السبت، 25 نوفمبر 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (55)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الصورة الرمزية للخمر تشير إلى شخص الروح القدس باعتباره «المعزى»، وقلنا إن أحد معاني «المعزي» هو الشخص الذي يهديء روعنا ويطمئن مشاعرنا ويمنحنا الراحة والمعونة والتشجيع، تماما كما يحتاج الطفل المضطرب إلى حضن أبويه لكي يهدأ ويطمئن بل يتغذى ويتعلم أيضا، واليوم نضيف أن «المعزى » لها معنى آخر، ألا وهو

الشفيع

نفس الكلمة اليونانية المترجمة «المعزي » في إنجيل يوحنا هي المترجمة «شفيع» في قول الرسول «إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار» (۱ يو 2 : 1) وهي تعني المحامي الذي يقف بجوار المتهم يدافع عنه ويعضده ويحاول اثبات براءته.

نفس المعنى تكلم عنه الرسول بولس في قوله « الروح أيضا يعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها ... لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين» (رو 8 : 26 ، 27).

إذاً أحد أعمال الروح القدس هو أنه شفيع فينا بحسب مشيئة الله، وهذه الشفاعة ضرورية جداً لحياتنا وبدونها لا نستطيع أن نرضي الله، ولكن للأسف فهذه الشفاعة محاطة بالكثير من الجهل والغموض، نحن نحب أن نسمع كثيراً عن شفاعة الرب يسوع لكن ما أقل ما نلتفت لشفاعة الروح القدس !! ولكي نفهم العلاقة بين شفاعة الرب وشفاعة الروح ينبغي أن نفهم أولا

قصد الله الكامل من الفداء

إن قصد الله من فدائنا لا يكمل بمجرد غفران خطايانا ورفع دينونتها عنا ، والرب يسوع لم يبذل حياته لكي يحمل عنا قصاص الخطية فحسب بل بالحرى لكي يمنحنا إمكانية الحياة المقدسة، يقول الرسول «أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف 5 : 25 ـ 27).

إذا فقصد الله الكامل من فدائنا ليس فقط أن تغفر خطايانا بل بالحرى أن لا نخطىء، أن نكون قديسين وبلا لوم، الخطية ينبغي أن تكون وضعا استثنائية شاذأ في حياة المؤمن لأن القداسة هي الوضع الطبيعي المستقر، لذلك يقول يوحنا « أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا ، وإن أخطأ أحد فلنا شفيع... » أي أن أمر الله المبدئي لنا هو أن لا نخطىء، ولكن إذا أخطأ أحد - استثنائياً - فلنا شفيع عند الآب هو الرب يسوع المسيح.

شفاعة الروح و شفاعة الرب

 الكتاب يعلمنا أن لنا شفيعين: أحدهما في السماء والآخر على الأرض. الأول يشفع «عنا » أمام عرش الآب والثاني يشفع «فينا » في داخل أرواحنا، إنهما الرب يسوع والروح القدس.

والحقيقة أننا في احتياج شديد لكلا الشفاعتين لأن لكل منهما مجالاً يختلف عن الآخر، فشفاعة الرب يسوع شفاعة قضائية بينما شفاعة الروح عملية حياتية، الرب يسوع يشفع عنا أمام قضاء الله وعدالته أما الروح فيشفع فينا أمام تحديات الواقع وصعوباته، شفاعة الرب تسعى لرفع القضاء عنا أما شفاعة الروح فتسعى لتقديس حياتنا.

في ضوء ما قلناه تواً عن قصد الله الكامل من فدائنا نقول: إننا نحتاج إلى شفاعة الروح داخلنا لكى لا نخطىء ونحتاج إلى شفاعة الرب عنا إذا أخطأنا !! الروح يعين «ضعفاتنا» أما الرب فيغفر «خطايانا » !! شفاعة الروح تعني أنه يقوينا ويساعدنا لكي نحيا حياة مقدسة مرضية عند الله، أما شفاعة الرب يسوع فتعني أنه يقدم أمام الآب ذبيحته الكاملة ودماءه الطاهرة ، تكفيراً عن حياتنا غير المقدسة، شفاعة الروح تصنع شيئا إيجابية في حياتنا أما شفاعة الرب فتغفر الشيء السلبي في حياتنا، شفاعة الروح تسعى لكي تأتي برضا الله على حياتنا أما شفاعة الرب فترفع غضبه عنها !!

الشفيع - والمشتكى !!

 هذه التعبيرات الكتابية مأخوذة من ساحات القضاء، فإذا كان الشفيع هو المحامي فإن المشتكي هو ممثل الادعاء!! المشتكي يسعى لكي يثبت الاتهام علينا والشفيع يسعى لتبرئة ساحتنا، وعمل إبليس كالمشتكي عمل مزدوج: فهو يسعى لاسقاطنا في الخطية عملياً ثم يصعد أمام عدالة الله مطالباً بالقصاص منا، لذلك نحن نحتاج إلى شفاعة مزدوجة أيضا : الروح يسعي لكي لا نسقط عملياً في الخطية وإذا سقطنا فشفاعة الرب أمام الآب ترفع عنا القصاص، وللحديث بقية.

 

 

الاثنين، 20 نوفمبر 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (54)

بقلم : فخري كرم

المؤمن يحتاج إلى تعزية الروح القدس التي تعطي دفئاً للمشاعر، والتي تشبه في بعض جوانبها مشاعر الأبوة الحميمة، المشاعر التي تربي وتحمي وتسدد الاحتياج، واليوم نضيف أن تعزية الروح تشبه في جوانب أخرى : .

حضن الأم

يقول الرب « هأنذا أدير عليها سلاماً  كنهر ومجد الأمم كسيل جارف فترضعون وعلى الأيدي تحملون وعلى الركبتين تدللون، كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا » (إش 66 : 12 ، 13) هنا يشبه الرب تعزيته لشعبه بتعزية الأم - وليس الأب - لطفلها، لماذا؟ لأن حضن الأم يمتاز بعدة مميزات:

الحنان

الحنان هو المحبة المجردة دون انتظار لأي مقابل أو رد فعل، فإذا قلنا إن حضن الأب يشمل دائماً التعليم والتأديب فإن حضن الأم يعني دفئاً وحناناً دون أن يتكلم أو يقدم النصائح.

في أحيان كثيرة يحتاج الإنسان لمشاعر الحنان هذه، وبالأكثر في أوقات الخطأ وجرح المشاعر حين يكون الإنسان في وضع لا يريد فيه أن يسمع نصائح أو ينال تعليماً أو يتعرض لتوبيخ، إنه يحتاج إلى محبة فقط، محبة تضمد جراحه و تعيد كرامته، محبة لا تذكره بخطئه ولا تنبش في جرحه بل ترفعه فوقهما.

فيما بعد وبعد أن يهدأ روعه وتطيب جراحه قد يكون من الضروري أن يضمه حضن آخر، حضن أبوي يمزج المحبة بالتعليم والنصح والتقويم، لكن لأول وهلة يحتاج الإنسان المجروح أن يرتمي في حضن الأم.

لذلك يشبه الرب معاملاته مع شعبه في هذا الجزء بمحبة الأم وليس الأب، لأن الشعب كان راجعاً من أوضاع مزرية وأخطاء متكررة أطاحت به بعيداً عن مرضاة الله لسنوات طويلة، ولقد نال من قصاص الله ما أبلى لحمهم وجفف عظامهم، وصار الشعب إلى حال لم يعد يقوى فيه على احتمال المزيد من اللوم ولا يستطيع الخضوع لمزيد من التأديب، لذلك يعدهم الرب بسلام كنهر ومجد كسيل جارف، ولا يذكر حتى خطاياهم وتعدياتهم فيما بعد، فتفرح قلوبهم المكسورة وتزهو عظامهم المسحوقة، وما أشبه هذه المحبة بمحبة الأم!!

التدليل

 التدليل هو المحبة الزائدة عن الحاجة!! المحبة في وقت الألم والاحتياج ليست تدليلا بل ضرورة ، أما بعد أن تشفي المحبة جراحنا وتسدد احتياجنا فإن استمرارها بعد ذلك يصبح « تدليلاً»، عندما يكون الطفل مشبعاً في نفسه وجسده ثم يجد مزيدا من المحبة تتدفق نحوه عندئذ يشعر بمشاعر جديدة هي مشاعر «الدلال »!! حيث يشعر بأنه محبوب ليس فقط لأنه محتاج للمحبة بل لأنه موضوع للمحبة وهدف لها في حد ذاته حتى لو لم يكن محتاجاً.

وهذا ما فعله الرب مع شعبه وما يفعله دائما ، فهو لا يعطى سلاماً قدر الحاجة بل سلاماً فائضاً كنهر، ومجده ليس بحسب الاحتياج بل كسيل جارف، إنه دائما يكيل في أحضاننا کیلاً ملآناً و مهزوزاً وفائضاً، وكثيرا ما أعطانا أكثر كثيرا مما نطلب أو نفتكر، وكثيرا ما أعطانا في وقت لم نكن نشعر فيه بالاحتياج الملح، هذه المحبة المدللة هي أقرب لمحبة الأم.

الرضاعة

بالنسبة للرضيع حضن الأم ليس حنانا ودلالاً فقط بل أيضا غذاء وشبعاً، وما أعظم لبن الأم المقترن بحنان حضنها، إنه أكسير الحياة وضرورة للنمو السليم، إنه غذاء سهل الهضم وكاف في قيمته الغذائية في أثناء شهور الطفل الأولى.

والرب كثيرا ما تعامل معنا بهذه النوعية البسيطة من التعزية، بالذات في بدايات حياتنا الروحية، حيث كان يمزج محبته وحنانه بكلمات بسيطة مشجعة للنفس يقول عنها الرسول «سقيتكم لبناً لا طعاماً لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون » (1كو 3 : 2).

لذلك يقول الرب لشعبه الراجع أنهم « سيرضعون» أي أنه سيتكلم معهم كلاماً بسيطاً مغذياً ومشبعاً للنفس ولن يثقل كاهلهم بكلمات وتعاليم ثقيلة. ما أشبه تعزية الروح في أوقات رجوعنا الأولى بحضن الأم الذي يرضع!!

ولكن إذا كانت مشاعر الأبوة والأمومة التي غرسها الرب في نفوس البشر ما هي إلا قبسأ من مشاعره هو له المجد إلا أن محبته تبقى أعظم بما لا يقاس ، فمحبة الأب والأم كثيراً ما تشوبها النقائص والسلبيات وفي أفضل أحوالها لا تبلغ الكمال، فكم جرحت قسوة الآباء الأبناء، وكم أفسد الحنان والدلال نفوس الأبناء بدلا من تقويتها، ولذلك يقول الكتاب أن آباء أجسادنا أدبونا « حسب استحسانهم» وأن الأم قد تنسى رضيعها ولا ترحم ابن بطنها، أما تعزية الروح فهي تبقى أعظم وأكمل (يتبع).

 

الجمعة، 3 نوفمبر 2023

أحاديث من القلب


سبعة أرواح الله (53)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الصورة الرمزية للخمر تشير إلى شخص الروح القدس بصفته روح التعزية والفرح . والحق أن هذا الجانب من شخص الروح في غاية الأهمية لحياتنا ، فمن منا لا يحتاج بين الحين والآخر إلى لمسات تعزية وتشجيع ، وسط ضغوط الحياة ومسئولياتها . هناك لحظات راحة يمنحها روح التعزية وبدونها لا نستطيع أن نكمل المسيرة ، فالإنسان لا يستطيع أن يظل تحت المسئولية كل الوقت، لابد من وقت يستريح فيه ويشعر أن آخر يحمل مسئوليته!! يشعر أن هناك إله يكتنفه ويهتم به ويحميه!! هذا هو إحساس التعزية الذي لا غنى لنا عنه ، إننا مراراً كثيرة نحتاج إلى موضع خلاء لنستريح قليلا !!

وهناك معان كثيرة لكلمة «المعزى» التي أطلقها الرب على شخص الروح القدس، من ضمن هذه المعاني أنه

يعطى دفئًا للمشاعر

الطفل الصغير لكي ينمو نموا سليماً جسدياً ونفسياً لا يحتاج فقط للنصائح والتعليمات الجافة لكنه يحتاج أيضا إلى حضن أب واع وأم حنون، حضن يمنحه لحظات من الدفء تسكن اضطرابه وتهديء روعه، حضن يخرج منه وهو أكثر قدرة على مواجهة مسئوليات الحياة، حضن يجدد قواه وينعش نفسه.

ونحن أيضا لكي ننمو روحياً لا نحتاج فقط إلى التعاليم والوصايا بل نحتاج أيضا لأحضان روح التعزية المبارك، إنه يعطى للنفس حضناً ودفئاً للمشاعر، وهذا الحضن يشبه.

حضن الأب

يقول الكتاب «كما يتراءف الأب على البنين يتراءف الرب على خائفيه» (مز103 : 13) هناك لحظات نحتاج فيها أن ينقل لنا الروح مشاعر «الترأف هذه، إننا لا نستطيع أن نرى الله الخالق والسيد والديان فقط، لابد أن نراه أيضا أب يتراءف علينا، إننا لا نستطيع أن نعيش تحت المسئولية كل الوقت لكن هناك لحظات فيها تضعف قوانا ورغما عنا تتعثر خطانا، وتخذلنا حكمتنا وتقصر قدرتنا عن مواصلة السعي، وعندئذ نحتاج أن يكتنفنا روح التعزية بمشاعر الأب الذي يتراءف علينا ويحبنا رغم كل ضعفنا ، الأب الذي لا يقبل أن يحملنا أكثر من طاقتنا ، الأب الذي يعرف جبلتنا ويذكر أننا تراب نحن، الأب الذي يغفر وينسى و يجدد فينا القوة والرغبة في مواصلة السعي، من منا لا يحتاج إلى هذه المشاعر بل من منا لم يحتاجها فعلا مرات عديدة ، لذلك كان اسم «الآب» هو الإعلان المميز الذي أتى به رب المجد عن شخص الله. والواقع أن حضن الأب يتميز بأنه حضن :

يعلم

« أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه » (مت 6 : 8) حضن الأب هو حضن واع، لا يمنح دفئاً كاذباً يغيب الذهن عن الوعي والواقع، بل هو حضن « يعلم» كل احتياجاتنا ويسر بأن يسددها بحسب غناه في المجد.

كم من أحضان ووسائل أخرى يلجأ إليها الإنسان لكي يهرب من احتياجاته لكنه يعود أكثر جوعاً وعوزاً، لأنها أحضان لا «تعلم» ما نحتاج إليه !!

يربي

يقول الكتاب «ربيت بنين ونشأتهم» ( إش1 : 2) حضن الأب لا يعطى دفئاً للمشاعر فقط بل بواسطة هذه المشاعر يغرس حقه في داخل نفوسنا ، إنه يعطى تعزية ممزوجة بالحق، الأب الصالح هو الذي يعرف أن يمزج تعليمه مع رأفته حتى تصل التعاليم بسلامة وهدوء أعماق نفس الابن وتنغرس هناك. إن أثقل التعاليم والمسئوليات إذا قيلت في حضن دافيء تصير خفيفة وسهلة!! ألم يقل يوحنا «وصاياه ليست ثقيلة» ؟ ولماذا قال هذا ؟ لأنه كان دائما يتكيء في حضن يسوع!!

الخمر قد تعطى دفئاً مؤقتاً للمشاعر لكنها في ذات الوقت تجرد الإنسان من كرامته وتنحدر بأخلاقه إلى الحضيض، أما تعزية الروح فهي مثل حضن الأب الذي يترأف و يربي في ذات الوقت.

يحمي

يحتاج الطفل أن يرتمي في حضن أبيه حين يستشعر الخطر المحيط به، ومن مثل الأب يمنح الحماية لأبنائه حتى أنه يقول «من يمسكم يمس حدقة عينه» (زك ۸:۲) كثيرا ما بسط روح التعزية جناحيه حولنا وحجب عنا الشر الآتي علينا، وكثيرا ما رتب لنا مائدة تجاه مضايقينا !! (يتبع).