الجمعة، 31 ديسمبر 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (59)

بقلم : فخرى كرم

«فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم

 أيضاً بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء» (مت7: 12)

ها نحن قد وصلنا في دراسة موعظة الجبل إلى تلك العبارة العظيمة التي لخَّص فيها معلمنا الصالح كل وصايا الناموس والأنبياء، العبارة الجامعة المانعة التي رسم لنا فيها ربنا الطريق للبر العملي الذي يتطلع إليه قديسو العلى في كل العصور، العبارة الفارقة التي تميز بين الخير والشر أمام كل ضمير وداخل كل قلب، العبارة التي انحنت أمامها هامات عظماء الرجال فتغيرت حياتهم للأفضل وتركوا بصماتهم الصالحة على تاريخنا البشري، العبارة التي رفضها كثيرون فتجردت حياتهم من كل بر ومضوا في طريق الأرض كلها غير مأسوف عليهم، العبارة التي اصطلحنا على تسميتها «القانون الذهبي للمعاملات الإنسانية»!!

ربنا في كلمات بسيطة وسهلة يطلب منا أن نعامل الأخرين بأفضل ما نتمنى أن يعملوننا به، فاذا كنا نحب أن يقبلنا الناس ويقدروننا فلنقبلهم ونقدرهم، وإذا كنا نرغب أن يصدقنا الناس عندما نتكلم فلنصدقهم عندما يتكلمون، وإذا أردنا أن يخدمنا الناس ويقفوا بجوارنا في وقت احتياجنا فلنساعدهم ونقف بجوارهم في احتياجهم، وإذا كنا ننتظر منهم أن يسامحونا عندما نخطئ ويلتمسون لنا الأعذار فلنفعل معهم نفس الأمر عندما يخطئون في حقنا.

الرب بهذا القانون يضع لنا مقياساً يستطيع الضمير الصالح أن يتدرب به ويقيس عليه تصرفاته ويميز من خلاله ما ينبغي أن يفعله في كل المواقف، والرب يستند في هذا القانون على أساس راسخ في كل نفس إنسانية سوية وهو أن الإنسان الطبيعي السوي يحب نفسه جداً وينتظر أن يتعامل الجميع مع نفسه بأفضل اسلوب ممكن، وبالتالي ينبغي أن يطالب نفسه بأن يعامل الجميع بنفس الاسلوب، ولقد سبق ولخص ربنا كل وصايا الناموس المختصة بالتعامل بين البشر في عبارة واحدة وهي «تحب قريبك كنفسك».

دعونا نتخيل ولو لدقائق حال العالم لو ساد هذا القانون على العلاقات بين الناس جميعاً!! دعونا نتصور للحظات كم الخير والسلام الذي سيسود المجتمعات البشرية لو وجدت كلمات الرب هذه صداها في قلوب الناس!! لا شك أننا كنا سنجد أرضاً جديدة يسكن فيها البر والحق!! لكن للأسف ينبغي أن نستفيق من خيالنا وتصوراتنا سريعاً ونعود إلى واقعنا المرير الذي نعيشه في مجتمعات تموج بالعنف والقسوة والسحق للنفوس التي تحيا فيه، ماهو السبب يا ترى وراء ما وصلنا إليه؟

السبب بكل تأكيد أننا فشلنا أن نعيش هذا القانون الذهبي في علاقاتنا، ألفان من السنين لم نتعلم أن نخضع لكلمات الرب هذه ولم تجد لها صدى في قلوبنا!! ولو سألنا لماذا لم نستطع أن نحيا هذا القانون الذهبي سنجد الإجابة واضحة: أننا نحب أنفسنا أكثر مما نحب الأخرين!! الإنسان يعبد ذاته ويحبها بينما يشعر تجاه ذوات الأخرين أنهم منافسين ينبغي التخلص منهم أو إخضاعهم لفائدة ذاته!! الانسان يحب أن يعامله الجميع بالمحبة لكنه يشعر أنه غير مضطر أن يحبهم، كل واحد منا يقدر نفسه بأكثر من قدرها لكنه في نفس الوقت لا يشعر بالتزام أن يقدر الأخرين بنفس التقدير، إذا أخطأنا ننتظر من الأخرين الغفران لكن إذا أخطأ أحدهم تتحرك فينا كل نوازع الإدانة والرغبة في الإنتقام، كل واحد منا يشعر أن ذاته في كفة وكل ذوات الأخرين في كفة مقابلة، ودائماً كفته هي الأثقل!! ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)

الاثنين، 6 ديسمبر 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (58)

بقلم : فخرى كرم

«لأن كل من يسأل يأخذ..» (مت7: 8-11)

بعدما حدثنا ربنا عن الصلاة ومستوياتها الثلاث ها هو يشجعنا أن نصلي دائماً وبلا كلل، ولذلك نجده يقدم لنا وعداً مؤكداً أن كل مَن يسأل يأخذ ومَن يطلب يجد ومَن يقرع يُفتح له، لا يمكن أن تضيع صلاتنا أو تذهب أدراج الريح، إننا لا نضارب الهواء بل نتعامل مع إله عظيم يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أمر، إن كل وقت نقضيه في الصلاة أمام إلهنا لابد أن تكون له نتائجه الرائعة.

إيماننا بهذا الوعد ضروري جداً لحياتنا، فالكتاب يعلمنا أن الذي يأتي إلى الله لابد أن يثق أنه موجود وأنه يجازي الذين يطلبونه، بل يعلمنا أن كل عملٍ عظيم حدث في تاريخ شعب الله كان وراءه إيمان عظيم تمسَّك بالله العظيم ولم يتركه حتى تدخل في مسار الأحداث صانعاً خيراً واعلاناً عن شخصه (عبرانيين 11). وعلى العكس تماماً تعلمنا كلمة الله أن المرتاب الذي يشك في حصوله على احتياجه من خلال الصلاة لن ينال شيئاً من عند الرب (يع1: 5) فالشك في فاعلية الصلاة هو في الحقيقة شك في وجود الله وصلاحه، وهذا الشك يهين الله ويحزن روحه ويعطل وصول البركة إلينا!!

الرب يؤكد لنا أن صلاتنا لابد لها من إجابة لأنه يعلم أن طبيعتنا التي جُبلنا عليها هي طبيعة نفعية، طبيعتنا لا تُقدم على فعل أمر إلا إذا تأكدت من المنفعة التي ستعود علينا من وراء هذا الفعل، الإنسان لا يمكنه أن يبذل الوقت والمجهود في طريق لا يثق في فائدته ونفعه، وهذا يفسر لنا سبب ضعف حياة الصلاة في أوساط المؤمنين وقلة الوقت الذي يُصرف في الشركة مع الله، فالحقيقة المحزنة هي أننا لم نعد نؤمن جدياً في فاعلية الصلاة، لقد انصرف المؤمنين إلى وسائل أخرى للحصول على ما يريدون وتطلعوا إلى مصادر أخرى لتسديد احتياجاتهم!!

ووعد الرب بالإجابة ليس مجرد محفِّز لا يستند على أساس بل هو يستند على أساس راسخ لا يهتز أبداً، وهذا الأساس هو أبوة الله الصالحة، لذلك يتابع الرب كلامه ويشير إلى موقف سامعيه من أولادهم، كيف أن الأب الأرضي بالطبيعة لا يمكنه أن يجاوب سؤال ابنه للخبز بحجر التجاهل والاحتقار، ولا يمكنه أن يتعامل مع طلب ابنه لسمكة بخبث وسم الحية، فالأب الأرضي مهما كان شريراً إلا أن طبيعته تدفعه أن يعطي عطايا جيدة لأبنائه، فكم بالحري الآب السماوي كلي الصلاح يهب خيرات للذين يسألونه، إن أبانا السماوي لا يمكنه أن يغلق أحشاءه تجاه واحد من أولاده يسأل احتياجه بثقة وإيمان!!

لكن لابد أن نلاحظ هنا أن ربنا لا يؤكد أننا بالضرورة سنأخذ نفس الأشياء التي نسألها لكنه يؤكد أن أبانا السماوي سيمنحنا «خيرات» بحسب أبوته الصالحة، فكثيراً ما يطلب الأبناء أشياءً ليست لخيرهم بل أحياناً تكون لضررهم وضرر المحيطين بهم، فنحن كثيراً ما نخطئ في تمييز احتياجاتنا الحقيقية ونلح في طلب أمور لا يرى الله أنها احتياجنا الحقيقي، فلا ننتظر من الآب الصالح أن يعطينا نفس الأشياء الضارة التي نطلبها لكنه بالتأكيد سيعطينا «الخيرات» التي نحتاج إليها فعلاً!! فإذا كان الأب الشرير لا يمكنه أن يعطي حجراً لابنه الذي يسأله خبزاً فالآب السماوي إذا سأله ابنه بجهلٍ حجراً ليأكله فسيعطيه خبزاً!! فأبونا يعلم ما نحتاج إليه أكثر مما نعرف نحن، ومشاعره تجاهنا أكثر صلاحاً من مشاعرنا تجاه أنفسنا!! ليتنا نثق في أبينا الصالح ولا نكف أبداً عن الصلاة في كل وقت ولأجل كل شيء!! وللحديث بقية (يتبع) 

السبت، 6 نوفمبر 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (57)

بقلم : فخرى كرم 

«اقرعوا يُفتح لكم» (مت7: 7)

بعدما تحدث ربنا عن مستوى «السؤال» ومستوى «الطلب» نجده يتحدث عن المستوى الثالث في العلاقة مع الله ألا وهو «اقرعوا يُفتح لكم». وهنا لابد أن نسأل: على أي باب نقرع؟ هل نقرع على باب الله لكي يفتح لنا؟ حاشا! فالرب يكلمنا باعتبارنا أبناء الآب السماوي، أي أننا داخل البيت وليس خارجه، بل أننا بيته الروحي وهيكل حضوره على الأرض، الله بنفسه يسكن بداخلنا ولا يوجد بيننا وبينه أبواباً مغلقة. إذاً القرع هنا لا يمكن أن يكون على باب الله، وهذا يدفعنا للسؤال مرة أخرى: على أي باب نحن نقرع؟

ولكي نجيب على هذ السؤال لابد أن نسترشد بربنا نفسه وهو يقول «هنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه» (رؤ3: 20) على أي باب يقرع ربنا هنا؟ انه يقرع على الباب الروحي المغلق على النفس الإنسانية لعلها تستفيق من ضلالها وتفتح له، وهذا يقودنا لسؤال جديد: هل الكتاب المقدس يعلمنا أن هناك أبواب روحية مغلقة بين الله والنفس الإنسانية؟! والإجابة بكل تأكيد هي: نعم!! يقول الرسول «الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة انجيل مجد المسيح» (2كو4: 4) إبليس يستخدم قواته الروحية الشريرة لكي يغلق على أذهان وأرواح الناس حتى لا تصل إليهم كلمة الله ولا يفهموها ولا يسلكوا في طريق الخلاص.

ولقد أشار ربنا إلى هذه الأبواب عندما قال «على هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت16: 18) من البديهي أن الرب لم يقصد أن أبواب الجحيم ستهاجم الكنيسة ولن تقوى عليها لأننا نعلم أن الأبواب لا تهاجم أحداً، لكن الرب قصد أن الكنيسة ستهاجم أبواب الجحيم وستقرع عليها لكي تنفتح وتتحرر النفوس المأسورة بالداخل، ووعد الرب لنا أن أبواب الجحيم لن تقوى أمام هجوم الكنيسة وستنفتح وتتحرر النفوس المسجونة بداخلها بقوة عمل الإنجيل.

ولعل أفضل تجسيد لهذه الأبواب الجهنمية ما نقرأه في سفر دانيال عن الرؤساء الروحيين الأشرار الذين يغلقون الأجواء الروحية فوق العالم لكي لا تصل كلمة الله إلى الناس (دا10: 13) حتى أنهم استطاعوا أن يؤجلوا وصول كلمة الله إلى دانيال لمدة ثلاثة أسابيع كاملة!! هناك قوات شيطانية كثيفة تعمل ليلاً ونهاراً لكي تظل كلمة الله بعيدة عن أذهان الناس وأرواحهم، وإبليس يستخدم في هذا كل الأكاذيب والأفكار الشريرة والتعاليم المضللة..، وأن نقرع على هذه الأبواب المغلقة يعني أن نخوض في صلواتنا وخدماتنا حرباً روحية على كل الأفكار والظنون التي ترتفع ضد معرفة الله، ونستأسر كل فكر إلى طاعة المسيح (2كو10: 5)

عندما كان ربنا على الأرض كان يجول يقرع على هذه الأبواب، بتعاليمه التي أنارت الأذهان ولمساته الحانية والشافية انفتحت أبواب الجحيم وانطلقت النفوس متحررة من سلطان إبليس (أع10: 38) وها هو يشرفنا بأن يدعونا لكي نقرع معه، ولنا الوعد أن أبواب الجحيم لن تقوى أمامنا وستنفتح لنا وسنختطف من النار نفوساً تعرف الله وتخلص (يه23)

الرب في هذا المستوى من الصلاة ينقلنا من الانحصار في احتياجاتنا وظروفنا الضيقة ويفتح أمامنا مجالاً أرحب وهو الاهتمام بالنفوس المأسورة المحيطة بنا، من خلال صلواتنا وخدماتنا المُقادة بالروح القدس نستطيع أن نفتح أبواباً كثيرة مغلقة ونحرر نفوساً كثيرة محرومة من النور والحرية، وللحديث بقية (يتبع)

السبت، 9 أكتوبر 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (56)

بقلم : فخرى كرم 

«اطلبوا تجدوا» (مت7:7)

بهذه الكلمات ينقلنا الرب إلى مستوى آخر في العلاقة مع الله يختلف عن مستوى «اسألوا تُعطوا»، فالكلمة «اطلبوا» تعني السعي الدؤوب للوصول إلى غرض ما، فلا يظن أحد أن علاقتنا مع الله هي فقط أن «نسأل» منه بعض الأمور فيعطينا إياها، حياتنا تمتلئ بأمور لا يمكننا أن نسألها بل ينبغي أن نبذل قصارى جهدنا للوصول إليها، ولذلك نجد أن إجابة «اسألوا» هي «تُعطوا» بينما إجابة «اطلبوا» هي «تجدوا»، أي أن هناك أمور لا يمكن لأحد أن يعطيها لنا بل ينبغي أن نسعى نحن لكي نجدها لأنفسنا.

مشكلة كبيرة في وسط شعب الرب أنهم يعتقدون أن الصلاة هي أن يقفوا ليعددوا احتياجاتهم أمام الله وينتظرون أن يضعها الله في أيديهم بشكل معجزي دون أن يبذلوا أي مجهود في سبيل ذلك، أنظر إلى معظم صلواتنا سواء الفردية أو الجماعية تجدها عبارة عن قائمة بالطلبات التي ننتظر أن يسكبها الله علينا من السماء ونحن في أماكننا لا نبرحها!! هذا تصور ساذج عن الصلاة، ولا غرابة إن كان انتظارنا يطول دون الحصول على أي شيء مما نطلبه!!

الفضائل الروحية في حياتنا مثل القداسة والمحبة والسلام.. الخ، كلها أمور لا يمكننا أن نسألها من الله وننتظر أن تتحقق في حياتنا بدون مجهود منا، لكنها تحتاج منا إلى جهاد روحي متواصل لا يفتر ولا يكل، نحتاج في كل يوم أن نقترب إلى إلهنا أكثر، ونمتلئ من روحه أكثر، ونتغذى على كلمته أكثر، ونقاوم الخطية المحيطة بنا أكثر، ونتسلح بكل وسائط النعمة المتاحة لنا أكثر!! هذه الفضائل يسميها الكتاب «ثمر الروح» (غل5: 22) وكلمة «ثمر» تؤكد هذه الحقيقة، فالفلاح لا يحصد الثمر بمجرد الدعاء بل ينبغي أن يجتهد ويتعب في زراعة بذور جيدة ويستمر يرعاها في كل يوم، ويعتني بالبراعم وهي تنمو، ويقاوم كل الآفات الضارة بالنبات، وهكذا يستمر بلا كلل حتى يأتي وقت الحصاد فيجمع «ثمراً» جيداً.

الله يريد أن يزرع في حياتنا كل القيم الروحية الثمينة لكي نكون مشابهين صورة ابنه، وروحه القدوس يتعامل معانا كل يوم لتحقيق هذا الغرض، ولكن نحن مسئولون عن التجاوب مع عمل الروح القدس وإتاحة الوقت والإمكانية ليتمم عمله فينا.

 لنفترض أن هناك مؤمن يصلي بلجاجة لأجل امتلاك القداسة في حياته ولكنه في نفس الوقت لا يعطي وقتاً كافياً للوجود في محضر الله القدوس (مت6:6) ولا يصرف وقتاً كافياً لدراسة الكلمة المقدسة لتسكن بغنى في ذهنه (كو3: 16) ولا يبذل مجهوداً كافياً للانتصار على الخطية المحيطة به بسهولة (عب12: 4) ومن الناحية الأخرى نجده يعطي ساعات طويلة يتجول بعينه وذهنه في وسائل التواصل الاجتماعي التي تمتلئ بروح العالم بكل شروره وأكاذيبه، ويترك الوقت يتسرب منه بسهولة وهو منشغل في علاقات افتراضية رخيصة ومزيفة، هل نتوقع أن يحصل هذا المؤمن على حياة القداسة الحقيقية مهما استمر يصلي لأجلها لسنوات؟ كلا بالتأكيد!! لأنه يظن أنه سيحصل على حياة القداسة بمجرد «السؤال» من الله بينما الحقيقة أنه لابد أن «يطلب» القداسة ويسعى باجتهاد في سبيلها.

ليت الرب يعلمنا كيف ننتقل بصلواتنا من مستوى السؤال إلى مستوى الطلب، ليته يرى في حياتنا الجدية والالتزام والاجتهاد فيكلل حياتنا بالإثمار والبركة!! وللحديث بقية (يتبع)

الاثنين، 6 سبتمبر 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (55)

بقلم : فخرى كرم

 

«اسألوا تُعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم» (مت7:7)

بعد ما حذرنا ربنا من سكب أعماقنا أمام الناس هاهو يرشدنا إلى المجال الوحيد الآمن للتعبير عن احتياجاتنا العميقة ومكنونات قلوبنا، ألا وهو مجال الشركة اللصيقة مع الآب السماوي، أو كما نسميها اختصاراً «الصلاة». والرب هنا يكلمنا عن ثلاثة مستويات للصلاة: «السؤال» و«الطلب» و«القرع».

المستوى الأول: اسألوا تُعطوا

السؤال هو طلب احتياجنا من الله عندما لا تكون لدينا أية قدرة لفعل أي شيء حيال هذا الاحتياج، مثل الطفل الصغير الذي يتطلع إلى والديه بثقة وينتظر منهما تسديداً لكل احتياجاته لأنه لا يملك ما يساعد به نفسه، وهذا المستوى هو ما يغلب على علاقتنا بالآب السماوي في بدايات حياتنا الروحية، لأننا كأطفال مولودين حديثاً في العالم الروحي نشعر باحتياجنا العميق لأشياء كثيرة لا نفهمها ولا نستطيع حيالها شيئاً، والحقيقة أن الله يُسر بأن يسمع لسؤالنا ويجيبنا ويسدد كل احتياجنا بحسب غناه في المجد (في4: 6، 19) ولكن كلمة الله تضع أمامنا بضعة شروط ينبغي توفرها في سؤالنا لكي يستجيبه الله:

(1) التوافق مع مشيئة الله (1يو5: 14): الله يرسم لكل واحد من أولاده أفضل سيناريو لحياته وأفضل تفاصيل توافق شخصيته ودعوته، والمؤمن الناضج هو الذي يدرك هذه الحقيقة ولا يسأل من الله إلا ما يتوافق ويتمم مشيئته الصالحة، لكن المشكلة هي أننا في طفولتنا الروحية كثيراً ما نتعلق بأشياء نراها في حياة الآخرين ونريدها في حياتنا حتى لو لم تكن ضمن مشيئة الله الخاصة بنا، مثل الأطفال الذين تحركهم دائماً الغيرة نحو امتلاك ما في حوزة الآخرين سواء كان مناسباً لهم أم لا، فسمة الأطفال الروحيين هي تعلقهم بالأشياء التي يروها في حياة الآخرين أكثر من تعلقهم بالأشياء التي يريدها الله أن تكون موجودة في حياتهم، يطلبون بالحاح أشياء معينة ليس لأنها في مشيئة الله بل فقط لكي لا يشعروا أنهم أقل من الآخرين!!

(2) أن تكون للخير ( يع4: 3): أحياناً نطلب أشياء نعتقد أنها خير لنا بينما يراها الله مغذية لشهواتنا الردية وسبباً لشر كثير!! تماماً مثل الطفل الصغير الذي كثيراً ما يتعلق بأشياء لمجرد أنها لذيذة المذاق أو شهية المنظر بينما يعلم الأباء أنها مضرة جداً بصحته!! ولذلك نرى الأباء لا يستجيبون لإلحاح أطفالهم وصراخهم ودموعهم لأنهم حريصون على خير أبنائهم أكثر من الأبناء أنفسهم!!

(3) أن تكون باسم المسيح (يو16: 23، 24): المؤمنون هم جسد المسيح وأعضاء جسده، وبالتالي ينبغي أن تكون طلباتهم من الآب باسم المسيح، أي كما لو أن المسيح بذاته هو الذي يطلبها، والآب بكل تأكيد سيستجيب كل طلبة يطلبها المسيح لأنه (له المجد) لا يطلب إلا كل ما يؤول لمجد الله الآب. لذلك يمكننا أن نضع امتحاناً بسيطاً لطلباتنا: هل يطلب يسوع هذه الطلبة لو كان في مكاني؟!

(4) أن تكون بلجاجة (لو18: 1): أحياناً تكون طلبتنا مقبولة في جوهرها لكنها تحتاج إلى وقت لتتسق مع توقيت الله وتتوافق مع مقاصده، لكننا عادة ما نكون متعجلين أكثر من اللازم وغير قادرين على الصبر والمواظبة في الصلاة لو تأنى الله في الاستجابة، وبالتالي نفقد فرحة التوافق مع توقيت الله حين نراه يستجيب طلبتنا في وقته المناسب!! ليتنا نتعلم أن نواظب ونثابر في صلاتنا عالمين أن الأوقات والأزمنة هي في سلطان الآب وأن توقيته دائماً هو الأفضل!! وللحديث بقية (يتبع)

الاثنين، 9 أغسطس 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (54)

بقلم : فخرى كرم

 

«لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير» (مت7: 6)

في داخل كل واحد منا مكان سحيق نختزن فيه أعمق مشاعرنا وأدق خصوصيتنا وأغلى ذكرياتنا، وهناك أيضاً ندفن أحزاننا واحباطاتنا وجراحنا السخينة، أنه المكان الذي يحتوي على مفاتيح شخصياتنا وأسرار كينونتنا، هذا المكان لا نحب أن يعرفه أحد ولا تدخله قدم ولا تتجول فيه عين، إنه يشبه القدس الذي ينبغي ألا يقترب منه غريب، ويشبه الجواهر التي تحاول المرأة أن تخبأها في مكان لا تصل إليه يد إنسان.

يحذرنا ربنا هنا من أن نسمح لأحد بأن يدخل إلى هذا «القدس» ويمد يده على هذه «الدرر»!! فأحياناً نعتقد بسذاجة أن الآخرين ربما يساعدوننا إذا عرفوا ما نختزنه في أعماقنا، لكن ربنا يكشف لنا ما سيحدث إذا فعلنا هذا، سنُفاجأ بأنهم لا يقدِّرون أمورنا كما نقدّرها نحن بل يزدرون بها ويدوسونها، فمشاعرنا لا قيمة لها عند مَن لم يشعر بها، وأحزاننا لا تساوي شيئاً عندهم، آمالنا وطموحاتنا واحباطاتنا لا قيمة لها عند أي أحد، هذه كلها ذات قيمة عندنا نحن فقط لأنها شكَّلت كياننا، لكن إذا أتطلع آخر عليها فلن يرى فيها أية قيمة!!

ازدراء الناس بما اكتشفوه في أعماقنا سيزيد معاناتنا وآلامنا، ولن تنتهي الخسارة عند هذا الحد لكنهم سيلتفتون نحونا ليمزقونا شر تمزيق، فمَن اتطلع على مكنونات النفس العميقة يسهل عليه سحق هذه النفس وتمزيقها، ومن عرف نقاط الضعف في شخصياتنا يستطيع بكل سهولة أن يسيطر عليها ويحطمها.

ونأتي هنا للسؤال الأهم: ما علاقة كلمات الرب هذه بحديثه السابق في موعظة الجبل؟! والإجابة هي أن العلاقة وطيدة ومؤكدة. لقد تكلم الرب في الجزء السابق عن أدعياء التقوى الذين يذهبون للبسطاء من الشعب ويؤكدون لهم أنهم يميزون القذى الذي في أعينهم، ويطلبون منهم السماح لكي يمدوا أيديهم ليخرجوا لهم القذى، ولقد فاجأنا الرب بحقيقة أن هؤلاء الأدعياء تملأ عيونهم قطع كبيرة من الخشب!! واتهمهم الرب بالرياء، وقال إن عليهم أن يخرجوا الخشبة أولاً من عيونهم قبل أن يستطيعوا اخراج القذى من عيون الآخرين، ثم تقدم الرب في حديثه ليخاطب بسطاء الشعب ليحذرهم من السماح لهؤلاء الأدعياء بالاقتراب من أقداس حياتهم وأسرارها، وطالباً منهم ألا ينخدعوا في هؤلاء المرائين ولا يسمحون لهم بالدخول إلى تفاصيل حياتهم الدقيقة تحت دعوى المعالجة والإصلاح.

في (حز 34) نجد صورة مفصلة لهذه العلاقة بين الرعاة الأردياء والغنم المسكينة، إذا ذهبت شاة بمرضها إلى هؤلاء الرعاة لا يقووها، والمجروحة لا يعصبوها، والمكسورة لا يجبروها، أي أنهم يزدرون ويدوسون معاناة بسطاء الشعب، وليت الأمر انتهى عند هذا الحد لكن يقول الكتاب «بل بشدة وبعنف تسلطتم عليهم» لقد التفتوا ليمزقوا ويشتتوا غنم الرب على كل وجه الأرض!!

ولو سألنا ما هو الحل إذاً؟ إلى مَن نذهب بمعاناتنا الداخلية ومكنونات نفوسنا الخفية؟ نجد الرب يجيبنا «أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب، أطلب الضال وأسترد المطرود وأجبر الكسير وأعصب الجريح» (حز34: 15، 16) فلا يستحق أن يدخل إلى «قدس» حياتك إلا «القدوس» ولا يستحق أن تكشف له مكنونات نفسك إلا من افتدى هذه النفس بدمائه الثمينة!! ولذلك نجد ربنا يستطرد في حديثه التالي ليتكلم عن الصلاة التي هي القناة الآمنة الوحيدة التي من خلالها نستطيع أن نسكب مكنونات نفوسنا أمام الله وننال كل شفاء وتعزية وتقديس، ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)

السبت، 3 يوليو 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (53)

بقلم : فخرى كرم

 

«لا تدينوا لكي لا تُدانوا» (مت7: 1)

ينتقل ربنا في حديثه إلى منطقة أخرى من مناطق السلوك الإنساني، ألا وهي الميل الداخلي لملاحظة أخطاء الآخرين وإدانتها والتطوع بإسداء النصح لهم ومحاولة تقويمهم، هذا الميل الغريزي نلاحظه فينا جميعاً بدرجة أو بأخرى، إنه الميل للجلوس على كرسي الديان وإصدار الأحكام على الجميع وتصنيفهم ووضعهم في درجات مختلفة ارتفاعاً وانخفاضاً.

بمجرد أن نبدأ التعامل مع أي إنسان تبدأ أذهاننا تكوّن عنه انطباعاً من خلال مظهره وطريقة كلامه ومسلكه، ونبدأ نتعامل معه في ضوء هذا الانطباع بل نقوم بنقل انطباعنا هذا للآخرين على أنه حقائق مؤكدة، وبناءً على هذا الانطباع نصدر أحكامنا على كل ما لا يروق لنا في هذا الإنسان، كل هذا يحدث بسلاسة وتلقائية دون أن ندرك أننا نرتكب جريمة ونسقط في عصيان، لأنه كثيراً ما تكون انطباعاتنا هذه خاطئة وسطحية وتتسبب في آلام عميقة وخسائر فادحة للآخرين!!

ولو تسائلنا عن الدافع الخفي وراء هذا الميل القوي في داخلنا لإدانة الآخرين نجد الرب يكشف لنا أن الدافع هو الرغبة في تبرير ذواتنا والتغطية على عيوبنا!! ان الإنسان الذي يلاحظ القذى في عين أخيه ويتبرع بمحاولة إخراجه هو في الحقيقة يشتت الانتباه لكي لا يلاحظ أحد الخشبة التي في عينه هو!! ليس الهدف وراء إدانة الآخرين هو أن تصير حياتهم أفضل وأطهر بل الهدف هو محاولة تشويههم لنبدو نحن أفضل منهم!!

في هذا الجزء من موعظة الجبل ينهانا ربنا تماماً عن إدانة الآخرين ويحذرنا من الانجراف وراء هذا الدافع الغريزي الكامن في أعماقنا، فالإنسان ينبغي ألا يكون دياناً لأخيه الإنسان لعدة أسباب:

(1) محدودية الإدراك: إن إدراكنا للشخص الذي نتعامل معه يكون في الغالب محدود جداً وسطحي للغاية، لأننا لا نرى من الإنسان إلا المناطق الظاهرة في حياته من كلمات وتصرفات، لكننا لا نرى ولا ندرك ما يكمن وراء هذه المظاهر، إننا لا نعرف الميراث الجيني والروحي الذي انتقل لهذا الإنسان من أجداده، ولا نعرف تأثير بيئته على تكوين شخصيته، ولا نعرف الظروف والأحداث التي مرت به وتركت بصمتها على تفكيره، إن ما لا نعرفه عن أي إنسان أكثر بكثير جداً مما نعرفه عنه!! بل لا نبالغ إذا قلنا إن الإنسان نفسه لا يعرف حقيقة نفسه بشكل كامل (أر17: 9)

لا يستطيع القاضي أن يصدر حكماً عادلاً إلا بعد الإلمام التام بكل تفاصيل القضية التي يحكم فيها، وبالتالي نحن غير مؤهلين بالمرة لأن نصدر أحكاماً على أي إنسان لأننا لا نلم بكل تفاصيل حياته ودوافعه، كم مرة تسرعنا في حكمنا على أناس وسببنا لهم آلاماً وجراحاً كثيرة ولما تكشفت لنا الحقائق أدركنا أننا أخطأنا في حكمنا وتسرعنا في إدانتنا لكن بعد فوات آوان التراجع، دعونا نترك الدينونة لله الذي له الحق وحده في الحكم على البشر، لأنه وحده فاحص القلوب ومختبر الكلى الذي كل شيء مكشوف أمامه.

(2) الخضوع لنفس الحكم: يعلمنا ربنا هنا مبدأ هاماً وضعه الله ليحكم علاقات البشر، هذا المبدأ هو أن ما يزرعه الإنسان لابد أن يحصده ومن نفس النوع (غلا6: 7) فلو اعتادنا على ادانة الآخرين فسوف يديننا الآخرون، ولو تسرعنا في حكمنا عليهم وسببنا لهم ألماً فلابد أن تدور الدوائر ويحكم الناس علينا ونعاني من نفس الإحساس بالألم، وبالكيل الذي نكيل به الاتهامات للآخرين لابد أن يُكال لنا!! وللحديث بقية (يتبع)

  

الجمعة، 4 يونيو 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (52)

بقلم : فخرى كرم 

«الغد يهتم بما لنفسه، يكفي اليوم شره» (مت6: 34)

يختتم الرب كلامه عن علاقتنا بالمال بالحديث عن سبب سابع يدفعنا لعدم اكتناز المال، ألا وهو

ضرورة أن نعيش يوماً واحداً كل يوم!!

يعلمنا الكتاب أن الله خلق الأرض تدور في وحدات تتكرر بشكل منتظم، وتكرارها يصنع ما نسميه «الزمن». فأعمارنا تُحسب بوحدة نسميها «السنة» والسنة ما هي إلا دورة كاملة للأرض حول الشمس، وهذه الوحدة أعاد الله تقسيمها إلى وحدات أصغر نسميها «اليوم» واليوم ما هو إلا دورة كاملة للأرض حول نفسها، وتكرار وحدة «اليوم» يصنع «السنة» التي تصنع بتكرارها عمرنا كله!!

لماذا قسم الله الزمن إلى هذه الوحدات الصغيرة؟ لأنه خلق أجسادنا لا تحتمل الضغط والعمل بشكل متصل، لأن أجسادنا مخلوقة من تراب هذه الأرض لذلك هي خاضعة لنفس الطبيعة الدائرية التي خُلقت منها الأرض، تحتاج أجسادنا بعد نهار من العمل والتعب إلى ليل تستريح فيه وتسكن كل حواسها عن العمل لكي تجدد طاقتها لبدء دورة جديدة مع بداية نهار جديد، ولذلك قسم الله وحدة «اليوم» إلى مساء وصباح بشكل متعاقب ومنتظم، الليل للراحة والسكون والنهار للعمل والاجتهاد، ولو لم تنتظم أجسادنا مع هذه الدورة المتعاقبة تختل كل وظائفها وترتبك كل طاقاتها!!

هذا القانون نراه واضحاً في الكتاب عندما أعطى الله المن للشعب القديم وكانت وصيته أن يخرج الشعب باكراً ليجمع المن فريضة كل يوم بيومه، ومن كان يجمع لأيام تالية كان يكتشف فساده!! وفي حديث ربنا هنا نجده يشير إلى نفس المبدأ ألا وهو أن أجسادنا ونفوسنا يكفيها أن تواجه شر يوم واحد، لقد خُلقت بهذه الإمكانية المحدودة، ويطمئننا ربنا بأن الله إذا سمح لنا بالغد فسوف يعطينا مع هذا الغد ما يكفينا لعبوره.

لكن بعد السقوط ونزول الإنسان إلى الأرض ليعملها أراد إبليس أن يفسد طبيعة الإنسان السوية التي خلقها الله، فألقى في قلب الإنسان أن يعمل ليلاً ونهاراً تحت ضغط الجشع والطمع والرغبة في زيادة موارده، لم يعد الإنسان ينام بالليل بقدر كافٍ ولم تعد حواسه تسكن لتجدد طاقاتها، أصبح الإنسان تحت ضغط العمل بشكل متصل وهو لم يُخلق بهذه الإمكانية!!

ونتيجة لهذه الضغوط أصبح الإنسان لا يحمل هم يومه فقط بل صار يحمل هم أيامه القادمة، وأصبح ذهنه مطالب بالتفكير في سنين قادمة وجسده مطالب بالعمل ليختزن المال لهذه السنين، لم يعد ذهن الإنسان يجد فترات راحة لتجديد نشاطه ولم تعد أعصاب الإنسان تحتمل هذه الهموم بشكل متصل، وتحت تأثير روح العالم دخل الإنسان في هذه الدوامة التي أفسدت طبيعته السوية التي خُلق عليها، هذه الدوامة التي لا يخرج منها الإنسان إلا وقد تمزق إلى أشلاء وبقايا محترقة!!

ربنا يحذرنا هنا من أن ننجرف وراء روح اختزان المال والخوف من المستقبل، لأن هذا الروح يحمّل أجسادنا ونفوسنا فوق طاقتها ويؤدي بها إلى الأمراض والعلل التي صرنا نراها بشكل متزايد في أنفسنا ومن حولنا، ليتنا نتعلم من كلمات ربنا هذه وليتها تسكن فينا عميقاً فنبدأ كل يوم من حياتنا بنفوس متجددة الطاقة ترفع عيونها على خالقها لتستمد منه نعمة تكفي يومها الجديد، وعندما يميل النهار ليتنا نتعلم كيف نلقي الهموم بعيداً ونهدأ لديه آمنين وبين منكبيه نسكن (تث33: 12) وللحديث بقية (يتبع)

الثلاثاء، 4 مايو 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (51)

بقلم : فخرى كرم

 

«ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته (عمره) ذراعاً واحدة» (مت6: 27)

بهذه الكلمات يكشف ربنا عن سبب دفين في قلب الإنسان يدفعه لاكتناز المال، ألا وهو رغبته في اطالت عمره على الأرض، فالإنسان يولد وبداخله دافع غريزي للاستمرار بالوجود، وبالتالي ينشأ ويتزايد بداخله خوف شديد من أي شيء وكل شيء يمكن أن يهدد هذا الوجود، هذا الدافع والخوف الغريزي هو ما دفع الإنسان للتجمع في مجتمعات وانشاء الحضارات واختراع الأسلحة التي يصارع بها قوى الطبيعة المقاومة لوجوده، هذا الخوف ذاته هو الذي دفع الانسان للإقامة في مساكن يغلقها عليه بدءاً من المغاير وشقوق الأرض ومروراً بالخيام والحجارة وانتهاءً بالأسمنت المسلح!!

 الإنسان متشبث بشدة بالاستمرار في الحياة ولو على حساب حياة الأخرين!! الانسان متعلق غريزياً بالاستمرار بالوجود على هذه الأرض سواء بوسائل مشروعة أو غير مشروعة!! هذه الدافع الغريزي يقف وراء كل اختراع وتطور جديد تشهده البشرية، ولكنه أيضاً يقف وراء كل صراع وقتال بين أفراد المجتمع الإنساني الواحد!! ولعلك لو وقفت أمام أهرامات الجيزة وتطلعت إلى حجم ومتانة بنيانها تستطيع أن تكوِّن فكرة عن مدى تشبث الإنسان بالاستمرار في الوجود، هؤلاء القدماء كانوا يرفضون فكرة أن يموتوا وينتهي ذكرهم من تحت السماء، فصنعوا ما يجعلهم خالدين في هذه الأرض محط أنظار الأجيال التالية لهم!!

ويكشف لنا الرب هنا أن أحد الوسائل التي يلجأ إليها الإنسان لضمان الاستمرار في الوجود هو اختزان المال، وهذا الدافع الغريزي يرجع في جذوره للإنسان البدائي القديم الذي كان يشعر أنه إذا اختزن زاداً كثيراً لاستطاع أن يغلق على نفسه ويستمر موجوداً لأيام كثيرة لا يضطر فيها للخروج ومواجهة الأخطار التي تهدد حياته!! لذلك نجد الغني الذي أخصبت كورته يبني مخازن أكثر يضع فيها خيراته الكثيرة ويمنّي نفسه بالوجود لأيام كثيرة، لكنه اكتشف متأخراً أن ما يحدد وجوده هو كلمة الله وليس ما يمتلكه من زاد وممتلكات!!

(6) المال لا يضمن الوجود ولا يطيله

كلمة الله تعلمنا أن آجالنا هي بيد الله (أي14: 5، مز31: 15) وإن امتلاك المال الكثير لا يضمن أبداً أياماً كثيرة (لو12: 15) كما أن قلة المال لا تسبب بالضرورة ضعف الحياة أو قصرها، فكم من فقراء عاشوا حياة طويلة وعريضة وعميقة بل وأغنوا كثيرين (2كو6: 10) وفي المقابل نعرف كثيرين من ذوي الأموال والأبناء والممتلكات شهدوا أن حياتهم كانت قليلة وردية (تك47: 9)!!

كان نبوخذنصر رأساً لمملكة من ذهب، أغنى مملكة نشأت على وجه الأرض، فظن أن أمواله تضمن له الحياة والدوام والعظمة، فأمرت السماء أن يفقد عقله ويعيش هائماً بلا مسكنٍ، يأكل عشب الحقل ويبتل بندى السماء، لم تُغني عنه أمواله شيئاً ولم تمنع عنه شراً، حتى أمرت السماء أن يعود إليه عقله فعلم أن السماء سلطان في مملكة الناس، وأن جدوى أيامنا وقيمتها لا يحددها ما نمتلكه من أموال بل ما تقرره السماء، ولو وضعت السماء حداً لأيامنا فلا يمكن لكل مجهوداتنا وأموالنا أن تزيد أيامنا يوماً واحداً، ولو أمرت السماء أن تمتد بنا الأيام فلا يمكن لكل القوى المعادية ولا قلة الأموال والممتلكات أن تنقص من أعمارنا يوماً واحداً!!

نحتاج أن تتعمق كلمات ربنا فينا وتنير ظلمة قلوبنا وتعطينا أن ندرك أن للسماء سلطان في حياتنا، لعل هذا الادراك يحفظنا من الانبطاح أمام سطوة المال وسلطانه على قلوب البشر، وللحديث بقية (يتبع)

السبت، 3 أبريل 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (50)

بقلم : فخرى كرم

 

« لأن أباكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها » (مت6: 32)

يتقدم الرب في حديثه ليخبرنا عن سبب خامس لعدم اتكالنا على اكتناز الأموال، وهو:

(5) رعاية الآب السماوي

الشخص الذي يلجأ لاكتناز المال والممتلكات هو شخص يشعر بعدم أمان شديد تجاه المستقبل، وهو يحاول أن يشعر بالأمان في أمواله الكثيرة (لو12: 19) لكن الرب هنا يعلن لنا عن حقيقة معزية تمنحنا الشعور بالأمان تجاه المستقبل، وهي أن الله هو أبونا السماوي الذي يهتم بنا ويدبر احتياجاتنا في وقتها، لو صدقنا هذه الحقيقية واستقرت في أعماقنا لتغيرت حياتنا للأفضل بشكل جذري!! ولكي يبرهن ربنا على هذه الحقيقة نجده يلفت نظر سامعيه لحقيقتين بديهيتين:

† الحقيقة البديهية الأولى هي أن الله أعطانا فعلاً الأغلى والأكثر أهمية!! يقول ربنا «أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس»؟ لقد أعطانا الله الأجساد المتميزة عجباً والفريدة في صنعها وجمالها، وأعطى هذه الأجساد حياة ونفساً ثمينة لا يمكن أن نشتريها بكل أموال الدنيا، فكيف نشك في قدرة الله أن يعطينا الاحتياجات الضرورية لابقاء هذه الأجساد حية وعاملة؟ ان هذه الاحتياجات قليلة القيمة جداً بالمقارنة مع الهياكل الحية التي أعطاها الله لنا مجاناً، ومن البديهي أن من أعطانا الأعظم لن يبخل علينا بالأقل ومن أراد لنا الحياة لن تقصر يداه عن منحنا ضرورات هذه الحياة!!

ان كلمات الرب هذه تدفعنا لنتأمل في أحوالنا ونتعجب كيف أننا صرنا نهتم بالأقل ونهمل الأعظم؟ وفي سعينا للرخيص دسنا على الغالي!! فكم منا في سبيل حصولهم على المال يهملون في صحة أجسادهم وسلامة نفوسهم؟! وطمعاً في اكتناز الأموال يحرمون أنفسهم وأجسادهم من الوجود في محضر الله خالق هذه الأجساد والنفوس!! اننا في كل يوم نحتاج أن نتذكر كلمات الرب هذه حتى يستقر في عمق وجداننا أن الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس، فنعيد ترتيب أولوياتنا ونضع الأمور الأفضل أولاً!!

† الحقيقة البديهية الثانية هي أن الخلائق الأقل ذكاء منا تعرف هذا القانون وتمارسه ببساطة وسهولة!! يشير ربنا إلى طيور السماء التي تستمتع بحياتها ولا تهتم أن تجمع طعامها في مخازن لأنها تؤمن ببساطة أن الخالق الذي أعطاها الحياة لا يمكن أن يبخل عليها بقوت هذه الحياة، ولأنها تعتقد بالغريزة أن الحياة أجمل من أن تضيعها في قلق لا طائل من وراءه!! وكلمات الرب تحمل لنا حقيقة تدعونا للدهشة وهي أن هذه الخلائق تتكل على الله رغم أنه «الخالق» فقط بالنسبة لها، أما نحن فالله بالنسبة لنا هو «الآب» السماوي، إن حجم وسمو علاقتنا بالله أعظم بكثير من علاقته بسائر الخليقة، ان روحه يسكن فينا ويربطنا به بدالة البنوة، ورغم ذلك تجدنا لا نظهر نفس الثقة والاتكال التي تظهرها سائر الخليقة غير العاقلة!!

وغني عن البيان أن كلمات الرب هذه لا تعني التراخي أو التكاسل في أعمالنا، فمن لا يريد أن يشتغل لا يأكل أيضاً (2تس3: 10) فطيور السماء التي يتكلم عنها ربنا تستيقظ مبكراً جداً وتسعى وراء طعامها بكل اجتهاد وبلا تكاسل، ولكنها تعمل هذا بدون قلق وخوف من المستقبل، انها تعرف أن تستمتع بالحياة وبالعمل أيضاً!! دعونا إذاً لا نقلق على المستقبل ولا نلجأ لاكتناز المال بحثاً عن الشعور بالأمان، لأن أبانا السماوي يعلم كل احتياجنا ويعمل لتسديده بحسب غناه في المجد، وللحديث بقية (يتبع)  

السبت، 6 مارس 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (49)

بقلم : فخرى كرم

 

«سراج الجسد هو العين» (مت6: 22)

يستطرد الرب ليذكر لنا سبباً رابعاً يمنعنا من اكتناز المال ووضع رجائنا عليه:

(4) خطورة فقدان العين البسيطة:

في هذا الجزء الهام من موعظة الجبل لا يتكلم ربنا عن العين الخارجية للجسد بل بالأحرى عن «وجهة النظر» الداخلية التي ننظر بها إلى الأشياء المحيطة بنا، ووجهة النظر هذه هي التي تنير أو تظلم كياننا النفسي الداخلي، فالعين البسيطة هي وجهة النظر المستقيمة التي ننظر بها فنرى كل الأشياء في حقيقتها كما يراها الله، أما العين الشريرة فهي التي ترى كل الأشياء بطريقة مركبة ملتوية لا تتفق مع حقيقتها.

العين البسيطة ترى أن المال وسيلة لعمل الخير لأنفسنا وللآخرين وليس غاية في حد ذاته، العين البسيطة ترى أننا مجرد وكلاء على المال ولسنا مالكين له، لا يجوز لنا أن نحجبه عن محتاج أو نمنعه عن سائل، العين البسيطة ترى بوضوح أن السعادة ليست في المال بل في فعل مشيئة الله ومرضاته، أي أن اكتناز المال لا يضمن أي سعادة في الحاضر أو في المستقبل، لأنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله.

 العين البسيطة ترى النفس الإنسانية ثمينة لأنها مخلوقة على صورة الله بغض النظر عن ما تملكه من متاع هذه الحياة، ووجهة النظر هذه تجعلنا نقدِّر ونحب ونخدم الجميع على قدم المساواة بعيداً عن الممتلكات والأوضاع الإجتماعية، النظرة البسيطة هذه تحفظ كياننا النفسي من الشعور بالصغر تجاه البعض أو الشعور بالتعالي تجاه البعض الآخر، باختصار أن العين البسيطة تجعل كياننا كله منيراً!!

أما إذا أحببنا المال واعتقدنا أن أماننا في اكتنازه فنحن نمتلك العين الشريرة!! العين الشريرة لا ترى الأمور على استقامتها ولا تبصر حقيقة الأشياء كما يراها الله، العين الشريرة ترى أن قيمة الإنسان بحجم ما يملكه من أموال، وأنه كلما امتلك أكثر كلما صار أكثر قيمة في نظر نفسه والآخرين، هذه العين لا تستطيع أن ترى الناس سواسية ولا تعرف أن تتعامل معهم على نفس المستوى، هذه النظرة تجعل النفس الداخلية لا تشعر بالهدوء والسكينة بل هي دائماً في حالة صراع ومقارنة مع الجميع، إما أن تنتفخ بالغرور الباطل أو تنبطح تحت الإحساس بالصغر والدونية، بالاختصار هذه النظرة تجعل النفس دائماً مظلمة لا تنعم أبداً بالسلام!!

الابن الأصغر في (لو15) امتلك هذه العين الشريرة التي جعلته يرى الأمور على غير حقيقتها، رأى أن الحياة في كنف الآب مملة ورتيبة وليست بها سعادة، وأن السعادة الحقة في امتلاكه للمال وانفاقه على المتع والملذات، وهذه النظرة ملأت نفسه ظلمة وقسوة وجحود، فأخذ المال من أبيه وذهب إلى كورة بعيدة وأنفقه بعيش مسرف، وعندما اصطدم بالواقع المرير بدأ يرجع إلى نفسه ويبصر الأشياء مستقيماً، فرأى بوضوح أن السعادة لم تكن يوماً في امتلاك المال بل في الوجود في طاعة الآب ورضاه، وعندئذ بدأ طريق الرجوع إلى بيت الآب حيث السعادة الحقيقية.

أخشى أن الكثيرين من المؤمنين اليوم يعانون من العين الشريرة، والدليل هو الإظلام والتعب والغيرة التي تملأ قلوب الكثيرين، عدم وجود سلام بين أعضاء الكنيسة الواحدة، الكل ينظر إلى ما يملكه الآخرين!! إننا نحتاج أن نراجع أنفسنا في ضوء كلمات ربنا الفاحصة ونعود إلى العين البسيطة التي ترى أن قيمتنا وسعادتنا الحقيقية هي في وجودنا في طاعة الآب وليست فيما نمتلكه من أموال!! وللحديث بقية (يتبع)

الأحد، 7 فبراير 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (48)

بقلم : فخرى كرم

 

«لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً»(مت6: 21)

يستمر الرب في حديثه ليخبرنا عن سبب ثالث يدفعنا لعدم اكتناز المال على الأرض وهو:

(3) خطورة اجتذاب القلب بعيداً عن الله

بكلمات بسيطة وموجزة يضع الرب أمامنا حقيقة عميقة وأبدية، وهي أن قلوبنا (محبتنا واهتمامنا وخدمتنا) تتجه بتلقائية ودون معاناة إلى حيث يوجد كنزنا، فالإنسان كل الوقت يخدم ما يعتقد أنه كنزه!! إذا كنا نؤمن حقاً أن قيمتنا وسعادتنا الحقيقية هي في السماء فسوف نعيش أيامنا نحب الله ونخدم مشيئته دون أي تكلف أو اضطرار، أما اذا كنا نعتقد في أعماق قلوبنا أن المال هو مصدر أماننا وضامن سعادتنا فسوف نعيش كل حياتنا نحب المال ونخدمه ونسعى لاكتنازه، وهكذا يكون المال قد اجتذب قلوبنا بعيداً عن الله.

لكل انسان منا سيد يخدمه كل الأيام، هذا السيد هو ما يعتقد الإنسان أن سعادته تكمن عنده، وإذا كان الرب هنا يتكلم عن المال بالتحديد إلا أن نفس الحق يمتد إلى آلهة أخرى كثيرة: البعض يشعرون أن ذواتهم هي كنزهم الحقيقي لذلك تجدهم كل الوقت يخدمون ذواتهم، يسيجون حولها ويهتمون جداً براحتها، ينفقون الوقت والطاقة بسهولة في كل ما يبرز ذواتهم ويمجدها بينما لا يجدون أي وقت أو طاقة لينفقوها في أي عمل لا يمجد ذواتهم، لا يستطيعون أن يمنعوا أنفسهم من الحديث عن ذواتهم كل الوقت، لا يتعبون من الدوران حولها والتسبيح بحمدها، يبتهجون جداً إذا لمحوا نظرة اعجاب في عيون المحيطين ويكتئبون جداً إذا شعروا بعدم تقدير الآخرين لهم!! لا تتعجب إذا رأيت مثل هذه الشخصية فالرب يقرر هنا أن قلب الإنسان (محبته واهتمامه وخدمته) يتجه دائماً وبتلقائية شديدة إلى حيث يعتقد أن كنزه هناك!!

وهناك سادة آخرون يخدمهم الانسان بل ويضحي بحياته لأجلهم، مثل الجنس والشهرة والقوة..، لكن يبقى المال هو أكبر هؤلاء السادة وأكثرهم سطوة، وكل من يخدم هذا السيد يجد نفسه منساقاً إلى كل أنواع الشرور والتعديات لأن الكتاب يقول أن الذين يريدون أن يكونوا أغنياء يسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تُغرق الناس في العطب والهلاك، لأن محبة المال أصل لكل الشرور (1تي6: 9، 10)

ولئلا يعتقد أحد أنه يستطيع الجمع بين عبادته لله ومحبته للمال يقول الرب «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين...لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (مت6: 24) لكل سيد قوانينه ومتطلباته التي تختلف عن قوانين ومتطلبات السيد الآخر وبالتالي لا يمكن الخضوع لسيدين في نفس الوقت، لا يمكننا السير في طريقين مختلفين في وقت واحد ولا نستطيع الوصول لمكانين مختلفين في نفس اللحظة!! 

عزيزي القارئ، قل لي بماذا تهتم معظم يومك أقول لك مَن هو سيدك الحقيقي، قل لي إلى أين يتجه تفكيرك بتلقائية وسلاسة أقول لك أين هو كنزك الحقيقي!! كثيرون من المؤمنين يشتكون من فقدان شهيتهم للصلاة أو قراءة الكلمة، ويعتقدون أن الحل ربما يأتيهم من استخدام مناهج للدراسات أو جداول للقراءات، لكن الحقيقة المؤلمة التي ينبغي أن نواجهها بصراحة هي أننا فقدنا محبتنا الأولى للرب لأن القلب أُجتذب لأمور أخرى اعتقدنا أنها كنوز توفر لنا السعادة والأمان، لقد استولى علينا سادة سوى الرب إلهنا (أش 26: 13)

ليت الرب يعيدنا الى محبتنا الأولى وتكريسنا الأول لشخصه لأنه وحده مستحق أن يكون مركز محبتنا ومجموع كنوزنا، وللحديث بقية (يتبع)

السبت، 2 يناير 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (47)

بقلم : فخرى كرم

 

«بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء» (مت6: 20)

يستطرد الرب فيقدم لنا السبب الثاني الذي يحفظنا من الوقوع تحت سلطان المال والميل لاكتنازه:

(2) أفضلية أن نكنز كنوزاً في السماء

عندما يسمح الله في نعمته أن يعطينا أموالاً أكثر من احتياجنا فهو لا يقصد أن نكتنزها بل أن نستخدمها لصناعة كنوز في السماء!! الهدف من المال هو تسديد الاحتياجات، وإذا فاض المال عن احتياجاتنا لابد أن نستخدمه عندئذ في تسديد احتياجات الأخرين، بهذا نصير شركاء الله وأدواته لنشر الخير والرحمة وسط شعبه، وبهذا نصنع لأنفسنا كنوزاً وأكاليلاً في السماء، كنوز أبدية لا تتعرض للفساد أو السرقة، كنوز من رضا الله وخير الإنسان!! هذا الحق واضح في أكثر من موضع من كلمة الله:

الشاب الغني (مر10: 17-22): عندما أتى هذا الشاب ليسأل يسوع عن ما يفعله لكي يرث الحياة الأبدية أجابه يسوع «اذهب بع كل مالك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء» هذا الشاب كان يملك أموالاً تزيد عن احتياجه وأراد أن يكتنزها ليصنع لنفسه قيمة لكن الرب أعلن له أن الطريق الأمثل للتعامل مع المال الفائض هو أن نسدد به احتياجات الأخرين ثم نجد قيمتنا الحقيقية في اتباعنا ليسوع حاملين الصليب!! عندما يزداد المال في أيدينا نتعرض لتجربة قاسية وهي أن نعتقد أننا «نمتلك» هذا المال وأن من حقنا وحدنا أن نتصرف فيه، بينما الكتاب يعلمنا أن الله هو الذي يعطينا القوة لاصطناع الثروة (تث 8: 18) إن كان أحد يظن أنه بقوته صنع ثروته فالحقيقة أن الله هو الذي أعطاه هذه القوة، أي أن الله له الحق الأكبر في الأموال التي بين أيدينا، وأننا في الحقيقة «وكلاء» على هذه الأموال أكثر من كوننا «ممتلكين» لها!!

وإذا سقط الإنسان في هذه التجربة واعتقد أنه «يمتلك» الأموال التي بين يديه وأن من حقه أن يكتنزها ويعيش أيامه يحرسها في مخابئها، وأغلق أحشاءه عن قريبه المحتاج وقبض يديه عن الإحسان للفقير، تكون الحقيقة أن المال هو الذي امتلك الإنسان واستعبده وأفقده البصيرة التي ترى حق الله في الثروة، بل أفقده الفرصة لأن يكون وكيلاً أميناً لله وأن يصنع لنفسه كنوزاً في السماء!! وللأسف هذا ما حدث مع الشاب الغني الذي «أحبه» يسوع وقدم له دعوة ثمينة ليكون من تابعيه وحاملي الصليب، لكن سلطان المال كان قد تمكن منه ودفعه ليبتعد عن يسوع ويمضي حزيناً في طريق الخسران الأبدي!!

الكنيسة الأولى (أع4: 34، 35): لئلا يظن أحد أننا نفسر كلمات المسيح للشاب الغني بالخطأ أو نبالغ في فهمها دعونا نرى ما فعله الروح القدس عندما انسكب على الكنيسة الأولى، لقد دفع المؤمنين الأغنياء لفعل ما قاله يسوع للشاب حرفياً!! كانوا يبيعون حقولاً وبيوتاً ويأتون بأثمانها عند أرجل الرسل ليوزعوا على كل واحد كما يكون له احتياج، هؤلاء الأخوة الأفاضل وجدوا قيمتهم الحقيقية في اتباعهم ليسوع وتتميم مشيئته على الأرض فانكسر سلطان المال عنهم، رأوا أنفسهم وكلاء على هذه الأموال فقدموا بسخاء لتسديد احتياج الاخوة الفقراء، فصنعوا لأنفسهم أمجاداً في أرض الخدمة وكنوزاً في مساكنهم الأبدية!!

 إذاً يسوع يريدنا ألا نكتنز المال ليس فقط لأنه غير يقيني بل أيضاً لأننا ينبغي أن نستثمره في صناعة خير على الأرض وكنوز في السماء، ليت الرب يمنحنا بصيرة ترى أن كل قرش نختزنه ونمنعه عن فم جائع أو يد محتاج هو خسارة وليس ربح، سبب حزن وليس مصدر فرح!! وللحديث بقية (يتبع)