الجمعة، 1 يونيو 2018

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (17)
بقلم : فخرى كرم
«إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات» (مت5: 20)
هناك رغبة عميقة في قلب كل انسان للوصول إلى «البر»، أي الوصول إلى حالة التبرير وعدم الإدانة، فالبر هو عكس الخطية والذنب، والانسان بدون أن يشعر يبذل مجهوداً كبيراً طوال حياته ليظل مُبرراً في عيني نفسه وعيون الآخرين، ولذلك كان الكتبة والفريسيين يبذلون مجهودات كثيرة ليحفظوا ويتمموا وصايا الناموس لكي يصلوا إلى الإحساس بالبر.
ولكن ربنا يلفت نظرنا هنا إلى أن «البر» له مستويات مختلفة، فهناك البر في عيون الناس وهو نوعية بر الكتبة والفريسيين، وهناك البر في عيني الله وهو نوعية بر أبناء الملكوت، وهذه النوعية من البر تزيد كثيراً عن نوعية بر الكتبة والفريسيين. والذي يحدد أية نوعية من البر سيسعى إليها الإنسان هو اجابته على السؤال: في عينيّ مَنْ يريد أن يكون باراً؟!
إذا أحب الإنسان أن يكون باراً في عيون الناس فسيكتفي بحفظ ظاهر الوصية الخارجي وقشورها السطحية، بل قد يبالغ في تدقيق تفاصيل صغيرة ليست لها قيمة حقيقية، وسيكون حريصاً دائماً أن يكون في مرمى عيون الناس وتحت نظرهم، وإذا لمس تقدير الناس واعجابهم به يشعر براحة عميقة في ضميره واحساس داخلي بالتبرير والقداسة.
أما نوعية البر الذي ينشده أبناء الملكوت فهو البر بحسب عيني الله وحكمه، ولذلك هم لا يكتفون بظاهر الوصية بل بجوهرها، ولا ينشغلون بالتفاصيل السطحية التي يراها الناس بقدر انشغالهم بالحقيقة الداخلية التي يراها الله، ولا يعنيهم تقدير الناس وتبريرهم لأنهم يعلمون أن حكم الناس كثيراً ما يكون خاطئاً ومُضللاً!!
لو كنتُ أنشد البر في عيون الناس فسأكتفي بعدم مد يدي للقتل حتى لو كان قلبي ممتلئاً بالحقد والرغبة في التشويه، تماماً كما خطط الكتبة والفريسيين لقتل يسوع ولكن بأيدي الأمم ليظلوا محتفظين بإحساسهم المزيف بالبر لأنهم لم يمدوا أياديهم فعلياً للقتل!! سأحرص في تعاملي مع الآخرين أن يكون اسلوبي ناعماً وكلماتي رقيقة وتصرفاتي محسوبة لكي أظل باراً في عيونهم حتى لو كان قلبي يموج بالغضب والحقد وإرادة القتل!!
أما لو أردتُ أن أكون من أبناء الملكوت الذين ينشدون رضا الله وتبريره فعندئذ لابد أن يزيد بري عن هذا المستوى السطحي المملوء بالزيف والخداع، حينئذ سأدرك أن الوصية لا تنهاني فقط عن فعل القتل بل بالأحرى عن دوافعه وجذوره، وقتها سأهتم بأن يكون قلبي (الذي يراه الله لا الناس) خالياً من الغضب الباطل والاستهانة بالآخرين والرغبة في تجريحهم وتشويه سيرتهم.

وهكذا يقدم لنا ربنا مثالاً لكيفية الوصول بالوصية إلى الكمال، فهو لم يأتِ لينقض وصية الناموس التي تنهى عن القتل بل بالحري ليصل بها إلى مقصد الله الكامل من وراء هذه الوصية، فالله لا يريدنا أن نحمل في قلوبنا للآخرين غضباً أو تجريحاً أو اقصاءً، الله يريد أن يمنع القتل من بداياته الأولى ويقتلع شجرة الموت من جذورها الدفينة، الله يريد أن يخلق في المسيح شعباً باراً بالحق وليس مجرد قبور مُبيضة من الخارج، وللحديث بقية (يتبع)