سبعة أرواح الله ( 11 )
بقلم : فخرى كرم
« ثم
أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل » (مت 4 : 5 )
بعدما ارتد إبليس خائبا من هجومه الأول على شخص
الرب له المجد نراه يستجمع قواه ليعاود هجومه مرة أخرى، وبعدما عزف له على وتر
الغريزة نجده الآن يعزف على وتر آخر في غاية الخطورة ، وتر مشدود دائما في قلب كل
إنسان طبيعي في انتظار من يعزف عليه!! نعني به وتر..
مجد الذات
ذات الإنسان الطبيعي تجلس على عرش قلبه، تستأثر بكل حبه وخضوعه، منها
تنبع كل أعماله وإليها يصب كل نشاطه، إنها أخطبوط يمد أذرعه الكثيرة إلى كل ركن في
الحياة، لابد أن توجد خلف كل دافع وتضع بصمتها على كل عمل.
منذ أن زرع إبليس في قلب الإنسان الأول أن يصير كالله والإنسان مازال
حتى اليوم يصدق هذه الخدعة ويسعى جاهداً لتحقيقها !! يريد أن يأخذ المجد لذاته
كالله، يريد أن يكون محوراً للاهتمام ومحطاً للأنظار كالله، إنه مستعد أن يفعل أي
شيء ويذهب إلى أي مكان ويعتنق أي مبدأ يمنح لذاته مكاناً مرموقاً ويضفي عليها مجدا
ولو زائفاً، إنه يستغل أي شيء في متناول يديه للوصول إلى مجد الذات حتى لو كان هذا
الشيء هو الأمور الروحية والكتب المقدسة!!
الذات هي نقطة ضعف القلب الإنساني وأساس سقوطه، ولذلك قرر إبليس أن
يوجه سهامه المسمومة إلى هذه المنطقة في قلب الرب يسوع له المجد، وكان يعتقد أنه
سيصيب منه مقتلا، وكان يمني نفسه بالانتصار، وأن ذات الرب الإنسانية لن تستطيع أن تقاوم
الإغراء المقدم لها، لاسيما والعدو الخبيث قد حبك الخطة وأخفى الفخ وضخم الإغراء!!
لماذا جناح الهيكل ؟!
إذا كان المقصود فعلا من كلام إبليس - كما يبدو في الظاهر - هو أن
يلقى الرب نفسه من مكان مرتفع لكي تتلقفه الملائكة فالبرية التي كان الرب فيها هي
خير مكان لذلك، فهي مليئة بالجبال المرتفعة التي تصلح لهذا الغرض، وبها الأحجار القاسية
التي يخشى منها على قدمي الرب له المجد!! هذا إذا كان المقصود هو تحقيق الوعد فعلا،
لماذا إذا يأخذه إبليس إلى المدينة المقدسة - أورشليم - ويصعد به ليوقفه على جناح
الهيكل حيث يمكن أن يراه جميع من في المدينة ؟! هنا مكمن التجربة وغرضها الحقيقي، هنا
السم المخفي في العسل!! إنه الإغراء المقدم للرب وهو في ريعان شبابه وبدء ظهوره
لإسرائيل، إبليس يقدم له الفرصة ليعمل عملا خارقاً على مرأى من جموع الشعب مما
يمنحه مجداً واسعاً وسريعاً .
وإمعانا
في حبك التجربة كان لابد من غطاء شرعي يخفي الهدف الرديء، وهنا لم يخجل إبليس من التقاط
آية من المكتوب ( مز91 : 11 ، 12 ) ويقدمها للرب لتكون المادة التي تدفع يسوع ليفعل
مشورة إبليس بضمير مستريح، ليكون في الظاهر متمماً للمكتوب بينما دافعه الخفي هو
اكتساب المجد من الناس، وإبليس بارع جداً في استخدام أقوال الله في غير مواضعها
الصحيحة ليخدع البسطاء ويسبب الكثير من الارتباك والسقوط!! |
كم من رجال سقطوا أمام إغراء مجد الذات ؟! كم من مسار مبارك توقف عند
محطة الذات ولم يكمل ؟! كم من أعمال جليلة تحطمت عندما بدأت الذات تطل برأسها ؟!
كم مرة استخدمنا المكتوب وكل ما هو مقدس مطية للوصول إلى مجد ذواتنا ؟ بل كم مرة
حاولنا أن نستغل الله نفسه لنصنع لأنفسنا اسما ونجذب لذواتنا الأنظار ؟!!
إن أي شاب في هذه السن كان لابد أن يضعف أمام إغراء المجد والشهرة،
فمن يستطيع أن يقاوم هذه التجربة؟ من يستطيع أن يكتشف السم الذي في العسل ؟! أي
روح تلك التي تستطيع أن تميز إبليس فوق جناح الهيكل المقدس مستخدماً للمكتوب ؟!!
إنها..
روح الوداعة .. مرة أخرى !!
لا تستطيع أي ذات أن تصمد
أمام هذه التجربة وتكتشف العدو الخبيث الكامن وراءها إلا ذات وديعة تعطى لله كل
المجد ولا تسعى إلى أن تأخذ المجد لنفسها، ذات لا يؤثر فيها مجد الناس ولا يمثل
لها جناح الهيكل والمدينة المقدسة أي إغراء من أي نوع، لقد أتي السيد له المجد إلى
الأرض ليمجد الآب وهو لا يقبل مجدأ من الناس (يو 5 : 41 ) ولا يشبعه إلا المجد الذي يمجده به الآب عند ذاته،
مجده الأصيل - غير المكتسب - الذي هو حق شرعي له قبل كون العالم ( يو 17 : 5 ) .
أما فيما يتعلق بالمكتوب فالرب يعلم جيدا أن وعود الله مقدمة لنا لكي
تزيد ثقتنا وخضوعنا لله وليس لكي نمتحن بها، فنحن لا نستطيع أن نملى على الله
توقيت وأسلوب تحقيقه لوعوده ، فوعود الله موجودة لكي يستخدمها الله في توقيته هو
لتحقيق مقاصده هو وليس لكي نستخدمها في توقيتنا نحن لتحقيق مقاصدنا نحن. ولهذا كله
وقف الرب بثبات وبنفس قوية جدا في وداعتها ، والتفت إلى إبليس قائلا: « مكتوب أيضا
لا تجرب الرب إلهــك» ( مت 4 : 7 ، تث 6 : 16 ) ومرة أخرى يتقهقر إبليس مهزوماً
أمام روح الوداعة المنتصرة في شخص الرب، وللحديث بقية.