الاثنين، 29 أغسطس 2022

أحاديث من القلب


سبعة أرواح الله ( 11 )

بقلم : فخرى كرم

  « ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل » (مت 4 : 5 )

 بعدما ارتد إبليس خائبا من هجومه الأول على شخص الرب له المجد نراه يستجمع قواه ليعاود هجومه مرة أخرى، وبعدما عزف له على وتر الغريزة نجده الآن يعزف على وتر آخر في غاية الخطورة ، وتر مشدود دائما في قلب كل إنسان طبيعي في انتظار من يعزف عليه!! نعني به وتر..

مجد الذات

ذات الإنسان الطبيعي تجلس على عرش قلبه، تستأثر بكل حبه وخضوعه، منها تنبع كل أعماله وإليها يصب كل نشاطه، إنها أخطبوط يمد أذرعه الكثيرة إلى كل ركن في الحياة، لابد أن توجد خلف كل دافع وتضع بصمتها على كل عمل.

منذ أن زرع إبليس في قلب الإنسان الأول أن يصير كالله والإنسان مازال حتى اليوم يصدق هذه الخدعة ويسعى جاهداً لتحقيقها !! يريد أن يأخذ المجد لذاته كالله، يريد أن يكون محوراً للاهتمام ومحطاً للأنظار كالله، إنه مستعد أن يفعل أي شيء ويذهب إلى أي مكان ويعتنق أي مبدأ يمنح لذاته مكاناً مرموقاً ويضفي عليها مجدا ولو زائفاً، إنه يستغل أي شيء في متناول يديه للوصول إلى مجد الذات حتى لو كان هذا الشيء هو الأمور الروحية والكتب المقدسة!!

الذات هي نقطة ضعف القلب الإنساني وأساس سقوطه، ولذلك قرر إبليس أن يوجه سهامه المسمومة إلى هذه المنطقة في قلب الرب يسوع له المجد، وكان يعتقد أنه سيصيب منه مقتلا، وكان يمني نفسه بالانتصار، وأن ذات الرب الإنسانية لن تستطيع أن تقاوم الإغراء المقدم لها، لاسيما والعدو الخبيث قد حبك الخطة وأخفى الفخ وضخم الإغراء!!

لماذا جناح الهيكل ؟!

إذا كان المقصود فعلا من كلام إبليس - كما يبدو في الظاهر - هو أن يلقى الرب نفسه من مكان مرتفع لكي تتلقفه الملائكة فالبرية التي كان الرب فيها هي خير مكان لذلك، فهي مليئة بالجبال المرتفعة التي تصلح لهذا الغرض، وبها الأحجار القاسية التي يخشى منها على قدمي الرب له المجد!! هذا إذا كان المقصود هو تحقيق الوعد فعلا، لماذا إذا يأخذه إبليس إلى المدينة المقدسة - أورشليم - ويصعد به ليوقفه على جناح الهيكل حيث يمكن أن يراه جميع من في المدينة ؟! هنا مكمن التجربة وغرضها الحقيقي، هنا السم المخفي في العسل!! إنه الإغراء المقدم للرب وهو في ريعان شبابه وبدء ظهوره لإسرائيل، إبليس يقدم له الفرصة ليعمل عملا خارقاً على مرأى من جموع الشعب مما يمنحه مجداً واسعاً وسريعاً .

وإمعانا في حبك التجربة كان لابد من غطاء شرعي يخفي الهدف الرديء، وهنا لم يخجل إبليس من التقاط آية من المكتوب ( مز91 : 11 ، 12 ) ويقدمها للرب لتكون المادة التي تدفع يسوع ليفعل مشورة إبليس بضمير مستريح، ليكون في الظاهر متمماً للمكتوب بينما دافعه الخفي هو اكتساب المجد من الناس، وإبليس بارع جداً في استخدام أقوال الله في غير مواضعها الصحيحة ليخدع البسطاء ويسبب الكثير من الارتباك والسقوط!! |

كم من رجال سقطوا أمام إغراء مجد الذات ؟! كم من مسار مبارك توقف عند محطة الذات ولم يكمل ؟! كم من أعمال جليلة تحطمت عندما بدأت الذات تطل برأسها ؟! كم مرة استخدمنا المكتوب وكل ما هو مقدس مطية للوصول إلى مجد ذواتنا ؟ بل كم مرة حاولنا أن نستغل الله نفسه لنصنع لأنفسنا اسما ونجذب لذواتنا الأنظار ؟!!

إن أي شاب في هذه السن كان لابد أن يضعف أمام إغراء المجد والشهرة، فمن يستطيع أن يقاوم هذه التجربة؟ من يستطيع أن يكتشف السم الذي في العسل ؟! أي روح تلك التي تستطيع أن تميز إبليس فوق جناح الهيكل المقدس مستخدماً للمكتوب ؟!! إنها..

روح الوداعة .. مرة أخرى !!

 لا تستطيع أي ذات أن تصمد أمام هذه التجربة وتكتشف العدو الخبيث الكامن وراءها إلا ذات وديعة تعطى لله كل المجد ولا تسعى إلى أن تأخذ المجد لنفسها، ذات لا يؤثر فيها مجد الناس ولا يمثل لها جناح الهيكل والمدينة المقدسة أي إغراء من أي نوع، لقد أتي السيد له المجد إلى الأرض ليمجد الآب وهو لا يقبل مجدأ من الناس (يو 5 : 41 ) ولا يشبعه إلا المجد الذي يمجده به الآب عند ذاته، مجده الأصيل - غير المكتسب - الذي هو حق شرعي له قبل كون العالم ( يو 17 : 5 ) .

أما فيما يتعلق بالمكتوب فالرب يعلم جيدا أن وعود الله مقدمة لنا لكي تزيد ثقتنا وخضوعنا لله وليس لكي نمتحن بها، فنحن لا نستطيع أن نملى على الله توقيت وأسلوب تحقيقه لوعوده ، فوعود الله موجودة لكي يستخدمها الله في توقيته هو لتحقيق مقاصده هو وليس لكي نستخدمها في توقيتنا نحن لتحقيق مقاصدنا نحن. ولهذا كله وقف الرب بثبات وبنفس قوية جدا في وداعتها ، والتفت إلى إبليس قائلا: « مكتوب أيضا لا تجرب الرب إلهــك» ( مت 4 : 7 ، تث 6 : 16 ) ومرة أخرى يتقهقر إبليس مهزوماً أمام روح الوداعة المنتصرة في شخص الرب، وللحديث بقية.

 

الجمعة، 26 أغسطس 2022

أحاديث من القلب

 

 

سبعة أرواح الله ( 10 )

بقلم : فخرى كرم

« ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس » ( مت 4 :۱)

ملأ روح الوداعة شخص الرب يسوع له المجد، وقاده لحياة الخضوع الكامل لمشيئة الآب حتى في أدق التفاصيل، وهذا الأمر كان مضاداً للروح الذي في العالم، أي روح إبليس، روح التمرد والاستقلالية عن الله، ولقد حارب إبليس بكل شراسة دخول السيد إلى العالم منذ ولادته، وعندما بدأ الرب خدمته العلانية صارت الحرب أيضا أكثر علانية وشراسة، مستخدما كل أساليب الخداع والعنف ومستغلا كل الأدوات البشرية المتاحة له.

ولكن روح الوداعة كما قلنا ليس روحا ضعيفة أو هينة، بل هو روح منصور، قادر على مواجهة روح إبليس التي في العالم والانتصار عليها ، بل العجيب أن روح الوداعة لم ينتظر الحرب ليقاومها بل هو الذي بدأها وخطا نحوها، فأول شيء فعله روح «الحمامة» بعد حلوله على الرب في المعمودية هو أنه قاده إلى البرية لكي يجرب من إبليس !! أي إن الروح هو الذي سعى إلى المواجهة مع إبليس في البرية أي في عقر داره ومكان راحتــه (مت 12 : 43 ) إن روح الله لا يتحرك أبدأ برد الفعل بل دائما يكون هو الفاعل، حتى في الحرب مع إبليس.

الوداعة.. اتجاه إبليس !!

إذا كانت الوداعة هي إعطاء كل ذي حق حقه، فإننا نرى هنا جانبا آخر من وداعة الرب، أي اتجاه إبليس !! لقد أعطى الرب لإبليس حق التجربة باعتباره - حتى هذه اللحظة - رئيسا للعالم!! والروح الذي أعطى للآب حقه الكامل في السيادة على حياة يسوع أعطى لإبليس حقه الكامل في مقاومة ورفض حياة يسوع!! بل إنه لم يشأ أن يعطى للرب فرصة خدمته العلانية إلا بعد أن يعطى لإبليس فرصة مقاومته العلانية!! أربعون يوما كاملة في البرية كانت فرصة إبليس لإكمال كل تجربة (لو 4 : 13 ) وغني عن البيان أن إبليس ما كان يستطيع أن يجرب الرب ما لم يكن الرب هو الذي أعطاه هذا الحق، كم أنت عجيب و قادر  يا سيدي في وداعتك!!

الخضوع الحقيقي : في الخفاء

لم تكن وداعة الرب تجاه أبيه وخضوعه الكامل لإرادته من قبيل الشعارات الرنانة أو الخطب الجوفاء، لم يكن تكريسه من ذلك النوع السطحي الذي ننادي به على المنابر ونتشدق به تحت وطأة المشاعر الملتهبة، بل كان من ذلك النوع السري العميق الذي يظهر ويتجلى تحت الضغط وأمام المقاومة،

فهناك - في البرية - حيث لا يراه أحد إلا الآب، عبر الرب عن خضوعه الكامل لمشيئة أبيه، من كان هناك ليراه ويشيد به ويجازيه؟ لا أحد، لأنه لا يفعل أي شيء لاكتساب رضا الإنسان بل كل ما يدور في أحشائه هدفه إرضاء الآب وحده .

الخضوع الحقيقي : تحت الضغط

بعد صوم لمدة أربعين يوما جاع الرب أخيراً ، ونال منه التعب كل منال، وخارت قوى جسده جميعا، وفي مثل هذه اللحظات تكون قدرة الإنسان على المقاومة شبه منعدمة، فغريزة الجوع في الإنسان هي أقوى الغرائز جميعا، وفي هياجها تدفع الإنسان لفعل أي شيء ليسد رمقه، وإبليس الماكر ينتقى مثل هذه اللحظات ليوجه سهامه الملتهبة، عالما أنها بلاشك ستصيب هدفها، وهكذا انقض على الرب ليعزف على وتر احتياجه الغريزي للطعام، وكان يخفى السم في العسل كدأبه دائما ، فالغرض الحقيقي لم يكن إشباع جوع الرب بل دفعه إلى عمل لم يطلبه منه الآب، وهكذا ينكسر قانون الخضوع لله الذي يجعله لا يفعل إلا ما يطلبه الآب، لقد ظن إبليس أن الرب تحت ضغط الاحتياج سيمد يده لفعل ما تمليه عليه الحية القديمة، وكم تحت إلحاح الحاجة ومطلب الغريزة فقد الإنسان إيمانه ونسى تكريسه وكسر وعوده وحطم عهوده!!

ولكن هيهات! ! إن خضوع الرب لمشيئة أبيه ليس من هذا النوع السطحي الذي نراه فينا وحولنا، الخضوع المزيف الذي ينسحق سريعاً تحت الضغط ويتلاشى، بل كان خضوعا يقوي ويغلب تحت الضغط والمقاومة، فرأينا الرب وهو ضعيف في الجسد إلى الموت يقوي جدا في الروح ويجاهر أمام إبليس - ولدهشته الشديدة - أنه لا ينوي أن يفعل شيئا لم يطلبه منه الله، حتى لو كان هذا الشيء ضرورياً جدا للحياة!! ذلك لأن الحياة بالنسبة للرب لا تستمر بالخبز وحده بل بكل كلمة تخرج من فم الله، إنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء إلا بكلمة تخرج من فم الله، حتى تناوله للخبز !! الروح الذي قاده إلى البرية وإلى الصوم لم يدبر له طعاما بعد، ولذلك فهو - في خضوع كامل لهذا الروح - يرفض أن يتدخل من نفسه ليفعل شيئا لم يدبره له الروح، ألم نقل أنه عبد يهوه الكامل الذي اكتمل به سرور الآب!!

آه ، كم نحتاج إلى روح الوداعة المنتصرة هذه !! فكثيرون منا مازالوا يعيشون بالخبز وحده ، وكثيرون يحيون لأيام كثيرة دون أن يسمعوا كلمة واحدة من فم الله!! كلمة الله لم تعد بالنسبة لنا مسألة حياة أو موت كما كانت بالنسبة لسيدنا !! كم نحن في حاجة إلى الانكسار أمام الله ليسكب علينا روح عبد يهوه الكامل، روح المسيح له المجد ... وللحديث بقية.

 

 

 

السبت، 20 أغسطس 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله ( 9 )

بقلم : فخرى كرم

أتى يسوع إلى العالم ممتلئاً بروح الوداعة التي تعطي الله حقه في السيادة المطلقة على الحياة ، واختار بإرادته أن يضع نفسه في طاعة كاملة لله، وأن يحيا باختياره حياة العبودية المطلقة للأب، وأن ينجح فيما فشل فيه آدم الأول عندما رفض الخضوع لسيادة الله على حياته فسقط تحت الموت وعبودية إبليس وجر معه كل الجنس البشرى إلى الحمأة عينها.

سرور الآب : الهدف الأسمى

يخطىء من يظن أن فداء الإنسان كان هو الهدف الأسمى الذي لأجله تجسد الرب وجاء إلي العالم، بل الحقيقة هي أن رضا الآب وسروره ورجوع حقه في السيادة الكاملة على حياة الإنسان كان هو الهدف الأول والأسمى، وما فداء الإنسان إلا نتيجة طبيعية لرضا الله عن حياة وذبيحة الابن المبارك، فاكتمال سرور الأب بحياة يسوع الكاملة هو الذي منح لذبيحته قوتها الكفارية والشفاعية لحساب الخطاة.

كل ذبائح العهد القديم كان المقصود منها إرضاء الله بالتعبير عن مواقف الإنسان الصحيحة والمفترضة تجاه الله مثل الاعتراف بالخطأ والتوبة عنه والخضوع لحكم الله ودينونته على الخطية، أو مثل التكريس الكامل والشكر الدائم، لكن أيا من هذه الذبائح أو مقدميها لم تكتمل فيهم هذه المعاني التي ظلت بعيدة عن حياة الإنسان العملية مما جعل الذبائح تفقد كل قيمتها في نظر الله، لأن الله لم يرد الذبائح في حد ذاتها بل معانيها في الحياة العملية، إنه يريد رحمة لا ذبيحه :

« لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقربانا لم ترد ولكن هيأت لي جسداً، بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر ، ثم قلت ها أنذا أجيء .. لأفعل مشيئتك يا الله» (عب 10 : 5 ـ 7 )

ولأن إرادة الله وسروره لم يكتملا بنظام الذبائح لذلك كان ينبغي أن يهيىء جسداً للابن المبارك يدخل به إلى العالم بمهمة محددة ألا وهي أن يفعل مشيئة الآب، جسدأ تكتمل فيه كل معاني الطاعة والخضوع لإرادة الله، جسدأ يحب مشيئة الله أكثر مما يحب الحياة نفسها، جسداً تتكسر عنده كل أمواج المقاومة والتشكيك والترهيب والترغيب التي تمارسها الحية القديمة لكي تثنيه عن إتمام خضوعه للآب، جسدا يجد فيه الآب راحته وسروره ورضاه، وأخيرا جسدأ ينشق كالحجاب لكي يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد!!

روح الوداعة تشمل كل الحياة

ولم تكن إلا روح الوداعة هي القادرة على تتميم هذا العمل الجليل، روح الوداعة التي شملت كل حياة الرب له المجد وأرجعت من خلالها كل حقوق الله المغتصبة، وكانت سيادة الروح على حياة الرب سيادة كاملة تصل إلى أدق التفاصيل وأعمق الخبايا ، مثل سكين الذبيحة التي كانت تصل إلى الأحشاء كلها وتخرجها وتضعها على المذبح لتشتعل فيها النار المقدسة لإصعاد رائحة سرور أمام الله.

بعض البشر استطاعوا أن يخضعوا لبعض حقوق الله في بعض جوانب حياتهم، كل بحسب طاقته وبحسب معونة روح الله الذي كان يرف دائما على وجه الأرض لا يجد لنفسه مستقرأ كاملا ، حتى جاء يسوع ووجدت فيه الحمامة مستقراً أخيراً، لأنها وجدت إنسانا كاملا يريد أن يخضع كل الوقت لكل حقوق الله في كل جوانب حياته!! فهو لم يشأ أن يسمع عن إرادة الله أو أن يتكلم عنها أو حتى أن يعملها فحسب بل أن « يكون فيها» (لو2 : 49 ) أي أن تستأثر بكل حبه وطاقته ووقته.

سرورالآب : قوة الذبيحة

وبعدما اكتمل سرور الأب من حياة يسوع التي قدمت - بروح الوداعة - كل الحق والمجد لله،أصبح تقديم نفسه ذبيحه لأجل الخطاة أمرأ مقبولا لدى الأب، أي إن قوة الذبيحة وتأثيرها لا يكمن في أحداث الصلب ذاتها بل في رضا الله عن تلك الحياة المقدمة على مذبح الصليب، إبليس يريد أن يبعد أنظارنا عن تلك الحياة الكاملة ونمعن النظر في بشاعة آلام الصليب كما لو أن قسوة الأعداء وخيانة الأصدقاء وفظاعة الآلام هي التي أعطت لذبيحة المسيح قوتها وأبديتها ، ولكن الحقيقة ليست هكذا، فما هذه الأحداث إلا نتاج طبيعي لأرض الإنسان المملوءة قسوة وحسد وحقداً ، ولا يستطيع هذا النتاج أن يضيف أي قيمة لتلك الذبيحة المباركة، لأن كل قيمتها وقوتها تكمن في رضا الآب عن حياة الرب الكاملة، التي أشبعت قلب الأب وأعطت للذبيحة تأثيرها الأبدي (يتبع)

 

 

الأربعاء، 10 أغسطس 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله ( 8 )

بقلم : فخرى كرم

التعريفات النظرية لا تستطيع أن تعطينا تصوراً كاملا لروح الوداعة، لذلك دعونا نتتبع خطوات السيد في حياته العملية لنتعلم منه الوداعة بالحق، ولنكتشف كيف أنها روح عظيمة مملوءة مجداً وانتصاراً ، وإذا كان للوداعة ثلاثة اتجاهات نحو الله ونحو الذات ونحو الآخرين فدعونا نبدأ بالاتجاه الأول، أي وداعة المسيح في:

العلاقة مع الأب السماوي

خلق الإنسان الأول ليكون خاضعاً لسيادة الله، وكانت طاعته لمشيئة الله هي هدفه الأسمى، وعبوديته لله هي جوهر وجوده وتاج رأسه. وسيادة الله ليست من قبيل حب التسلط أو القسوة بل جوهرها هو الحب والعطاء، بل هي حق مطلق لله لأنه صانع الإنسان والمالك الحقيقي لكل حياته، كما أنه الأعلم بما هو خير للإنسان وما هو شر، لذلك فعبودية الإنسان لله هي من قبيل الثبات في الحق والوجود في المكان الصحيح.

لكن آدم فشل عند أول اختبار، ووجدناه يتمرد على إرادة الله الصالحة ويرفض الخضوع لوصاياه، وبهذا خرج من نطاق الحياة إلى نطاق الموت، لأن وجود الإنسان في نطاق الحياة مرتبط بوجوده في نطاق الخضوع لله، فخضوع الإنسان لله هو مصدر حياته وضمان مستقبله.

وعندما كسر الإنسان الأول نير خضوعه لله لم يتمتع بالحرية كما أوهمته الحية القديمة بمكرها ، بل وجد سادة آخرين ينقضون على حياته ويستعبدونه، فصار الإنسان عبدا لإبليس وجنوده، وصار عبدا لذاته وشهواته الجامحة، وصار عبدا للخطية (يو 8 : 34 ) بل صار الإنسان عبدا للإنسان، والتاريخ يشهد عن عصور طويلة تسلط فيها الإنسان على أخيه الإنسان بقسوة وعنف وشراسة، فملوك الأمم يسودونهم والمتسلطون عليهم يدعون محسنين (لو 22 : 25 ) وإذا كان الخضوع لله حق فالخضوع للإنسان ليس من الحق في شيء بل جوهره الإدعاء الكاذب وحب السيطرة والقسوة، وإذا كان الخضوع لله يحفظ للإنسان حريته ويقوده إلى ملء الحياة والبركة فالخضوع للإنسان - أي إنسان - يسحق الشخصية ويذل الكرامة، لذلك فنير العبودية لله هين وحمله خفيف أما نير عبودية الإنسان فقاس ينبغي كسره ، وهكذا رفض الإنسان سيادة الله على حياته ليصير عبدا لسادة كثيرين ( إش 26 : 13 ) واستمر تكاثر الإنسان وكل جيل يسلم الجيل التالي ميراثا ثقيلا من العبودية القاسية، الظاهر منها والمستتر، حتى قرر الله في مراحمه أن يكسر هذه السلسلة الجهنمية:

عبد يهوه الكامل

« الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله، لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس » ( في 2 : 6 ، 7 )

في ملء الزمان أرسل الله ابنه إلى العالم بمهمة محددة ألا وهي أن يعيد الإنسان إلى حالة الخضوع لسيادة الله، وليكون بداءة لخليقة جديدة تنجح فيما فشل فيه آدم ونسله، وذلك بأن يعيش في حالة عبودية كاملة لله مهما كانت المقاومة العنيفة التي سيلقاها من السادة الآخرين الذين اغتصبوا السيادة على الجنس البشر». .

ورغم أن جوهر علاقة يسوع مع أبيه السماوي هو المساواة، حيث لم يعتبر معادلته للآب خلسة بل حقا، إلا أنه اختار أن يأخذ صورة «عبد» ويصير في الهيئة كإنسان ليحل محل آدم أمام الله، وليتمم باعتباره الإنسان الثاني من السماء ما فشل فيه الإنسان الأول من الأرض (1 كو 15 : 47 ) .

كان ينبغي أن يقف موقف العبد تجاه الله، ومن هو العبد ؟ هو من لا يملك أي حق في نفسه بل كل حقوقه في يد سيده، ليس له حق اتخاذ قرار ما بالاستقلال عن إرادة سيده، ليس له أن يقرر مصيره أو يحدد مستقبله، فكل هذا من حق السيد وحده ، العبد هو إنسان يعيش بإرادته بحسب إرادة شخص آخر.

لذلك أتى يسوع إلى العالم مسلحاً بنية الألم وبروح الوداعة، فمن ناحية كان يعلم أنه سيتألم كثيراً من «سادة » كثيرين يريدون أن يجذبوه خارج عبوديته لله ويستأسروه إلى العبودية لهم، ولقد واجههم بنية الألم وانتصر (۱بط 4 : 1 )  ومن الناحية الأخرى كان ينبغي أن يمتلك الوداعة التي تعطى لله حقه كاملا في السيادة على كل تفاصيل الحياة، الوداعة التي تخضع لمشيئة الله وتقبل من يديه كل كأس يسمح به، حتى بدا في أحيان كثيرة كشاة تساق للذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها ، ولذلك كانت الحمامة الوديعة هي أصدق إعلان عن ذاك المزمع أن يصير عبد يهوه الحقيقي، ذاك الذي لم يأت ليكون سيدأ بل عبدأ ، لا ليخدم بل ليخدم .

ولقد انتصر سيدنا الوديع وتمم مهمته بنجاح، فمن الناحية الواحدة أباد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، ومن الناحية الأخرى قدم بروح الوداعة للآب خضوعاً مشبعاً لقلبه، وكان في هذا الانتصار فداء للجنس البشري وباب مفتوح لشعب سيولد يخضع لسلطان الله وحده، أي الكنيسة، وللحديث بقية.

 

 

السبت، 6 أغسطس 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله ( 7 )

بقلم : فخرى كرم

لماذا اختار الروح هيئة الحمامة ليحل بها على الرب في المعمودية؟ ما هي الصبغة التي كان مزمعاً أن يصبغ بها حياته المباركة؟ ما هي الروح التي كانت ستسود خدمته العلانية له المجد ؟ ماذا يعني «روح الحمامة»؟ إنه أولا يعني:

روح الوداعة

« ابتهجي جدا يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم، هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور، وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان » ( زك 9 : 9 )

 قبل تجسد الرب بخمسمائة عام تنبأ زكريا عنه بأنه سيكون وديعاً ، وفي ملء الزمان تحققت هذه النبوة وتجسدت روح الوداعة بالكامل في شخصه الكريم، ألم نقل أنه وحده الذي امتلك سبعة أرواح الله وفيه اكتملت كل أعمال وصفات الروح!

وروح الوداعة روح كبيرة تشمل الحياة كلها وتتحكم في كل تفاصيلها وتسرى في كل علاقاتها ومعاملاتها مع النفس ومع الله ومع الآخرين، إنها ليست كما يعتقد البعض مرادفأ للاستكانة والضعف والخنوع والمهادنة، بل هي روح قوية استطاعت عندما اكتملت في شخص الرب أن تقف أمام إبليس وأرواحه الشريرة المسيطرة على الشعب وتهزمهم، ولذلك يقرن زكريا صفة الوداعة بصفة الانتصار في نبوته، رغم أن الكثيرين لا يستطيعون أن يجمعوا في أذهانهم بين الصفتين لأنهم تعلموا أن الوداعة تتناقض مع القوة والغلبة، مما دعا البعض إلى الاعتقاد بأن النبوة ينبغي أن تنقسم إلى شقين: حيث كان الرب وديعاً فقط في مجيئه الأول وسيكون منصوراً في مجيئه الثاني، لكننا لا نجد أي مانع في أن نؤمن بأن الرب كان منصوراً في مجيئه الأول كما كان وديعاً، وسيكون وديعاً في مجيئه الثاني تماما كما سيكون منصوراً ، كل ما يعوزنا هو فهم صحيح للوداعة لنعرف أنها لا تتعارض مع الانتصار، بل كانت هي بعينها السلاح الذي انتزع به الرب الانتصار على جحافل الجحيم وأرواح الخداع والخبث والقسوة والعنف والبطش والموت!!

ماهية الوداعة

الوديع هو إنسان خائف الله، وخوف الله يدفعه إلى أن يعطي كل ذي حق حقه دون زيادة أو نقصان:

1-                 إنه يعرف حق الله ويخضع له، فهو لا يدين أحداً لأنه يعرف أن الله هو وحده «الديان » لذلك فهو يخضع لحق الله هذا ولا يحاول أن يأخذه لنفسه، وهو يخضع برضا لكل ما يسمح به الله من ظروف لأنه يعلم أن الرب هو «السيد» الذي من حقه وحده أن يقود الحياة كيفما شاء، وهو لا يرتفع فوق أحد لأنه يعرف أن الرب هو وحده المرتفع «رأسا » ، فوق الجميع وهو لا يجرؤ أن يسلب الرب حقه، وهو لا يجذب إليه أحدا لأنه يعرف أن الرب هو وحده «العريس» الذي ينبغي أن تنجذب إليه كل القلوب... إلخ.

2-                إنه يعرف حق نفسه ولا يزيد عليه، إنه يقبل دائما الحق من جهة نفسه مهما كان هذا الحق مؤلماً للنفس، إنه يعرف قدر نفسه كما يراها الله لذلك فهو لا يعطيها مجداً ليس لها ولا يحتل مكانة لا يستحقها ، يعرف حدود وجوده ولا يسعى لفرض وجوده على حساب وجود الآخرين، إنه يعيش حقيقة نفسه أمام الله والناس بتلقائية وبدون افتعال.

3-                إنه يعرف حق الآخرين ويمنحهم إياه ، لا يفرض فكره واعتقاده عليهم لأنه يحترم حقهم في حرية التفكير والاعتقاد، يعطيهم دائما حقهم في حرية التعبير عما في أنفسهم حتى لو كان ما في أنفسهم مضاداً له شخصياً !! نظرته ليست جارحة أو مقتحمة بل مملوءة عطفاً وتقديراً مما يشجع النفس التي أمامه على إخراج مكنو0نات قلبها والتعبير عن نفسها بحرية، إنه يحب الخير للجميع ويتمنى لهم النجاح حتى ولو صاروا أفضل منه!! في أحيان كثيرة يتراجع لكي يمنحك فرصة للتقدم، ويكف عن التعبير عن نفسه لتجد لنفسك مساحة للتعبير عن نفسك!! إنه دائما يفرح بالحق ولا يفرح بالإثم، صانع سلام دائما وبمحبته يستر كثرة من خطايا.

الوداعة والتواضع

يقترن في الكتاب دائماً التواضع مع الوداعة، والحق إنهما وجهان لعملة واحدة، وإن كان التواضع يشير بالأكثر إلى موقف الإنسان تجاه نفسه بينما تشير الوداعة في الأغلب إلى موقف الإنسان تجاه الله والآخرين، فإن كان التواضع هو حفظ الإنسان نفسه في حجمها الحقيقي دون زيادة فالوداعة هي إعطاء الآخرين حقهم دون نقصان، فالمتواضع هو من لا يمنح نفسه ما ليس لها بالحق والوديع هو من لا يأخذ من الآخرين ما لهم بالحق.

على كل حال فهذه كلها تعريفات نظرية لا تشبع أرواحنا ولا نستطيع أن نكتفي بها، لكن دعونا نحتفظ بها في أذهاننا ونحن نتبع خطوات الرب في حياته العملية لكي نتعلم منه عملياً ماهية روح الوداعة ومدى قوتها ونجاحها في تتميم مشيئة الله، لعلنا نستطيع أن نتعلم منه كيف نكون ودعاء ومتواضعي القلب، وللحديث بقية.