الاثنين، 3 أغسطس 2015

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (14)
فخرى كرم
«لكي يستد كل فم أمامه ويصير كل العالم تحت قصاص من الله»

(رو3: 19)
«فقال له: يا صاحب، كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس
 العرس؟! فسكت» (مت22: 12)

لعلها حالة السكوت البليغ الوحيدة في الكتاب المقدس التي لا أتمناها لنفسي ولا لقارئي العزيز!! عندما يسأل الله عن سبب عدم قبول الإنسان للنعمة المجانية فلا يجد الإنسان إجابة ولا يستطيع أن يرد ولا بكلمة واحدة!!
الإنسان بطبعه فصيح جداً في دفاعه عن نفسه ويستثمر كل طاقاته اللغوية والبلاغية والشعورية لتبرئة نفسه واكتساب رضا الناس وتعاطفهم، نحن نعرف جيداً كيف نقلب الحقائق ونلفق الأكاذيب ونخترع التفاصيل حتى نتنصل من المسئولية ونبرَّر أنفسنا من الذنب ونهرب من العقاب، حتى أن الكذب أصبح الصناعة الوحيدة التي نجيدها ونبرع فيها، نكذب على الكل: على القريب والبعيد، على العدو والصديق، بل أحياناً نكذب على أنفسنا!! نحن نفرح حين نشعر أننا كنا بارعين في الكذب على الآخرين لدرجة أننا أقنعناهم ببراءتنا واكتسبنا تعاطفهم، بل في بعض الأحيان نحن نبرع في الكذب والتمثيل لدرجة أننا نصدق أنفسنا ونتبرر في أعين ذواتنا!!
لكن ما لا يعرفه الإنسان أنه ستأتي لحظة لن يستطيع فيها أن يستخدم مهارته في المراوغة والتبرير، هناك سؤال لن يستطيع له إجابة وهناك إتهام لن يستطيع منه هروباً، وإذا أمكنه خداع الناس كلها فستأتي ساعة يقف فيها أمام مَن لا يمكن خداعه، وإذا عاش عمره كله يخادع ضميره ويقنع نفسه ببره الزائف فستأتي لحظة لن يستطيع أن يفعل هذا، ووقتها سيضطر الإنسان آسفاً -ربما لأول مرة -أن يسكت!! إنه سكوت العجز عن المراوغة والفشل في التبرير، سكوت الذهول عندما تنجلي الحقيقة في نور الإله الحق، سكوت الرعب عندما يرى أعماقه ودوافعه وأفكاره التي أخفاها عن الجميع عريانة ومكشوفة لعيني ذلك الذي معه أمرنا!!
أرسل الله الناموس للإنسان لكي يرشده إلى الطريق الصحيح للتمتع برضا الله وبركته، لكن الإنسان فشل في إلتزام هذا الطريق وحاد عنه، ولو حاكم الله الناس بحسب الناموس فلابد أن يستد كل فم أمامه ويصير كل العالم تحت قصاص من الله!! لكن في ملء الزمان تدخلت النعمة في هذا المشهد البائس وظهر بر الله بدون الناموس مشهوداً له من الناموس والأنبياء، بر الله بالإيمان بيسوع المسيح، لقد قدم الله لنا عطية أن نصير متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، وأصبح من حق الإنسان الخاطئ أن يخلع ثياب نجاسته ويرتدي ثياب بر المسيح مجاناً، وعندئذ يصبح من حقه أن يدخل إلى الأقداس ويقف أمام الله ويحظى بكل القبول والرضا والحياة الأبدية، يالها من نعمة مجانية عظيمة!! لكن ما رأيكم فيما يستحقه الإنسان إذا رفض هذه النعمة ولم يقبل بر الله المُقدم له؟! وإذا كان الإنسان قد برَّر كسره للناموس بصعوبة الوصايا وقسوتها فبماذا يبرِّر رفضه للنعمة في لطفها ومجانيتها؟!


ولقد حكى لنا الرب هذه الحقائق ببساطة في مَثَل الملك الذي صنع عرساً لإبنه وقال لعبيده أن يذهبوا إلى مفارق الطرق ويدعوا كل من يجدوه إلى العرس، وأن يخلعوا عن المدعوين ثيابهم القذرة ويعطونهم مجاناً ثياب عرس تليق بالوجود في حضرة الملك، ولكننا نندهش عندما نجد إنساناً يقرر أن يرفض هذه الدعوة السخية ويحاول أن يدخل إلى حضرة الملك بثيابه القذرة رافضاً ثياب بر المسيح المقدمة له مجاناً!! لقد وجّه له الملك بكل وداعة السؤال الذي لا يمكن لإنسان أن يجيب عنه «يا صاحب، كيف دخلت إلى هنا وليس عليك ثياب العرس»؟! وعندئذ سكت لأنه لا يمكن أن يجد الإنسان كلمات يبرر بها رفضه لنعمة الله المجانية، وللأسف إنه السكوت الأخير الذي يعلن أن فرصة التواصل مع الله قد إنتهت إلى الأبد، وإن الإنسان ماضٍ إلى أرض السكوت الأبدي!! وللحديث بقية (يتبع)