الأحد، 1 مارس 2020

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (38)
بقلم : فخرى كرم

«.. كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» (مت6: 12)
يربط الرب بهذه الكلمات بين غفران الله لذنوبنا وغفراننا نحن للمذنبين إلينا، كما عاد وأكد هذا الارتباط في نهاية الصلاة بقوله «فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم» (ع14، 15) ولكي نفهم معنى هذا الارتباط لابد أن نفهم أولاً أن ربنا لا يتكلم هنا عن الغفران الأبدي بل عن الغفران الأبوي، فكل خطية نعملها كأبناء للملكوت لها وجهان: وجه قضائي أبدي ووجه علاقاتي أبوي، وبالتالي هي تحتاج إلى وجهين للغفران: غفران أبدي وغفران أبوي!!
 (1) الغفران الأبدي: قضائياً خطيتنا تستلزم قصاصاً أبدياً لأن أجرة الخطية هي الموت، والموت هو الإنفصال الأبدي عن الله، وبالتالي فغفران الخطية أبدياً يحتاج إلى ذبيحة كفارية أبدية تُقدم أمام الله عن الخطايا، وقد قدم يسوع نفسه كذبيحة خطية أمام الآب عن كل خطايانا مرة وإلى الأبد، وبالتالي فحصولنا على الغفران الأبدي لذنوبنا لا يتوقف على أية أعمال نعملها مهما كانت بل يتوقف فقط على قبولنا لذبيحة المسيح المقدمة عنا ودخولنا تحت ستر دماه التي سُفكت عنا على الصليب!!
إذاً عبارة «وإغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين إلينا» لا تعني الغفران الأبدي لذنوبنا لأن الغفران الأبدي لا يؤسس على غفراننا للأخرين ولا على أي شيء آخر سوى على نعمة الله التي ظهرت لنا في صليب المسيح، وما يؤكد هذه الحقيقة هو أن الرب علمنا أن نقول في بداية الصلاة «آبانا الذي..» أي أننا نخاطب الله باعتبارنا أبنائه بالفعل، وهذا يتضمن بالضرورة حصولنا على الغفران الأبدي لخطايانا، فلا يُعقل أن نكون منفصلين أبدياً عن الله ونخاطبه قائلين «آبانا الذي»!! لكن للغفران وجه آخر:
(2) الغفران الأبوي: علاقاتياً الخطية تفصلنا عن الشركة الحميمة مع أبينا السماوي، لأن كل خطية نعملها في دائرة الملكوت تعني أننا اتخذنا موقفاً مخالفاً للموقف الذي يتخذه الآب السماوي، وخطونا خطوة مبتعدة عن المسار الذي يخطو هو فيه، واعتنقنا فكراً مغايراً لفكره تعالى، وتصرفنا بطبيعة مضادة للطبيعة الموجودة في شخصه، وهذا يؤدي بالضرورة لفقدان قدرتنا على التواصل اليومي معه وسماعنا لصوته ومشاركتنا في أفكاره، ليس لأنه هو تغير من نحونا لكن لأننا نحن ابتعدنا عنه في قلوبنا وأفكارنا ومشاعرنا، ووضعنا أنفسنا في مناخ لا يتوافق مع المناخ الموجود في محضره!!
ان طبيعة الله هي الغفران، هو يحب أن يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويُمطر على الأبرار والظالمين، المناخ الموجود في محضره هو مناخ الرحمة والمحبة والغفران، الصلاح هو جوهر أفكاره ومشاعره، الخير هو طبيعة وجوده وأعماله، وفي كل مرة نختار أن لا نغفر للمذنبين إلينا، ونختار أن نغضب ونحقد وننتقم، نكون فعلياً قد اختارنا أن ننفصل عن شركتنا مع أبينا السماوي، ونكون عملياً قد ابتعدنا عن علاقتنا الحميمة به، ونصبح عندئذ عاجزين عن التوافق معه والتجاوب مع إرادته وأفكاره، بل قد نصبح _ بقصد أو بجهل _ مقاومين لمشيئته ومعطلين لتنفيذها!!
ولذلك نحن نحتاج أن نغفر دائماً للمذنبين إلينا لكي نحفظ أنفسنا في توافق مع طبيعة الله الغافرة، وبالتالي يسهل أن يغفر لنا أبونا السماوي ذنوبنا ليس بالمعنى الأبدي للغفران بل بمعنى أن يعيدنا إلى شركته الأبوية ويحفظنا دائماً في حالة التوافق الحميم مع أفكاره ومشاعره، وللحديث بقية (يتبع)