موعظة
الجبل (1)
بقلم : فخرى
كرم
أعظم موعظة سمعتها آذان البشر في كل أجيالهم، لم يستطع
مرور السنين أن يقلِّل من قيمتها ولا تعاقب الحضارات أن يضعف من تأثيرها، قيلت بكلمات
بسيطة لشعب الجليل البسطاء لكن أعظم العقول تعلَّمت ومازلت تتعلم منها، نطق بها
سيدي على مدارج «قرن حطين» الجبلية الجرداء لكنها نُقشت بالذهب في قصور أعظم
الملوك على مدار التاريخ، بل بالأحرى نُقشت بالروح في قلوب ملايين البشر الذين
وجدوا فيها خلاصاً لحياتهم ونوراً لسبيلهم.
كان يسوع قد بدأ خدمته في منطقة الجليل بدعوة الشعب
للتوبة وقبول «ملكوت السماوات» (مت4: 17) وهذه الخدمة المؤيدة بأعمال الشفاء
والرحمة اجتذبت الجموع حوله وأثارت بداخلهم تساؤلات عن ماهية ملكوت السماوات، ما هي
طبيعة هذا الملكوت الذي يتكلم عنه يسوع ومن هم رعاياه؟! على أي أسس يُبنى هذا
الملكوت وما هي القوانين السائدة فيه؟! من هو الملك في هذا الملكوت وكيف يمكن
التواصل معه وارضاؤه؟!
لما وجد يسوع الجموع تتزايد جداً حوله وتترك كل
مشغولياتها وتتبعه، ولما قرأ هذه الحيرة والتساؤلات في عيونهم، صعد إلى الجبل وجلس
كعادة المعلمين في ذلك الزمان، وبدأ يجيب بكلمات بسيطة وواضحة عن كل تساؤلات قد
تعتمل في قلوب الباحثين عن ملكوت السماوات، انسكبت النعمة على شفتيه وخرجت الكلمات
من فمه كالنور الذي يقشع ظلام الجهل وينير سبيل البر والفرح والسلام، وكالبلسم الذي
يشفي القلوب الحزينة ويداوي النفوس الجريحة، وكسيف ماضٍ ذي حدين يحارب قوى الشر
والضلال والفريسية.
على غير المتوقع لم يتكلم يسوع عن أمور خارقة ستميز
ملكوت السماوات ولا عن قوى شفاء معجزية أو معاملات إلهية فائقة للطبيعة، بل أتت
كلماته بسيطة وعملية تمس الواقع اليومي الذي تعيشه الناس، تكلم عن سلوكيات نمارسها
يومياً في علاقتنا مع الله ومع الآخرين، تكلم عن مشاعر إنسانية ومواقف حياتية
نختبرها في كل يوم، لم يتكلم يسوع عن ملكوت سينزل علينا من فوق بل عن ملكوت يبدأ
من أرض الإنسان ويصعد إلى فوق، ملكوت يبدأ ببذار حية تنغرس في قلب الإنسان وتنمو بقوة
الروح القدس حتى تلمس قلب الله!!
وبعدما تكلم الرب بهذه الكلمات في بداية خدمته عاش لمدة
ثلاث سنين يمارس أمام الجموع ما قاله لهم في موعظة الجبل، كانت حياته العملية
وسلوكه بمثابة الشرح والتفسير لكلماته وتعاليمه، كانت حياته تؤكد أن ملكوت الله
حقيقة قابلة للتنفيذ وواقع يمكننا أن نعيشه، فيسوع ليس من هذا النوعية من الوعاظ
الذين ينطقون بكلمات فخمة لا سبيل لتنفيذها، ولا هو من هؤلاء المعلمين الذين يضعون
على الناس أحمالاً عسرة الحمل ولا يريدون أن يحركوها بأصبعهم، بل هو المعلم الفريد
على مدار التاريخ الذي عاش كل كلمة نطق بها وأطاع كل وصية قبل أن يوصي بها!!
وبعدما أنهى يسوع خدمته على الأرض ارتفع على الصليب
ليقدم ذبيحته نيابة عن هؤلاء الذين يريدون أن يدخلوا ملكوت السماوات، وليشتري لهم
بدمائه امكانية سكنى الروح القدس في داخلهم ليعطيهم القدرة ليحيوا قوانين هذا
الملكوت، وعندما انسكب الروح القدس في يوم الخمسين كالمياه على بذار موعظة الجبل
المنغرسة في قلوب التلاميذ وجدناها تنمو وتزدهر، ورأى العالم كله ملكوت الله في
داخل الكنيسة، رأى شعباً بسيطاً يعيشون مشيئة الله على الأرض ويصنعون إرادته، رأى
قلوباً بشرية طبيعية تسمو لفوق لتلامس قلب الله!! ليت روح الله يعود ينسكب في
قلوبنا على كلمات هذه الموعظة الخالدة لنعود نحياها بالحق في حياتنا اليومية
(يتبع)