موعظة الجبل (9)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى
للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله» (مت5: 8)
كينونة الإنسان تتكون من كيانين أساسيين، الكيان
الخارجي الظاهر والكيان الداخلي الخفي (2كو4: 16) الكيان الخارجي هو سلوكيات
الإنسان التي يراها الناس أما الكيان الداخلي فتتجمع فيه أفكار ودوافع الإنسان
الخفية التي لا يراها الناس، وهذا الكيان الباطن الخفي هو ما يسميه الكتاب «القلب»
وعن هذا قال السيد «لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى فسق
قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل، جميع هذه الشرور تخرج من
الداخل وتنجس الإنسان» (مر7: 21-23)
وعادة يهتم الإنسان بكيانه الخارجي أكثر من كيانه
الداخلي، والسبب هو أن الناس ترى الكيان الخارجي ومن خلاله تحكم على صاحبه ايجاباً
أو سلباً، ولأن الإنسان يهتم كثيراً بحكم الناس وبصورته أمامهم لذلك هو يهتم بتزيين
كيانه الخارجي أكثر من اهتمامه بنقاء كيانه الداخلي، وفي هذا قال السيد «أنتم الآن
أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس والقصعة وأما باطنكم فمملوء اختطافاً وخبثاً، يا
أغبياء أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضاً؟!» (لو11: 39، 40)
أما الله فعلى العكس من الناس لا ينظر كثيراً إلى
خارج الإنسان بقدر ما ينظر إلى قلبه «لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر
إلى العينين وأما الرب فينظر إلى القلب» (1صم16: 7) الله يهتم أكثر بصلاح القلب لأن
صلاح القلب يحتِّم بالضرورة جمال الخارج أما تزيين الخارج فلا يعني بالضرورة صلاح
القلب!! الكيان الداخلي دائماً يؤثر وينعكس على الكيان الخارجي لكن العكس ليس
صحيحاً، فالإناء ينضح بما فيه أو كما قال السيد «من فضلة القلب يتكلم الفم،
الانسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات» (مت12: 34، 35) فلا
يمكننا بتزيين السلوك الخارجي أن نُصلح القلب في الداخل، بل أن الواقع العملي يؤكد
أننا قد ننجح في تنقية الخارج ويظل الداخل فاسداً وقد يستطيع الإنسان أن يكرم الله
بشفتيه ويظل القلب مبتعداً عنه بعيداً (مر7: 6) وهذا ما يسميه الرب «الرياء»!!
في التطويب السادس يؤكد الرب أن أبناء ملكوت الله
يتميزون بنقاء القلب، انهم على العكس من أبناء العالم لا يهتمون بصورتهم أمام
الناس بقدر اهتمامهم بنقاء قلوبهم أمام الله، عندما يفحص الروح أعماقهم الخفية يجد
أفكاراً نقية ونوايا طاهرة ودوافع شريفة، لسان حالهم دائماً يقول «قلباً نقياً
اخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي» (مز51: 10) وأيضاً «اختبرني يا
الله واعرف قلبي امتحني وأعرف أفكاري» (مز139: 23) وهذا لا يعني أبداً أنهم يهملون
في سلوكياتهم أمام الناس لأننا اتفقنا أن الداخل النقي لابد أن ينضح على صورتهم
الخارجية بزينة مقدسة خالية من الرياء.
والرب يؤكد أيضاً أن نقاء القلب هو الطريق لرؤية
الله في حياتنا، الله كلي الصلاح والنقاء وليس فيه أي اعوجاج أو رياء، ولكي نستطيع
أن نتعامل مع الله وجهاً لوجه لابد أن نمتلك قلوباً صالحة ونقية ولو في حدها
الأدنى، فأبسط قواعد العلاقة الصحيحة بين طرفين هو الحد الأدنى من التوافق
والانسجام بين قلبيهما، لا يمكن لإلهنا الصالح أن يعلن عن نفسه أو يدخل في علاقة
حميمة مع قلب غير صالح وغير نقي!! إن الطريق الوحيد لنختبر حضور الله في حياتنا هو
أن نترك روح الله ينقي قلوبنا من كل دنس، أما إذا أهملنا نقاء قلوبنا فلابد أن
نعاني من عدم رؤيتنا لله عاملاً في حياتنا بوضوح، وللحديث بقية (يتبع)