساس داخلي بأنه قليل الشأن، أما من يمتلك « وداعة النفس » فهو يضع نفسه في ذات المركز المنخفض لكن مع احتفاظه بإدراكه الداخلي بمركزه الحقيقي الذي له من الله، ويكون هذا التنازل إرادياً ومؤقتا ومحدوداً بأداء عمل ما أو تتميم مشيئة الله (يتبع).

 

الاثنين، 31 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (  22  )

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن الوداعة تعطى للإنسان حقوقه كاملة، وتكلمنا عن الحقوق الخاصة التي تحق لفئات معينة من الناس، واليوم نبدأ الحديث عن الحقوق العامة التي تحق لكل الناس: الكبير والصغير، الغني والفقير، الرجل والمرأة، فالحقوق العامة هي الحقوق التي يحصل عليها الإنسان لمجرد كونه إنسانة، وأول هذه الحقوق العامة هو:

حق الاختيار

خلق الله الإنسان ذا إرادة حرة، وحرية الإرادة تمنح الإنسان امتيازاً وتضع عليه التزاماً، أما الامتياز فهو حقه في الاختيار الحر لطريقه في الحياة وطبيعة مسلكه فيها ، فالإنسان الحر لا يجب أن تجبره على شيء ما وإلا تكون قد حطمت أهم مميزاته كإنسان عاقل ونزلت به إلى مستوى البهائم التي تساق ، الإنسان الحر يجب أن تعرض أمامه الاختيارات المتاحة وتظهر له عواقب كل منها ثم تتركه يختار ما يشاء، سواء كان اختياره هذا هو الصواب من وجهة نظرك أم الخطأ، فهذا هو حقه الأصيل في حرية الاختيار، وأما الالتزام فهو التزامه بحصاد كل ما زرعه وقبول نتائج اختياره أيا كانت.

والله يحب أن يعطى للإنسان حقه كاملا في الاختيار، لا يفرض عليه أمرأ حتى وإن كان صوابا ولا يجبره على عمل مهما كان حقا، ورغم أنه القادر على كل شيء والحق المطلق المستحق للطاعة إلا أنه يتعامل مع الإنسان بالوداعة، يضع أمامه الاختيارات ويتركه يختار طريقه بحرية، اسمعه وهو يقول لشعبه القديم «أشهد عليكم اليوم السماء والأرض، قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك»(تث 30 : 19 )

الاستبداد

وعكس الوداعة في هذا المجال هو الاستبداد ، أي إرغام الإنسان على قبول فكر أو سلوك طريق ضد إرادته ورغم مشيئته، والاستبداد كثير ومتنوع و منتشر حولنا في كل مكان بينما الوداعة جوهرة نادرة الوجود ، والاستبداد قد يكون نفسياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو فكرياً، فكل إنسان يمتلك سلطة ما - نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو فكرية - يميل إلى استخدام سلطته في إجبار تابعيه على اعتناق فكره ومسايرة إرادته وتتميم مشيئته، فالسلطة من شأنها أن تصيب الإنسان بالغرور حتى إنه يمتلىء تماما بذاته ويكتفى جداً بفكره ويعتقد أنه وحده يعرف الصواب لذلك لا تجد لديه أذن تسمع فكر الآخرين أو تحترم وجهة نظرهم، إذا تكلم تجده ينتظر من سامعيه الخضوع والمصادقة على فكره ، وإذا لاحظ أن أحدهم لا يريد أن يستمع إليه أو يصادق على أقواله اشتعل بداخله الغضب والرفض ضد هذا الإنسان!! كم هو عجيب أن الإنسان يسلب أخاه الإنسان حقه في الاختيار رغم تفاهة المعرفة الإنسانية و محدوديتها ونسبيتها بينما يظل الله يحفظ للإنسان حرية اختياره رغم كمال معرفته - تبارك اسمه - وامتلاكه للحق المطلق.

تعلموا مني.. لأني وديع !!

 لم يشهد التاريخ كله معلماً امتلأ بروح الوداعة مثل شخص الرب يسوع له المجد، فرغم امتلاكه للحق الكامل إلا أنه لم يفرض فكره قط على الآخرين، بل أعطى دائما لسامعيه حقهم الكامل في أن يسمعوه أو ينصرفوا عنه (يو 6 : 66 ، 67 ) . وهذا هو معنى نيره الهين وحمله الخفيف، فهو المعلم الوحيد الذي لا يعلمك إلا إذا أردت أنت أن تتعلم، ولا يتكلم إلا إذا أردت أن تسمع، إنه لا يقتحمك ولا يفرض فكره عليك، إذا أردت ألا تستمع إليه لن يغضب منك ويقاومك بل سيعطيك حقك الكامل في اختيار الفكر الذي تستمع إليه حتى وإن كان فكراً مضاداً له!! لا يمكنك أبدا أن تجد واحداً من تلاميذه في كل العصور اعتنق فكره عن خوف أو اضطرار، كل من تتلمذ عند قدميه واعتنق فكره فعل هذا بمحض اختياره الحر، هل رأيت قط معلماً مثل هذا ؟! إنه المعلم الوحيد الذي قال هذه العبارة العجيبة.:

من له أذنان للسمع فليسمع

لقد كرر الرب هذه العبارة كثيرة في تعاليمه وبعد كل رسالة من رسائله إلى الكنائس في سفر الرؤيا ، ماذا يقصد الرب بأذن للسمع؟ إنه يقصد الاستعداد الداخلى للاستماع لفكر الله والرغبة في التعلم، وهذه الأذن ليست عند كل الناس، فكثيرون فقدوا الاستعداد الداخلى للتعلم والإصغاء لفكر الله بسبب امتلائهم بأفكارهم الخاصة واكتفائهم بحالتهم الراهنة حتى لم تعد عندهم مساحة لاستقبال فكر جديد ، لمثل هؤلاء لا يوجه الرب تعاليمه بل هو يتكلم لفئة أخرى مازالت تشعر بعدم الاكتفاء وتريد أن تستمع لفكر الله وتخضع له، أي أنه - له المجد - لا يفرض فكره على الجميع بل يقدمه فقط لمن اختاروا بمحض إرادتهم أن يستمعوا إليه، إنه حقا المعلم الوحيد الوديع ومتواضع القلب، وللحديث بقية

 

 

الأربعاء، 26 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 سبعة أرواح الله (21)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن روح الوداعة تجاه الإنسان تمنحه حقوقه كاملة، وأول هذه الحقوق هو حقه في الاختيار، واليوم نضيف أن من حقوق الإنسان أيضا:

حق التعبير

       الإنسان السوى ليس هو القادر فقط أن يختار بل هو القادر أيضا أن يعبر عن هذا الاختيار، فقد يختار الإنسان موقفا ما ولكنه يعجز عن المجاهرة بهذا الموقف لسبب أو لآخر، وهذا يؤدي إلى ازدواج في الشخصية: من الداخل يعتنق الإنسان موقفا ومن الخارج يظهر موقف آخر، وأن يجاهر الإنسان بموقف مخالف لما يعتقده داخليا هو ما يسميه الكتاب:

الرياء

يستشري هذا الداء في المجتمعات المقيدة للحريات، وكان هذا الداء موجوداً بكثرة في المجتمع اليهودي في أيام تجسد الرب له المجد، بدأ في القادة ثم انتشر إلى كل المجتمع مثلما تنتشر الخميرة لتخمر العجين كله، رغبة في الاستعلاء على الشعب كان الكتبة والفريسيون يخفون اختطاف ودعارة بداخلهم ويظهرون برأ وتقوى، وخوفا من القادة ورغبة في رضاهم كان الشعب يخفي غضباً ورفضأ ويظهر حبأ وخضوعأ، وخوفا من بطش السلطة الرومانية كان المجتمع اليهودي كله يكتم ذلا وهوانا ويظهر طاعة وولاء!! كان الكل يرائي لأن أحدا لم يكن يمتلك الشجاعة ليعبر عن حقيقة موقفه، ولقد حذر الرب تلاميذه من سريان هذه الروح إليهم ( لو 12 : 12 ) ، فهو الوحيد الذي داس روح الرياء في حياته وعاش يماثل ظاهره باطنه ، وقاد تلاميذه إلى نفس الحياة .

روح الوداعة

وإذا كان القائد المزيف يفرح عندما يرائيه الناس ويظهرون له عكس ما يبطنون إلا أن روح الوداعة التي تجسدت في شخص الرب يسوع له المجد كانت ترفض هذا الرياء وتشجع الإنسان لكي يعبر عما بداخله أيا كان، فالشخص الوديع هو الذي تشعر في محضره بأنك قادر على التعبير عما بداخلك بدون خوف، هو الشخص الذي تسلك معه كما أنت في الحقيقة بدون مواربة إنه الشخص الذي يعطيك الإحساس بالأمان وبأنه يقبلك كما أنت وبأنه لا يقيم نفسه ديانا لما في أعماقك، الشخص الوديع يصمت كثيراً لكي تتكلم أنت، ويتراجع أحيانا لكي تتقدم أنت!!

النور الذي ينير كل إنسان طالما ظل موقف الإنسان الداخلى خفية غير معلن يكون من المستحيل التعامل معه أو علاجه أو حتى إدانته، لذلك كان أحد جوانب إرسالية الرب إلى العالم هو أن ينير خفايا الإنسان ويشجعه على إظهار مواقفه الداخلية، وهذا ما قاله سمعان الشيخ بروح النبوة عن إرسالية الرب: «لتعلن أفكار من قلوب كثيرة» (لو ۲: ۳۵) أفكار ومواقف كثيرة ظلت مكتومة في القلوب لسنوات طويلة كان الرب مزمعاً أن يخرجها للنور ويعلن عنها ، ولقد فعل هذا بروح الوداعة التي تدفع من يتعامل معها لإظهار مكنونات قلبه. كان بداخل القادة الدينيين موقف مضاد لصاحب الكرم (مت 21 : 33 ) كانوا يأخذون ثمر الكرم لحسابهم وهو من حق الله وحده ، ولكن هذا الموقف المضاد لله كان مدفوناً تحت كم هائل من المظاهر الخارجية الخادعة، مظاهر التدين والتقوى والورع، وكانت إحدى مهام الرب له المجد هو إظهار حقيقة موقفهم من الله وإعلان أفكار البغضة الكامنة في قلوبهم، ومسلكه الوديع هو الذي شجعهم لكي يجاهروا ببغضتهم له، فقد كان مثل «النعجة الصامتة أمام جازيها »، وصمت النعجة يشجع جازيها لكي يمضى في عمله حتى النهاية!! لقد كان الرب بالنسبة لهم « علامة تقاوم» على حد قول سمعان الشيخ ( لو 2 : 34 ) أي أنه كان هدفاً تخرج عليه كل المقاومة الكامنة في قلب الإنسان تجاه الله!! وعندما ظهرت هذه المقاومة ومضت في طريقها حتى كملت في الصليب أصبح من الممكن التعامل معها وإدانتها، ولم تتأخر الدينونة كثيرة!!

وداعة الرب أعطت الفرصة لبطرس لكي ينكر، وليهوذا لكي يخون، وللتلاميذ لكي يهربوا ، دون أن يخشى أحد منهم لوماً أو عقابا !! اسمعه وهو يقول ليهوذا بوداعة «ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة» ( يو 13 : 27 ) الرب يدفعه لكي يعبر عن الخيانة الموجودة بداخله بأكثر سرعة!! فطالما ظلت الخيانة كامنة في قلب يهوذا وتتحرك ببطء في الخفاء لم يكن من الممكن إدانتها ، فقط عندما ظهرت في العلن أمكن وضعها تحت الدينونة، ولم تتأخر الدينونة كثيراً !!

       دعني أنحنى بإجلال أمام روح الوداعة التي تتجسد فيك يا سيدي، فهي التي منحتني الفرصة لكي أظهر مكنونات قلبي أمامك دون خوف، وداعتك يا سيدي حررتني من عبودية الخوف وحفظتني من السقوط في فخ الرياء!! (

الجمعة، 21 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (20)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن الوداعة هي أن نعطى لكل واحد ذي حق حقه، ولقد رأيناها تتحرك في اتجاه الله عندما قدم الرب يسوع للأب حقه الكامل في السجود والخضوع والطاعة، سواء في الخفاء في مواجهة إبليس أو أثناء خدمته العلانية في وسط الناس، واليوم نبدأ الحديث عن الاتجاه الثاني للوداعة ألا وهو اتجاهها للإنسان، فالشخص الوديع هو الذي يعطى للناس حقوقهم كاملة كما يعطى لله حقه كاملا، ويخطىء من يظن أن حق الله يتعارض مع حق الإنسان، أو أننا لكي نعطى الله حقوقه ينبغي أن ندوس حقوق الآخرين، حاشا، فالوداعة لا تتجزأ !!

وإن قلنا أن حق الله هو الخضوع والسجود والطاعة الكاملة فما هي حقوق الإنسان؟ في الواقع إن هناك حقوقاً خاصة لفئات خاصة من الناس وهناك حقوق عامة لكل إنسان، وستبدأ الحديث عن:

الحقوق الخاصة

هناك سلطان اجتماعي مثل سلطان الأبوين، وسلطان ديني لأصحاب المراكز القيادية في الجماعة الدينية، وسلطان مدني للرؤساء والحكام، وينبغي على المؤمن أن يعطى لأصحاب هذه السلطات الاحترام والخضوع اللائقين، وفي هذا يقول بولس بوضوح «أعطوا الجميع حقوقهم : الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف من له الخوف والإكرام لمن له الإكرام» (رو 13 : 7 ) ويقول بطرس «اخضعوا لكل ترتيب بشرى من أجل الرب ، إن كان للملك... أو للولاة... أكرموا الجميع، أحبوا الإخوة ، خافوا الله، أكرموا الملك» (۱بط 2 : 13 ـ 17 ) وما هذا إلا تطبيق للمبدأ الشهير الذي قرره الرب نفسه عندما قال «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (مر 12 : 17 ) .

وفي كل حياة الرب يسوع نراه يعطى لأصحاب الحقوق الخاصة حقوقهم، ففي صباه رأيناه يخضع لسلطة أبويه (لو 2 : 51 ) وأثناء خدمته رأيناه يخضع للسلطة المدنية ويعلم تلاميذه أن يخضعوا لها رغم عدم اقتناعه بمشروعية الضرائب التي تجمعها (مت 17 : 24 ـ 27 ) وفي نهاية حياته الكريمة وجدناه يقف أمام بيلاطس ويقول له «لم يكن لك على سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق » (يو 19 : 11 ) لقد خضع يسوع لسلطان بيلاطس وحكمه الظالم ليس عن خوف أو اضطرار بل « من أجل الرب» على حد قول بطرس، أي من أجل أن الرب هو الذي أعطى لبيلاطس السلطان أن يكون في منصبه هذا ويصدر حكمه هذا ، ونفس الحق تكلم عنه بولس: «ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله» (رو 13 : 1 ، 2 )

وبولس كان تلميذا ليسوع في وداعته، ولذلك رأيناه يعتذر أمام رئيس الكهنة عن كلماته القاسية، لأنه مكتوب: «رئيس شعبك لا تقل فيه سوء » (أع 23 : 5 ) فرغم علم بولس أن هذا الرئيس لا يحكم بحسب فكر الله إلا أن وجوده في منصبه الديني هذا كان مسموحاً به من الله، ولذلك حق له التوقير والاحترام!! نقول هذا لمن يظن أن اقترابه من الله يعطيه الحق أن يحتقر الرياسات ويتخطاها ويقاومها، ليس هذا فكر المسيح الوديع الذي أعطى الإنسان حقه تماما كما أعطى لله حقه.

الخضوع للسلطان وليس الخضوع للفكر

لابد أن نفهم أن الخضوع للسلطان شيء والخضوع للفكر شيء آخر تماما، فالكتاب لا يطالبنا بالخضوع لفكر القادة متى كان مخالفاً لفكر الله بل يطالبنا فقط بالخضوع لسلطانهم، وغنى عن البيان أن الرب لم يخضع لفكر بيلاطس لكنه خضع لسلطانه في إصدار حكم الصلب، والتلاميذ لم يخضعوا قط لفكر رؤساء الكهنة لأنه ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس، لكنهم في نفس الوقت لم يقاوموا أحكام السجن التي صدرت ضدهم، وبولس لم يخضع لحظة واحدة لفكر القادة ولم يحاول ارضاءهم، وعندما حكموا عليه بالسجن والموت خضع لسلطانهم وأسلم نفسه للسجن والموت دون أن يغير هذا من فكره الذي ظل يكرز به حتى وهو في السجن، فالحكام يستطيعون أن يلقوا بولس في السجن الداخلي ويضبطوا رجليه في المقطرة، ولكنهم لا يستطيعون أن يمنعوه من الصلاة والتسبيح!! فجسد بولس خاضع لسلطان الحاكم لكن قلبه وعقله خاضعان لسلطان الله، ولا يوجد سلطان على الأرض يستطيع أن يمنع خضوع قلب المؤمن لله، وعصور الاستشهاد تشهد عن ذلك.

أما الخضوع لفكر القادة - مهما كان خاطئا - بهدف اتقاء شرهم أو كسب رضائهم فهذا من أعمال روح «المداهنة» وليست روح «الوداعة»، والفرق بينهما الفرق بين الجحيم والسماء!!

ينبغي أن نفهم جيدا الفرق بين الخضوع للسلطان والخضوع للفكر، لأن البعض في أوساطنا الروحية يظن أن الخضوع للرياسات يعني الطاعة لفكرهم حتى وإن كان مغايراً لفكر الله، لكن الحقيقــــة أننا ينبغي أن نستأسر كل فكرنا لطاعة المســــيح وحـــــده ( 2كو 10 : 1 )  وللحديث بقية.

 

الخميس، 13 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (19)

بقلم : فخرى كرم

تحدثنا عن روح الوداعة التي ملأت الرب يسوع في علاقته بالآب، وقد رأيناها منذ تمثلت في هيئة حمامة تحل عليه في المعمودية وحتى الموت موت الصليب، ولقد تجلت هذه الروح أولاً في البرية وكانت هي مفتاح نصرة الرب في التجربة المثلثة لإبليس، ثم رأيناها في أرض الإنسان بعدما نزل الرب من جبل التجربة إلى أرض الخدمة العملية والعلنية، حيث وجدناه يخضع لمشيئة الآب ويطيعها طاعة مبدئية شاملة وفق الساعة ورغم المقاومة وحتى الموت، وقبل أن نترك هذه الجزئية لابد أن نلاحظ درسا ثمينة للغاية، درس نتعلمه من ترتيب الأحداث في حياة ربنا المبارك، درسا يقول إن

النصرة تبدأ في الخفاء

معركة الرب مع إبليس بدأت بمصارعة شخصية في البرية، حيث لا يوجد سوى الله والنفس وإبليس، وفي هذه المصارعة شحذ إبليس كل قواه وإغرائه وسلطانه وجمعهم في ثلاث تجارب، رأيناه يستغل الاحتياج الطبيعي للجسد لكي يحول انتباه الرب إلى نفسه، ورأيناه يستغل أقدس الأماكن بل وكلمات الوحي المقدسة لكي يغرى الرب بمجد الذات، ثم رأينا قدرته على أن يجمع أمام الرب كل ممالك العالم ومجدهن في لحظة من الزمان.

وفي هذه المصارعة الشخصية يسهل على النفس أن تخطىء ولو بالفكر، وأن تتجاوب مع التجربة ولو بمشاعرها، لأنه في البرية لا يوجد رقيب من الناس يمكنه أن يرصد الخطأ ويدينه أو يلاحظ الصواب ويمتدحه، في البرية يبدو أن الخطأ بلا عقاب والصواب بلا مجازاة، في البرية لا يوجد سوى الله وحده يراقب، لذلك لا ينتصر في هذه المصارعة إلا من أحب الله وحده واشتهى رضاه فقط، لا ينتصر سوى من امتلأ بروح الوداعة التي تشتاق أن تعطى الله كل المجد والطاعة، وبدون مقابل!!

خلاصة القول إن الصراع الشخصي في البرية كان مكثفاً وشاملا، أما بعد النزول إلى الخدمة وسط الشعب صارت التجربة مفصلة أكثر، لم تختلف في جوهرها عن التجربة في البرية فإبليس ليس لديه تجارب أخرى يجرب بها الإنسان، إنه نفس الجوهر لكن بدلا من أن تكون التجربة مكثفة أمام النفس «في لحظة من الزمان» صارت مفككة وموزعة على العديد من المواقف اليومية المتكررة والمتنوعة.

فإذا كان الرب قد تعرض في البرية مرة واحدة وبشكل مكثف لتجربة الاهتمام بالاحتياج الشخصي فإنه تعرض عشرات المرات في كل يوم لتجربة أن يعطى لجسده راحة أو يهتم قليلا بحياته وأن يكف ولو للحظة عن بذل نفسه لكل الناس، حتى انتهره بطرس لكي لا يسلم نفسه للموت عن العالم، لكن إذا كان الرب قد انتصر على هذه التجربة عندما أتته من إبليس ذاته بشكل مكثف وصريح ومباشر فمن الطبيعي أن يستعلن انتصاره على هذه التجربة ذاتها عندما تأتيه في كل يوم من خلال أدوات إنسانية متعددة.

وإذا كان الرب قد رفض أن يأخذ مجداً لنفسه وهو واقف على جناح الهيكل فمن المنطقي أن يفشل الناس في خداعه بكلمات التملق والمداهنة المسمومة، وليس غريبا على من رفض إغراء كل ممالك العالم ومجدهن أن يرفض أن يختطفه الناس ليجعلوه ملكا عليهم، إن انتصار الرب في مواجهته مع إبليس في الخفاء جعلت انتصاره العلني والعملي في أرض الإنسان ليس سوى تحصيل حاصل، لقد خرج الرب من البرية إلى الحياة العملية غالباً ولكي يغلب!!

... ونفس الترتيب في حياتنا !!

 الأمور تسير في حياة كل واحد منا بنفس الترتيب، فمعركتنا تبدأ دائما بشكل شخصي وفي الخفاء، حيث يتواجه القلب مع إبليس الذي في سلطانه أن يكثف التجربة أمام النفس و يركزها في لحظة من الزمان، ويوجهها إلى نقاط الضعف المحددة التي يعرفها فينا، وهناك في الخفاء حيث لا يرانا أحد لكي يمتدحنا يكون الامتحان الحقيقي لولاء النفس ومحبتها لله، وإذا استطاعت النفس أن تنتصر على التجربة في صورتها الشخصية المكثفة هذه فإن انتصارها على تفاصيل التجربة في صورتها العملية في أرض الواقع يكون محسوسأ بشكل كبير ومن قبيل تحصيل حاصل.

والعكس أيضأ صحيح للأسف، فالفشل أمام التجربة في الخفاء والسقوط الدفين للقلب أمام الإغراء لابد أن يظهرا في سقوط علني أمام التجارب اليومية في الحياة العملية، إن من انتصر يوما أمام عيني الله فقط ولأجل الله فقط لابد أن يأتي اليوم حين يعلن الله انتصاره أمام عيون كل الناس، ومن سقط أمام عيني الله وحده لابد أن يرى الجميع سقوطه عاجلا أم آجلا!

أخي العزيز ، هل أنت منتصر في الخفاء ؟! (يتبع)

 

الخميس، 6 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (18)

بقلم : فخرى كرم

              « أطاع حتى الموت موت الصليب » (في 2 : 8 )

قلنا عن طاعة يسوع للأب إنها طاعة مبدئية شاملة وفق الساعة ورغم المقاومة، واليوم نقول عن هذه الطاعة الفريدة إنها ..

طاعة حتى الموت

كلمة «حتى» تفيد أقصى مدى تصل إليه الطاعة، ولكل واحد منا « حتى » الخاصة به !! فكل منا يستطيع أن يطيع « حتى » يصل الأمر إلى شيء ما محبب للنفس، وعندئذ لا يستطيع الإنسان أن يطيع أكثر وتتوقف مسيرة الطاعة في حياته ويبدأ يعيش على ذكرى الماضي.

لكل منا أموره المحبوبة التي لا يجوز الاقتراب منها ولا يستطيع التنازل عنها، وعادة ما تكون هذه الأمور هي نهايات الطاعة في حياتنا وعندها تتوقف مسيرة الخضوع، فهذا الأخ أطاع «حتى» تعلق الأمر بأمواله، وذاك أطاع «حتى» مست صحته، وثالث أطاع «حتى» تهدد سلامه الاجتماعي، ورابع أطاع « حتى» جرحت كبرياؤه، ولاشك أن إبليس كان يراهن على أن طاعة يسوع لابد أن تستمر «حتى» تصطدم بعقبة ما ثم تنتهي، ولذلك نراه يضع في طريق الرب عقبات وخسائر متدرجة في شدتها وقسوتها لكي يوقف مسيرة طاعته لمشيئة الأب.

أول عقبة صادفت الرب منذ أول عظة ألقاها في مجمع الناصرة كانت فقدان رضا أهل مدينته، وما أقسى فقدان رضا الأهل على نفس الإنسان!! ما أقسى أن يفقد الإنسان كرامته في مدينته ووسط أهله، ولكن يسوع اجتاز هذه العقبة وترك آسفاً المدينة التي تربي بها وعاش فيها أيام صباه الأولى وشبابه المبكر ، وبدأ يتجول من مدينة إلى أخرى كالغريب الذي ليس له أين يسند رأسه.

بعد ذلك بدأ إبليس يلوح له بخسارة كرامته وسمعته الحسنة لدى الشعب وذلك عندما بدأ الكتبة والفريسيون بما لهم من سلطان على أذهان الناس يروجون الشائعات حول شخص الرب وينسبون قواته إلى بعلزبول رئيس الشياطين، قاصدين تدميره نفسياً واجتماعياً لكي تتوقف طاعته عند هذا الحد وتتوقف معها مقاصد الله، لكن سيدي اجتاز - بنفس نازفة - وسط حقدهم وأكاذيبهم و مضى مكملا خدمته.

وعندئذ بدأ يهدده بفقدان مصداقيته لدى أقرب الناس إليه، شكوك المعمدان وخيانة يهوذا وإنكار بطرس وهروب التلاميذ، أراد أن يقول له إن كل حياته وخدمته قد مضت بدون أية قيمة، فليس فقط الشعب والقادة قد انقلبوا ضده بل حتى القلة الذين صدقوه قد انصرفوا كل واحد إلى خاصته وتركوه وحده، وما أقسى الإحساس بالفشل والوحدة، وما أقسى شعور الإنسان بأن حياته قد مضت بلا جدوى!! وماذا يبقى للإنسان بعد فقدانه لأهله وسمعته وأقرب أصدقائه ؟ ماذا يبقى له لكي يستمر يسلك طريق الطاعة الوعر هذا ؟!! لكن سيدي اجتاز هذه العقبة أيضأ ومضى وسط مشاعر الجحود والنكران والهجر والخيانة مصمماً أن يشرب الكأس حتى آخر قطرة.

لقد تجرد سيدي من كل شيء ولم تبق له سوى حياته ذاتها، وهنا بدأ إبليس يلوح له بخسارة هذه الحياة أيضا، أخذ يهدده بالموت، ليس فقط الموت بل

موت الصليب

موت الصليب يعنى الموت المصحوب بالعار والرفض والهوان والمذلة والألم المروع والإهانة والتشهير، فقد يموت الإنسان ويظل يحتفظ بذكرى طيبة في أذهان الناس، لكن إبليس كان يهدد يسوع بفقدان الحياة المصحوب بفقدان أية ذكرى طيبة في أذهان الناس، كان يهدده بأن يظل في أذهان الناس محسوباً في عداد الأثمة (إش 53 : 12 ) . لكن العجيب أن روح الوداعة الذي ملأ سيدي لم يتراجع عن الطاعة حتى أمام هذه النوعية من الموت، كان على استعداد أن يخسر كل شيء لكي يتمم مشيئة الأب، لم يخر أمام قسوة وظلم وظلمة هذا المصير الرهيب الذي يلوح في الأفق، وهكذا اجتاز وسط مشهد المحاكمة والصليب دون أن يفتح فاه ، مسلماً نفسه ليد صالبيه وهو في الحقيقة مسلمها لمشيئة أبيه، لقد انتصرت طاعته واستمرت حتى الموت موت الصليب، لقد قدم يسوع كل ما يملكه على مذبح طاعته للأب، لم يدخر شيئا ولم يؤخر عطاء، وهذه الطاعة الكاملة الممزوجة بالمحبة الكاملة هي التي صعدت بخور طيباً أمام الآب، وهي التي اشترت لنا الغفران والفداء الذي نتمتع به اليوم.

دعني أنحني بامتنان أمام طاعتك الكاملة يا سيدي وأنا أسأل نفسي في خجل: «حتى» ماذا أستطيع أن أطيع مشيئتك في حياتي ؟؟

الأربعاء، 5 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (17)

بقلم : فخرى كرم

تكلمنا عن طاعة الرب يسوع للآب في أرض الإنسان، وقلنا إنها كانت طاعة شاملة مبدئية وكانت منضبطة تماما وفق ساعة الآب وتوقيته، واليوم نضيف أن هذه الطاعة الكاملة الفريدة كانت أيضأ ..

طاعة رغم المقاومة

طاعة الله في وسط العالم لابد أن تلقى مقاومة عنيفة لا يعرفها إلا من عرف معنى الطاعة الحقيقية لله، فالناس بالطبيعة لا تحب من يختلف عنهم، وأرواحهم تقاوم - ولو بشكل خفي غير ظاهر - كل من يستشعرون اختلافه عنهم، في البداية قد يحاولون استمالته ليعود إلى التوافق مع شكلهم وأسلوبهم المعتاد ، وإذا لم تنجح هذه المحاولة يبدأون سعيهم لتدميره وعزله. والنفس عادة لا تستطيع أن تحتمل هذه المقاومة لفترات طويلة، لأن الإنسان بطبعه يحب أن يكون مقبولا من المجتمع المحيط به ويأتنس بقرب الناس ومحبتهم، والمقاومة المتمثلة في الاستمالة أو النبذ عادة ما تؤتي ثمارها سريعا ويكف الإنسان عن سلوكه المغاير ويعود إلى موافقة الجماعة والسير في ركابها.

فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي ، يستمد سلامه وأمنه من الوجود في جماعة مترابطة متآزرة تساند بعضها البعض ، جماعة تتشابه في سلوكياتها وأفكارها بشكل عام، وشرعية أي سلوك في هذه الجماعة مستمد من شيوعه وقبول الناس له وتعارفهم عليه أكثر مما يستمد من موقف الله منه، وأيضا عدم مشروعية أي سلوك تكون ناتجة عن عدم شيوعه وتعارف الناس عليه حتى وإن كان الله مصادقاً عليه!! لهذا السبب كان الأنبياء دائماً معرضين للانتقاد والرفض بل وللاضطهاد والقتل لاسيما من أهل بيتهم ووطنهم (مت 13 : 57 ) لأن أهل البيت والوطن هم أكثر الناس رغبة في الاتحاد في شكل وأسلوب واحد، وبروز شخص ذي فكر مغاير وسلوك مخالف يصنع بينهم انقساما ويشق صفوفهم، لذلك إما أن يكف عن اتجاهه المخالف ويعود لركب الجماعة وإما أن يزول من المشهد تماما لكي يعود للجماعة سلامها.

والقادة الدينيون بالذات يتعاملون مع شعوبهم بحسب نظرية « القطيع »، أي أن مصالحهم تعتمد على بقاء الشعب في جهالته وسيره في ركب واحــد بدون اعتـــراض أو تســاؤل (حز 34 : 1 ـ 6 ) وبروز أي فكر ديني مستنير يصنع اضطرابا في صفوف « القطيع » ويضر كثيراًبمصالح القادة، ولذلك كانت أيدي القادة الدينيين ملوثة دائماً بدماء الأنبياء كما قال لهم السيد له المجد (مت 23 : 31 ، 37 ) .

الروح الغريبة !!

والمجتمع اليهودي الذي كان ينعم بالهدوء الظاهري تشوش واضطرب كثيرا عندما بدأ الرب له المجد خدمته، تعاليمه وسلوكه شقت الصفوف وأظهرت فسادا كثيراً كان مدفوناً ومخفياً في حياة الشعب وقادته، ومن ثم هاج المجتمع وتموج بين مؤيد ومعارض ومتسائل ومتشكك، وعلى الفور تحركت أرواح القادة لتقاوم هذه الروح الغريبة التي أقضت مضاجعهم و عكرت صفو حياتهم وهددتهم في سلطانهم ومصالحهم.

ولقد اتخذت هذه المقاومة الاتجاهات المعهودة، فبدأت بالاستمالة والمداهنة، فنقرأ كثيرا عن الولائم التي كانت تقدم للرب ليس بهدف الترحيب له بل لاصطياد الأخطاء له، ووصلت محاولة الاستمالة إلى حد الامساك به لجعله ملكا عليهم، ولكن الرب في طاعته الكاملة للآب لم تؤثر فيه هذه الولائم والترحيب المزيف، بل كان في كل وليمة يصر على كشف زيف مضيفيه وسوء قصدهم (لو ۷: 44 - 46) وعندما علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف عنهم إلى الجبل وحده (يو 6 : 15 ) لقد استطاعت روح الوداعة والطاعة بداخله أن تقاوم اغراء الحصول على رضا الناس، وفضل أن يمكث « وحده » في « الجبل » على أن يسكن وسط شعب لا يخضع لفكر الله!!

ولما لم تفلح الاستمالة تحركت أرواح القادة ضد الرب في محاولة لتدميره وعزله عن بقية الشعب بل وقطعه من أرض الأحياء إن أمكن!! وتحرك « الرعاة » بالكذب والخداع في وسط « قطيعهم » بهدف تشويه صورة الرب ووصمه بأشنع الصفات في محاولة لجعل الشعب ينبذه ويسلمه للموت!!

أمام هذه المقاومة الجارفة كان المتوقع من أي روح إنسانية أن تخور وتخاف من الرفض والقطع وتعود تسترضي الناس وتهادنهم، لكن روح الوداعة والطاعة التي ملأت الرب لم تضعف أمام هذه المقاومة العنيفة بل ظلت على خضوعها للآب قابلة من يديه الكأس التي سمحت بها قداسته وعدله، حقا سيول الهاوية لم تطفيء هذه الطاعة الفريدة!! وللحديث بقية

 

السبت، 24 سبتمبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (16)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن روح الوداعة التي ملأت شخص الرب يسوع له المجد قادته إلى حياة الطاعة الكاملة للآب، طاعة من طراز فريد تختلف نوعيتها عن أي مواقف طاعة رأيناها في حياة رجال الله القديسين، طاعة مميزة تبدو طاعتنا بجوارها ناقصة معيبة، قلنا عنها في المرة السابقة إنها طاعة مبدئية شاملة واليوم نضيف إنها

طاعة وفق الساعة !!

لكل شيء زمان ولكل أمر تحت السماء وقت (جا 3 : 1) فالله يسير هذا العالم وفق أزمنة وأوقات محتومة لا تقبل التعديل (أع 17 : 26 ) وهذه الأوقات والأزمنة هي في سلطان الأب وحده (أع 1 : 7 ) وله وحده حق تغييرها (دا ۲۱:۲).

يخطىء الإنسان عندما يظن أن حياته تسير بشكل عشوائي لا يحكمها توقيت أو زمن، وإبليس يريد أن يلقى في قلب الإنسان أن الأمور تسير كما اتفق لكي يبث في داخله روح الاستهانة والتسويف، ولكن الحقيقة هي أن لكل عمل تحت السماء ساعة محددة لا تتقدم ولا تتأخر، وإذا لم يميز الإنسان هذه الساعة ويفتد الوقت ويقم بالعمل المناسب في وقته المناسب فإن هذه الساعة قد تنتهى وتضيع الفرصة وإذا أراد أن يعمل هذا العمل في وقت لاحق لا يجد له مكانا ولا قبولاً (عب 12 : 17 ) فللتوبة وقت ولطلب الرب وقت وللخلاص وقت مقبول، وطوبى لمن يطلب الرب في وقت يجده فيه (مز 32 : 6 ) .

إن عدم تمييزنا للوقت يضيع منا فرصاً ثمينة ويجرنا إلى أخطاء مريرة، ورغم أنه ليس لنا أن نعرف بصورة مطلقة الأزمنة والأوقات التي جعلها الأب في سلطانه إلا أننا من الناحية الأخرى مطالبون بأن نميز علامات الأزمنة التي تخصنا وتوقيت الله بالنسبة لحياتنا لكي نستطيع أن نعمل ما يريده الله في الوقت الذي يريده الله، فالرب وبخ الفريسيين والصدوقيين لأنهم لم يستطيعوا أن يميزوا علامات الأزمنة (مت 16 : 3 ) .

بعضنا يظن أن الطاعة هي أن نعمل الأعمال التي نظن أنها مرضية عند الله، أي إنها طاعة لقائمة من الأعمال والوصايا ، وهذه هي طاعة الناموس أو طاعة العبد، وهي لا تستلزم شركة حقيقية كاملة مع شخص الله نفسه، لكن الحقيقة أن الطاعة في العهد الجديد والتي رأيناها في شخص الابن المبارك ليست طاعة لأعمال بل لشخص، إنها ليست فقط أن نعمل الأعمال التي يريدها الله بل أن نعملها وفق التوقيت الذي يريده الله، لأن لكل وقت عند الآب أعماله التي قد تتغير بتغير الأوقات والأزمنة، ولذلك فهذه النوعية من الطاعة لا يمكن أن تكتفي بمعرفة قائمة بالأعمال والوصايا بل تستلزم شركة حقيقية مع شخص الله في كل يوم وتوافق تام مع رؤيته للأزمنة والأوقات، إنها طاعة وفق ساعة الآب!!

 

لم تأت ساعتي بعد !!

إننا لم نر هذه النوعية الفريدة من الطاعة إلا في شخص الابن المبارك الذي كانت كل تفاصيل حياته تسير بحسب توقيت الآب، انظر إليه وهو في عرس قانا الجليل عندما فرغت الخمر منهم وتدخلت العذراء مريم لكي تحثه على تسديد الاحتياج الموجود، لكنه لم يكن ذلك الإنسان الذي يتحرك وفق احتياج المحتاجين ولا وفق شفاعة المتشفعين بل فقط وفق توقيت أبيه المحتوم، فسمعه يقول لها: «مالي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد » ( يو 2 : 4 ) فقد كان لكل عمل من أعماله ساعة محددة ينبغي أن يتم فيها ، وليس قبلها أو بعدها.

بل حتى سفره إلى أورشليم قبيل عيد المظال كان له وقته المحدد، فعندما طلب منه إخوته أن يصعد معهم إلى العيد قال لهم « إن وقتي لم يحضر بعد، وأما وقتكم ففي كل حين حاضر» ( يو 7 : 6 ) إن الإنسان الطبيعي يمتلك وقته، يستطيع أن يرتبه كما يشاء ويتحرك حين يريد، أما ابن الله المبارك فكل تحركاته كانت مرتبة من قبل الآب ووفق توقيته الدقيق!!

أيها الأب : قد أتت الساعة !!

 بل انظر إليه وهم يحاولون أكثر من مرة أن يقتلوه لكنه في كل مرة كان يجتاز فيما بينهم ويمضي، ولم يلق أحد يدة عليه لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد( يو 7 : 30 ) فإن موته أيضا كانت له ساعة محددة ومحتومة!!

ولكن عندما تيقن أن ساعته قد جاءت رأيناه يرفع عينيه إلى السماء بكل طاعة وتسليم ويقول « أيها الآب: قد أتت الساعة» ( يو 17 : 1 ) ثم يتقدم إلى أعدائه ويسلمهم نفسه لكي يلقوا القبض عليه ويفعلوا به كل ما أرادوا !! حقا إنه خادم يهوه الفريد الذي عرف كيف يعيش وفق توقيت أبيه، فعرف كيف يخدم في وقت الخدمة وكيف يصلي في وقت الصلاة وكيف يصمت في وقت الصمت بل وكيف يموت في وقت الموت!! آه ، ما أحوجنا إلى طاعة من هذا القبيل!! (يتبع)

 

 

الاثنين، 19 سبتمبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (15)

بقلم : فخرى كرم

بعد انتهاء فترة وقوف الرب على أرض إبليس انتقل إلى أرض الإنسان ليبدأ حياته العملية والعلنية، وروح الوداعة التي قادته في مواجهته لإبليس فوق الجبل هي ذاتها التي قادته في مواجهته للناس في كل مدينة وقرية، وإذا كان تسليمه كل شيء ليد الأب كان هو مفتاح انتصاره على إبليس فإن خضوعه وطاعته الكاملة للآب كانت هي سمة سلوكه بين الناس، ونحن لن نجد تلخيصا لحياته المباركة أفضل من ذلك الذي قاله بولس بالوحي :

« وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب » ( في2 : 8 )         لقد كانت طاعة السيد للآب مختلفة نوعياً عن أية طاعة نراها في أنفسنا أو نسمع عنها في حياة المؤمنين وسير القديسين، لقد كانت طاعته مبدئية شاملة أما طاعتنا نحن فثانوية جزئية، ثانوية لأنها دائما تأتي بعد أن يعلن لنا الله مشيئته ويحاصرنا بها ولا نجد منها مفراً، فعندما يعلن الله مشيئته بصورة واضحة للإنسان يبدأ الإنسان يتفاعل مع هذه المشيئة بصور مختلفة، فقد يساوم في تكلفتها أو يحاول أن يعدل في مسارها أو حتى أن ينأى بنفسه عن طريقها ، ولكن إذا حاصرته المشيئة ولم يجد منها مهرباً فإنه قد يبدأ يستسلم ويحني رأسه ويتعلم الطاعة!!

أما طاعة السيد فقد كانت طاعة مبدئية أي أنها سبقت إعلان أي تكليف أو مشيئة، لقد وضع إرادته وفق إرادة الأب وقرر أن يطيع مشيئته بسرور من قبل أن يعلن له أي تكليف، لقد كانت الطاعة بالنسبة له موقفا إرادياً مبدئياً أعطى للآب الفرصة الكاملة وأطلق يده لكي يضع في هذه الحياة المباركة كل إعلان أراده وكل مشيئة اختارها مهما كانت صعبة أو قاسية، لأن الطاعة مضمونة ومتوفرة من قبل أي تكليف أو إعلان.

وطاعتنا أيضا جزئية أي إنها تختص بمشيئة خاصة أو تكليف محدد لا يشغل من مساحة حياتنا قدراً كبيراً، كل القديسين كانت لهم « مواقف طاعة » أظهروا فيها طاعة لله في مشيئة محددة أو موقف خاص، أما بقية حياتهم فكانت تستمر لسنوات طويلة وفق الإرادة الشخصية بدون أي تكليف محدد أو مشيئة واجبة الطاعة، فذات الإنسان لا تحتمل أن تظل لفترات طويلة في طاعة لإرادة خارجية وموضوعة تحت التزام مستمر وخضوع متصل، فهذا الوضع يستلزم إنكارا كاملا للنفس لا تقوى عليه أية ذات إنسانية، والله العالم بطبيعة الإنسان لا يحمله فوق طاقته، لذلك نراه في حياة أعظم أبطال الإيمان يعطى للنفس فترات راحة تعيش فيها وفق إرادتها الطبيعية بعد كل « موقف طاعة» استلزم خضوعاً وإنكارا للذات!!

أما طاعة سيدي فلم تكن قط «مواقف طاعة» بل كانت « حياة طاعة »، طاعته شملت كل حياته بأدق تفاصيلها، في كل دقائق حياته كان يرفض أية إرادة طبيعية للنفس الإنسانية ويقبل إرادة أبيه مهما كانت مكلفة للنفس أو مهينة للذات، ولكي تتسنى له هذه النوعية من الطاعة الشاملة كان ينبغي أن.. .

يضع نفسه

الإنسان الطبيعي يقدر نفسه كثيرة ولديه دائما تخيل جيد عنها ويرسم لها في ذهنه صورة حسنة ويسعى دائما أن يراها الآخرون في أفضل حال، وبالغريزة يقاوم الإنسان كل اتجاه أو موقف يستشعر فيه الخطر على صورته، ويخاف جدا من أن يوضع في موضع تهتز فيه الصورة التي يراها الآخرون فيه أو التي يريدها هو لنفسه، وهذه الصورة الذاتية هي دائماً العقبة الأولى التي واجهت كل رجال الله في محاولتهم إطاعة الله، فالطاعة ممكنة طالما كانت غير متضاربة مع الحد الأدنى من الصورة المقبولة التي يراها كل واحد لنفسه ويريد أن يراه الآخرون عليها، لكن عندما تبدأ الذات تستشعر الخطر على صورتها من مطلب معين أو اتجاه محدد تتخذه مشيئة الله عندئذ يبدأ الصراع الداخلي المرير في قلب الإنسان، الصراع بين ذات تريد أن تتشبث بالحد الأدنى من الصورة المقبولة لنفسها وبين مشيئة الله التي تبدو للإنسان أنها تتخذ مسارا مدمراً لتلك الصورة، عندئذ تصبح الطاعة صعبة ومكلفة والخطوة في اتجاهها لها ثمن باهظ ومقرونة بدموع كثيرة، لأن الإنسان لن يستطيع أن يطيع إلا إذا اضطر أن يتخلى ولو جزئياً عن تلك الصورة التي رسمها في مخيلته وتمناها دائما لنفسه، هذا هو «وضع النفس »!!

لقد وضع سيدى نفسه بالكامل، أي إنه لم يشأ لها شكلا حسناً ولا حتى حدا أدني من القبول والمصداقية لدى الناس، ولذلك استطاع أن يطيع مشيئة الآب طاعة كاملة بلا حدود وبلا صراع، حتى عندما قادته هذه المشيئة لأوضاع مهينة ومؤلمة بحسب مقاييس أرض الإنسان وتقييمه، فأطاع عندما جعلته مشيئة الله «محتقراً ومخذولا من الناس » وعندما جعلته «لا صورة له ولا جمال» بل عندما جعلته «مهان النفس، مكروه الأمة، عبــد المتسلطين » !! وحتى جعلته «خطية» و «ذبيحة إثم» على صليب الجلجثة، لقد أطاع حتى الموت موت الصليب!! وللحديث بقية.