السبت، 28 يناير 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (1)
بقلم : فخرى كرم
أعظم موعظة سمعتها آذان البشر في كل أجيالهم، لم يستطع مرور السنين أن يقلِّل من قيمتها ولا تعاقب الحضارات أن يضعف من تأثيرها، قيلت بكلمات بسيطة لشعب الجليل البسطاء لكن أعظم العقول تعلَّمت ومازلت تتعلم منها، نطق بها سيدي على مدارج «قرن حطين» الجبلية الجرداء لكنها نُقشت بالذهب في قصور أعظم الملوك على مدار التاريخ، بل بالأحرى نُقشت بالروح في قلوب ملايين البشر الذين وجدوا فيها خلاصاً لحياتهم ونوراً لسبيلهم.
كان يسوع قد بدأ خدمته في منطقة الجليل بدعوة الشعب للتوبة وقبول «ملكوت السماوات» (مت4: 17) وهذه الخدمة المؤيدة بأعمال الشفاء والرحمة اجتذبت الجموع حوله وأثارت بداخلهم تساؤلات عن ماهية ملكوت السماوات، ما هي طبيعة هذا الملكوت الذي يتكلم عنه يسوع ومن هم رعاياه؟! على أي أسس يُبنى هذا الملكوت وما هي القوانين السائدة فيه؟! من هو الملك في هذا الملكوت وكيف يمكن التواصل معه وارضاؤه؟!
لما وجد يسوع الجموع تتزايد جداً حوله وتترك كل مشغولياتها وتتبعه، ولما قرأ هذه الحيرة والتساؤلات في عيونهم، صعد إلى الجبل وجلس كعادة المعلمين في ذلك الزمان، وبدأ يجيب بكلمات بسيطة وواضحة عن كل تساؤلات قد تعتمل في قلوب الباحثين عن ملكوت السماوات، انسكبت النعمة على شفتيه وخرجت الكلمات من فمه كالنور الذي يقشع ظلام الجهل وينير سبيل البر والفرح والسلام، وكالبلسم الذي يشفي القلوب الحزينة ويداوي النفوس الجريحة، وكسيف ماضٍ ذي حدين يحارب قوى الشر والضلال والفريسية.
على غير المتوقع لم يتكلم يسوع عن أمور خارقة ستميز ملكوت السماوات ولا عن قوى شفاء معجزية أو معاملات إلهية فائقة للطبيعة، بل أتت كلماته بسيطة وعملية تمس الواقع اليومي الذي تعيشه الناس، تكلم عن سلوكيات نمارسها يومياً في علاقتنا مع الله ومع الآخرين، تكلم عن مشاعر إنسانية ومواقف حياتية نختبرها في كل يوم، لم يتكلم يسوع عن ملكوت سينزل علينا من فوق بل عن ملكوت يبدأ من أرض الإنسان ويصعد إلى فوق، ملكوت يبدأ ببذار حية تنغرس في قلب الإنسان وتنمو بقوة الروح القدس حتى تلمس قلب الله!!
وبعدما تكلم الرب بهذه الكلمات في بداية خدمته عاش لمدة ثلاث سنين يمارس أمام الجموع ما قاله لهم في موعظة الجبل، كانت حياته العملية وسلوكه بمثابة الشرح والتفسير لكلماته وتعاليمه، كانت حياته تؤكد أن ملكوت الله حقيقة قابلة للتنفيذ وواقع يمكننا أن نعيشه، فيسوع ليس من هذا النوعية من الوعاظ الذين ينطقون بكلمات فخمة لا سبيل لتنفيذها، ولا هو من هؤلاء المعلمين الذين يضعون على الناس أحمالاً عسرة الحمل ولا يريدون أن يحركوها بأصبعهم، بل هو المعلم الفريد على مدار التاريخ الذي عاش كل كلمة نطق بها وأطاع كل وصية قبل أن يوصي بها!!  

وبعدما أنهى يسوع خدمته على الأرض ارتفع على الصليب ليقدم ذبيحته نيابة عن هؤلاء الذين يريدون أن يدخلوا ملكوت السماوات، وليشتري لهم بدمائه امكانية سكنى الروح القدس في داخلهم ليعطيهم القدرة ليحيوا قوانين هذا الملكوت، وعندما انسكب الروح القدس في يوم الخمسين كالمياه على بذار موعظة الجبل المنغرسة في قلوب التلاميذ وجدناها تنمو وتزدهر، ورأى العالم كله ملكوت الله في داخل الكنيسة، رأى شعباً بسيطاً يعيشون مشيئة الله على الأرض ويصنعون إرادته، رأى قلوباً بشرية طبيعية تسمو لفوق لتلامس قلب الله!! ليت روح الله يعود ينسكب في قلوبنا على كلمات هذه الموعظة الخالدة لنعود نحياها بالحق في حياتنا اليومية (يتبع)

الجمعة، 6 يناير 2017

أحاديث من القلب

المُشرق من العلاء  
بقلم : فخرى كرم
«بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المُشرق من العلاء» (لو1: 78)
مصدر النور دائماً هو «العلاء» حيث محضر الله الذي عنده يسكن النور (دا2: 22) وهو الساكن في نور لا يُدنى منه (1تي6: 16) لا يوجد نور يصعد من الأرض بل فقط يشرق النور من العلاء، وتماماً كما تحيا الأرض بأشعة الشمس وتدب فيها الحياة هكذا يحدث معنا، عندما يشرق الله على حياتنا تستنير عيون أذهاننا وتدب الحياة في أرواحنا ونفوسنا وأجسادنا. النور الآتي من الله ليس شيئاً سلبياً بل هو الحياة عينها (يو1: 4، 5) طاقة حياة ايجابية تطرد طاقات الموت السلبية وتخلق فينا القوة والنماء، انه ينير كل انسان وكل الإنسان (يو1: 9)
الأرض ليست مصدراً للنور بل لابد أن تواجه الشمس لتحصل على النور، أما إذا استدارت الأرض بعيداً عن مواجهة الشمس تغرق في الظلام، وهكذا نحن نحصل على النور إذا تواجهنا مع الله ورفعنا عيوننا إلى العلاء (أش40: 26) أما إذا تحولت عيوننا وأرواحنا بعيداً عن محضر الله فلابد أن نتخبط في ظلمة أفكارنا وعتمة أرواحنا، لابد أن نتيقن أن الإنسان لا يمكنه أن يكون مصدراً للنور الحقيقي المانح الحياة لكنه فقط يستطيع أن يستقبل هذا النور الحي من الله المُشرق من العلاء.
إذا تتبعنا أوقات الحياة المشرقة في تاريخ شعب الله في العهد القديم والجديد سنجد دائماً أن هذه الأوقات كانت تبدأ بشعاع نور يصل من الله إلى قلب إنسان ما، ويعوزنا الوقت إذا تكلمنا عن النور الذي وصل لإبراهيم وقاده في طريق لا يعرفها إلى أرض لا يعرفها، أو الشمس التي أشرقت ليعقوب في فنوئيل عندما نظر الله وجهاً لوجه (تك32: 30، 31) أو النور الذي لمع لموسى في العليقة وجعل منه أعظم قائد للشعب القديم، أو النور الذي أبرق حول شاول الطرسوسي فأسقط قشوراً من عينيه وجعله رسولاً عظيماً يفتح عيون الشعوب ليرجعوا من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله (أع26: 18) ..الخ
لكن للأسف نفس التاريخ يخبرنا أن فترات الظلمة كانت أكثر من فترات النور في حياة شعب الله، وأن الأوقات التي أعطوا فيها لله القفا لا الوجه كانت أوقات شديدة الظلام يسودها الموت والخراب، التاريخ يفاجئنا بحقيقة مذهلة وهي أن الإنسان يحب الظلمة أكثر من النور (يو3: 19-21) دائماً الانسان يقاوم النور ويهرب من مواجهته ويحب أن يقبع في الظلام!! رغم كل أشعة النور التي أرسلها الله طوال العهد القديم إلا أن الشعب كان قبيل مجيء المسيح جالساً في الظلمة وظلال الموت!! ولا تسأل عن كيف استطاع الشعب أن يهرب من كل تأثيرات النور الذي وصل إليه ولا كيف استطاعوا تحويل النور في حياتهم إلى ظلام، فهذه قدرة مذهلة في الإنسان!! الإنسان قادر أن يتحايل على النور ويهرب منه لكي يعفي نفسه من المسئولية ويظل جالساً في ظلمته وظلال موته!!

قبيل ميلاد الرب يسوع تنبأ الروح القدس على لسان زكريا الكاهن بان الله سيعود في المسيح يشرق على الشعب الجالس في الظلمة، وأن هذا الإشراق سيكون الأكمل والأجمل في كل التاريخ البشري، وأن هذا الإشراق مؤسس فقط على رحمة الله ورأفته وليس على أي صلاح في الإنسان، فالشعب في ذاته لم يكن مستحقاً لأي نور جديد لأنه لم يكن أميناً على النور الذي أخذه قديماً، لكنها أحشاء رحمة إلهنا التي أرادت أن تشرق على البشرية بفجر جديد، فجر ميلاد النور الحقيقي شخص ربنا يسوع المسيح، وكل عام وأنتم بخير.