الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (9)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله» (مت5: 8)
كينونة الإنسان تتكون من كيانين أساسيين، الكيان الخارجي الظاهر والكيان الداخلي الخفي (2كو4: 16) الكيان الخارجي هو سلوكيات الإنسان التي يراها الناس أما الكيان الداخلي فتتجمع فيه أفكار ودوافع الإنسان الخفية التي لا يراها الناس، وهذا الكيان الباطن الخفي هو ما يسميه الكتاب «القلب» وعن هذا قال السيد «لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل، جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان» (مر7: 21-23)
وعادة يهتم الإنسان بكيانه الخارجي أكثر من كيانه الداخلي، والسبب هو أن الناس ترى الكيان الخارجي ومن خلاله تحكم على صاحبه ايجاباً أو سلباً، ولأن الإنسان يهتم كثيراً بحكم الناس وبصورته أمامهم لذلك هو يهتم بتزيين كيانه الخارجي أكثر من اهتمامه بنقاء كيانه الداخلي، وفي هذا قال السيد «أنتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس والقصعة وأما باطنكم فمملوء اختطافاً وخبثاً، يا أغبياء أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضاً؟!» (لو11: 39، 40)
أما الله فعلى العكس من الناس لا ينظر كثيراً إلى خارج الإنسان بقدر ما ينظر إلى قلبه «لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فينظر إلى القلب» (1صم16: 7) الله يهتم أكثر بصلاح القلب لأن صلاح القلب يحتِّم بالضرورة جمال الخارج أما تزيين الخارج فلا يعني بالضرورة صلاح القلب!! الكيان الداخلي دائماً يؤثر وينعكس على الكيان الخارجي لكن العكس ليس صحيحاً، فالإناء ينضح بما فيه أو كما قال السيد «من فضلة القلب يتكلم الفم، الانسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات» (مت12: 34، 35) فلا يمكننا بتزيين السلوك الخارجي أن نُصلح القلب في الداخل، بل أن الواقع العملي يؤكد أننا قد ننجح في تنقية الخارج ويظل الداخل فاسداً وقد يستطيع الإنسان أن يكرم الله بشفتيه ويظل القلب مبتعداً عنه بعيداً (مر7: 6) وهذا ما يسميه الرب «الرياء»!!
في التطويب السادس يؤكد الرب أن أبناء ملكوت الله يتميزون بنقاء القلب، انهم على العكس من أبناء العالم لا يهتمون بصورتهم أمام الناس بقدر اهتمامهم بنقاء قلوبهم أمام الله، عندما يفحص الروح أعماقهم الخفية يجد أفكاراً نقية ونوايا طاهرة ودوافع شريفة، لسان حالهم دائماً يقول «قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي» (مز51: 10) وأيضاً «اختبرني يا الله واعرف قلبي امتحني وأعرف أفكاري» (مز139: 23) وهذا لا يعني أبداً أنهم يهملون في سلوكياتهم أمام الناس لأننا اتفقنا أن الداخل النقي لابد أن ينضح على صورتهم الخارجية بزينة مقدسة خالية من الرياء.

والرب يؤكد أيضاً أن نقاء القلب هو الطريق لرؤية الله في حياتنا، الله كلي الصلاح والنقاء وليس فيه أي اعوجاج أو رياء، ولكي نستطيع أن نتعامل مع الله وجهاً لوجه لابد أن نمتلك قلوباً صالحة ونقية ولو في حدها الأدنى، فأبسط قواعد العلاقة الصحيحة بين طرفين هو الحد الأدنى من التوافق والانسجام بين قلبيهما، لا يمكن لإلهنا الصالح أن يعلن عن نفسه أو يدخل في علاقة حميمة مع قلب غير صالح وغير نقي!! إن الطريق الوحيد لنختبر حضور الله في حياتنا هو أن نترك روح الله ينقي قلوبنا من كل دنس، أما إذا أهملنا نقاء قلوبنا فلابد أن نعاني من عدم رؤيتنا لله عاملاً في حياتنا بوضوح، وللحديث بقية (يتبع)      

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (8)
بقلم : فخرى كرم 
«طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون» (مت5: 7)
الرب هنا يشير إلى صفة جديدة تميز أبناء الملكوت وهي أنهم رحماء، والرحمة في أبسط معانيها هي رفع الأثقال عن كاهل الآخرين، فالرحيم هو الشخص الذي يشعر بأثقال الناس ويعمل دائماً لرفعها عنهم أو على الأقل تخفيفها، مقتدياً بسيده الذي كان يجول يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم ابليس، يسوع الذي دعا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال لكي يريحهم، يسوع الذي نراه في آخر لحظات حياته لا يتوانى أن يرفع ثقل الخطية عن كاهل اللص المعلَّق بجواره، يسوع وهو يتوجع مصلوباً لم ينسَ أن يرفع عن أمه هموم الأيام التالية عندما طلب من يوحنا أن يأخذها إلى خاصته !! فأثقال الناس قد تكون ذات طبيعة روحية مثل خطايا اللص المصلوب وقد تكون ذات طبيعة نفسية مثل ثقل الحزن والوحدة الذي كانت الأم المكلومة تنوء تحته!!
الرحمة هي أن تفعل الخير للآخرين بغض النظر عن استحقاقهم للخير أو عدم استحقاقهم، إذا قدمنا الخير للمستحقين فقط فلا يُعد عملنا هذا رحمة، عمل يسوع الرحمة مع الأحباء والأعداء، مع الأبرار والأشرار    وعلَّمنا ألا نحب الذين يحبوننا فقط بل نحب أعداءنا ونُحسن إليهم ونصلي لأجلهم، وفي مَثَل السامري الصالح علَّمنا يسوع أن نصنع الرحمة مع القريب ومع العدو، فالدافع الأوحد للرحمة هو صلاح الراحم وليس صلاح من تتجه إليهم الرحمة!!
والرحمة هي أن ترفع أثقال الآخرين دون أن تنتظر منهم مقابلاً أو تتوقع منهم امتناناً، فالراحم يرحم بسرور لأن هذه هي طبيعته ودون انتظار لأي مجازاة، سروره الحقيقي أنه يتشبه بسيده ويتمم مشيئته!!
الله يريد أن يرى الرحمة في كل سلوكياتنا، بل أنه يعتبر الرحمة هي جوهر العبادة المقبولة، وبدون الرحمة تصبح عبادتنا ممارسات جوفاء لا معنى لها!! قدم الشعب قديماً صوماً لله لكن الرب لم ينظر إليهم ولم يستجب، ولما تساءل الشعب «لماذا صمنا ولم تنظر؟ ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟» كانت إجابة الرب لهم على فم إشعياء «أليس هذا صوماً أختاره: حلَّ قيود الشر، فك عقد النير وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كل نير، أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تُدخل المساكين التائهين إلى بيتك، إذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك» (أش 58)
هذه القائمة من الأعمال هي ببساطة أعمال الرحمة التي ينتظر منا الرب أن نعملها مع الجميع، لقد ظن الشعب أنه يستطيع أن يقدم للرب طقوساً دينية مقبولة دون أن تظهر في حياتهم اليومية أعمال الرحمة، لقد أخطأوا فهم طبيعة إلههم وظنوه يُسر بالتقدمات والذبائح مثل آلهة الأمم الباطلة، بينما الحقيقة هي أن إلهنا لا يرضى إلا بكل ما يتفق مع طبيعته الصالحة والرحيمة. ولقد أشار الرب يسوع لكلمات اشعياء هذه عندما قال مرة لمنتقديه «اذهبوا وتعلَّموا ما هو: إني أريد رحمة لا ذبيحة» (مت9: 13) ما أسهل أن يقدم الإنسان ذبيحة لكن ما أصعب أن يقدم رحمة!!                                                          ووعد الرب للرحماء أنهم بلا شك يُرحمون، وهذا تأكيد للقانون الإلهي «لا تضلوا، الله لا يُشمخ عليه (لا يُخدع) فان الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً» (غل6: 7) مَن يختار أن يُرضي الله ويتوافق معه في عمل الرحمة لابد أن يجد رحمة الله تحيطه من كل جهة، أما مَن يظن أنه يستطيع أن يقدم عبادات لله دون أن يتخذ الرحمة منهجاً لسلوكه فهو يظن أنه يستطيع أن يخدع الله، وهذا هو الضلال بعينه!! وللحديث بقية (يتبع)