الأحد، 3 فبراير 2019

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (25)
بقلم : فخرى كرم

«فصلُّوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السموات» (مت6: 9)
بعد ما تحدث ربنا عن جوهر الصلاة وكونها علاقة سرية في الخفاء مع الآب السماوي، ليس للناس نصيب في تحديد وقتها أو كيفيتها أو مضمونها، كما ليس لهم الحق في تقييمها سلباً أو ايجاباً، بل الآب السماوي وحده الذي يرى صلاة أبنائه في الخفاء هو يجازيهم في العلن..، نجد ربنا يتقدم للحديث عن مضمون الصلاة وموضوعاتها من خلال هذا النموذج الذي اعتادت الكنيسة على تسميته «الصلاة الربانية». والحقيقة أن ربنا لم يقصد مطلقاً أن تكون هذه الصلاة مادة محفوظة تتكرر على ألسنة المؤمنين بنص كلماتها وحروفها، وما يدفعنا للجزم بذلك عدة أسباب:

(1) كان الرب قد نهى سامعيه تواً عن تكرار الكلام باطلاً كالأمم (ع7) ولا يُعقل أنه بعد هذا النهي مباشرة يقدم لهم نصاً ليحفظوه ويكرروه في كل مناسبة بلا وعي، فالمسيحية بحسب الكتاب المقدس لا تنادي بقدسية ألفاظ وعبارات محددة ينبغي أن نكررها في صلواتنا لنوال بركات خاصة، لكنها بالحري تنادي بعلاقة حميمة مع الآب السماوي تتخطى جمود الألفاظ ومحدودية الكلمات!!

(2) كان ربنا يصرف ساعات طويلة في الصلاة وأحياناً كان يقضي الليل كله في الصلاة، ولا يُعقل أن تكون هذه الصلاة بنصها هي موضوع صلاته وهي التي لا يستغرق ترديدها سوى ثوانٍ معدودة!!

(3) لم يُذكر في كل العهد الجديد أن تلاميذ الرب قد صلوا هذه الصلاة بنصها أو اقتبسوا منها عبارات في مواعظهم أو رسائلهم، أو تباركوا بترديدها في بداية عبادتهم أو نهايتها، أو علَّموا أتباعهم أن يحفظوها ويرددوها في صلواتهم، وإذا كنا نؤمن أن تلاميذ الرب هم أكثر الكل فهماً لتعاليم سيدهم فلابد أن نستنتج بالتالي أنهم لم يتعلموا من الرب أبداً ضرورة حفظ وترديد هذه الصلاة!!
كل هذه الأسباب تدفعنا لنفهم أن ربنا لم يقصد أن نحفظ نص هذه الصلاة ونردده، لكنه كان يقصد أن يلخص لنا المجالات التي ينبغي أن تدور فيها صلاتنا، فبين مقدمة وخاتمة نجد الرب يذكر لنا ستة مجالات لابد أن تدور صلاتنا في فلكهم، بل نستطيع أن نجزم أنه لم تخرج صلاة أي مؤمن طوال التاريخ البشري خارج نطاق هذه المجالات الستة!!

مقدمة: «أبانا الذي في السموات»
«أبانا»: هذه ليست كلمة للحفظ والترديد بل موقف قلبي ندخل به إلى ما وراء الحجاب!! ونحن نتقدم إلى الأقداس لابد أن نكون في موقف الابن الذي يتلهف ويشتاق للارتماء في حضن أبيه، انه لا يؤدي فرضاً ولا يصنع واجباً بل هو يسرع بشغف إلى موضع راحته!! ان وقت الصلاة والاختلاء بالآب السماوي هو واحة راحتنا الوحيدة في هذه البرية شديدة القسوة، انه المكان الوحيد الذي يمكننا أن نرتوي فيه من مياه نقية بدلاً من المياه المالحة التي يقدمها لنا العالم كل الوقت، ان محضر الآب السماوي هو المجال الوحيد الذي سنجد فيه «خبزاً» يسد جوعنا بدلاً من «الأحجار» التي يلقمنا إياها الناس، انه الموضع الوحيد الذي اذا طلبنا فيه «بيضة» سنجدها متاحة ومُشبعة ومُغذية بينما خارج هذا المحضر القدوس إذا لمس الناس جوعنا قدموا لنا مشاعر مزيفة وملتوية مثل «الحية»!!    يا ترى هل هذا هو بالحقيقة موقفنا من الصلاة؟!   وللحديث بقية (يتبع)