الثلاثاء، 3 أبريل 2018

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (15)

 بقلم : فخرى كرم

«لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل أكمِّل»(مت5: 17)

بعدما تكلم الرب عن صفات أبناء الملكوت وسبب وجودهم في العالم لا شك أن تساؤلات كثيرة بدأت تثور في أذهان سامعيه: ما هذه التعاليم الجديدة التي يتكلم بها يسوع؟ هل يسوع ينادي بإله جديد له شرائع جديدة تختلف عن ناموس إله اسرائيل؟ هل يسوع يعلن فشل المخطط الإلهي القديم الذي بدأه يهوه مع شعبه ولذلك هو ينقض هذا المخطط القديم ويقيم مخططاً جديداً؟! ولأن ربنا كان يرى هذه الظنون في أذهان السامعين بدأ يجيب عنها في المقطع التالي من موعظة الجبل.
يبدأ الرب كلامه بنفي هذه الظنون من أذهان السامعين، فالإله الذي ينادي به يسوع هو نفسه إله اسرائيل، وشريعته التي أعطاها لشعبه قديماً لا يمكن أن تُنقض، ولم يأتِ يسوع ليضيف تعاليم جديدة إلى الناموس بل ليسير به إلى الكمال!! يسوع هنا يعلمنا أن نؤمن بوحدة الكتاب المقدس بعهديه وبوحدة الإعلان الإلهي فيه وبوحدة القصد الإلهي من نحو الإنسان عبر التاريخ كله!!
حين أعطى الله الناموس للشعب القديم كان في قلبه قصد صالح من نحو الإنسان، كان يريد أن يخلِّص الانسان من السقوط الذي حصل في جنة عدن ويعود به إلى مشيئة الله ورضاه، وهذا القصد الإلهي لا يمكن أن يفشل أو يتغير قط، بل لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة منه حتى يكون الكل، ولم يأتِ يسوع إلى أرضنا إلا ليصل بهذا القصد الإلهي إلى الكمال!!
كان الله يريد من وراء الناموس أن يقدِّس لنفسه شعباً خاصاً يكون اعلاناً عنه لكل الأرض، وهذا تماماً ما أتى يسوع ليكملِّه، وصايا الناموس كانت ترسم للانسان خطوات الرجوع إلى رضا الله ومحضره، ويسوع أتى ليسير في هذه الخطوات ويزيدها وضوحاً وعمقاً، طقوس الناموس كانت تهدف لغرس بغضة للنجاسة وطلب للقداسة في نفوس العابدين، وهذا ما غرسه يسوع في نفوس تلاميذه بعمل روحه القدوس، ذبائح الناموس كانت ترسِّخ لمبدأ أن أجرة الخطية موت ولعنة أما رضا الله فهو حياة وبركة، وهذا بالضبط ما استطاع يسوع أن يعلنه في صليبه وقيامته!!
ما يعلنه يسوع هنا هو أن اعلان الله واحد في جوهره ولكنه متدرج نحو الكمال عبر التاريخ البشري، فاذا كان جوهر اعلان الله في الناموس باقٍ لا يمكن أن يُنقض إلا أنه في المسيح تقدم نحو الكمال، مقاصد الله من وراء الناموس صارت أكثر وضوحاً وامكانية للتنفيذ من خلال حياة يسوع وتعاليمه وعمله الكفاري، يسوع لم يأت ليسير في خط موازٍ أو متقاطع مع الخط الذي سار فيه الله مع شعبه القديم، لكنه أتى ليسير في نفس الخط وليصل فيه إلى الكمال.

لقد أحسن الكتبة والفريسين صنعاً عندما تمسكوا بالناموس باعتباره شريعة الله وقدِّسوا كلماته بل وحروفه ونقاطه!! لكنهم أخطأوا حينما ظنوا أن الناموس هو مجرد النصوص والكلمات ولم يدركوا أن المهم حقاً هو المعاني والمقاصد الإلهية التي تحملها النصوص والكلمات!! أحسنوا عندما افتخروا بأنهم الشعب الذي استأمنه الله على الناموس ولكنهم أخطأوا عندما ظنوا أن هذا الناموس هو آخر اعلانات الله للانسان ولا يمكن الاضافة اليه أو التقدم به نحو اعلان أكمل وأعظم!! وسيبدأ الرب في الأجزاء التالية من موعظة الجبل يشرح لنا كيف يمكن التقدم بوصايا الناموس نحو كمال تحقيقها، ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)