السبت، 27 يناير 2024

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (61)

بقلم : فخري كرم

الروح المعزى يعين ضعفنا في حربنا مع العدو الأخطر الكامن في أعماقنا ، والذي يسميه الكتاب عدة أسماء للدلالة على صفاته المتعددة ، فهو «الإنسان العتيق» و «الناموس» الكامن في أعضائنا و «الحية» المتلونة المخادعة ، كما أنه «الجسد» ، ولكن بمفهوم مختلف تماما عن الجسد المادي ، واليوم نتحدث عن أسوأ أسماء أو صفات هذا الكيان ألا وهو :

ضد الروح (غل 5 : ۱۷)

 إذا كان إبليس هو «ضد الله» لأنه يحاول أن يكون إلهاً لهذا الدهر ورئيساً للعالم بدلاً من الله الإله الحقيقي وحده والمالك الشرعي للعالم ، وإذا كان العالم الآن يتهيأ لاستقبال «ضد المسيح» الذي سيكون إنسانا ممتلئاً شراً وكذباً ومؤيداً بكل سلطان إبليس ليضل العالم كله ويقوده للضيقة العظيمة ، فإن أعماقنا تحتوى على «ضد الروح» الذي دائما يشتهي ضد الروح ويسعى ضد الروح ويصارع ضد الروح !! يقول الرسول : «لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون » (غل 5: ۱۷)

وغني عن البيان أن الرسول يقصد بكلمة «الجسد » هنا جسد الخطية وليس الجسد المادي ، وقد شرحنا هذا باستفاضة في المرة الماضية ، كما أن كلمة «الروح» في الآية السابقة تعني - بحسب الأصل - الروح القدس وليس الروح الإنسانية كما قد يعتقد البعض ، فهذا الكيان الساقط لا يحارب أرواحنا بقدر ما يحارب سلطان الروح القدس على حياتنا، أنه يريد أن يكون القائد الوحيد لحياتنا والمتسلط الأوحد على رغباتنا ، لذلك فهو ينزعج للغاية عندما يبدأ المؤمن يخضع لمشيئة الروح فلا يتمم شهوة الجسد ، وعندئذ تنشب معركة داخل المؤمن بين هذا الكيان وبين الروح المبارك ، معركة على مناطق النفوذ والسلطة داخل النفس الإنسانية ، معركة قد لا يدري المؤمن نفسه أبعادها وأعماقها ، لكنه بالتأكيد يشعر بأحداثها ويساهم في حسمها ويحصد نتائجها !! 

إرادة مضادة

إذا كان الروح يريد أن يقود حياتنا إلى شركة عميقة مع الله فإرادة الإنسان العتيق داخلنا هي التجنب والابتعاد عن حياة الله (أف 4 : ۱۸) إذا حاول الروح أن يجتذبك إلى مخدع الصلاة تجد قوة أخرى داخلك تجذبك بعنف للخروج من المخدع والجلوس أمام التليفزيون أو إضاعة وقتك بأي شكل آخر !! وإذا أراد الروح المبارك أن يشرح لنا فكر إلهنا ويغرسه في أعماقنا نجد هذا الكيان الأثيم لا يقبل ولا يفهم ولا يريد أن يفهم ما لله ويعتبره جهالة (1 كو ۲: 14) (رو ۱۱:۳)، إنه يفهم جيدأ القصص الفارغة والنكت البذيئة ويتتبع بشغف أخبار الساسة والفنانين والمال والاقتصاد ويهتم حتى بالفلك والأبراج ولكنه أمام أمور الله يصاب بالعته والبلادة والجمود !! وإذا كان الروح يعلمنا كيف نحب الآخرين ونصنع سلاما بينهم فالحية الساكنة فينا تسعى لبث السم في كل من حولها وتسعى بأرجل سريعة إلى سفك الدم ونشر المرارة في وسط الجماعة (عب ۱۲ : ۱۵).

من منا لم يشعر بهذا الصراع الداخلي المحتدم ؟ من منا لم يعان من وجود كيانين مختلفين في أعماقه ؟ كيانان على طرفي النقيض في كل شيء ، إنسانان يتصارعان على إرادتنا في كل تفاصيل الحياة ، أحدهما هو الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور والآخر هو الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق (أف 4 : 24) الإنسان العتيق يتقوى بإبليس والعالم الشرير المحيط بنا والإنسان الجديد يتقوى بالروح المبارك الساكن فينا، من يحسم هذا الصراع يا ترى ؟

الإرادة الانسانية

لا يظن أحد أن الصراع بين الإنسان العتيق والروح القدوس يحسمه أيهما أقوى، حاشا ، فروح الله دائما أقوى وأعظم من أن يوضع في مقارنة مع طبيعتنا المائتة الترابية، لكن من يحسم الصراع داخلنا هي إرادتنا نحن !! في أي اتجاه ستختار إرادتنا أن تسير ، مع أي قوة ستتعاطف !! لقد خلق الله الإنسان حرا في اختياره ، دائما يضع أمامه الحياة والموت ويترك لإرادته حرية الاختيار بينهما ( تث 30 : 19) الله لا يطلب منا أن ننتصر على الإنسان العتيق الذي بداخلنا لأنه أقوى منا ولأن هذه هي مهمة الروح المبارك ، لكنه يطلب منا أن ننحاز للروح ونخضع له في صراعه مع هذا الكيان الأثيم ، الروح يمكنه أن يعين ضعفنا لكن لا يمكنه أن يفرض إرادته علينا !! وللحديث بقية .

 

 

 

 

الجمعة، 19 يناير 2024

أحاديث من القلب

 

 

سبعة أرواح الله (60)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الروح المعزي يشفع فينا في مواجهة الكيان الساقط الموجود بداخلنا ، ولقد استعرضنا بعض الأسماء والصفات التي وصف بها الكتاب المقدس هذا الكيان ، فهو إنسان" عتيق و ناموس" كامن في أعضائنا و"حية" بنت أفعى !! واليوم نضيف أن هذا الكيان يسمى أيضا :

الجسد

أثار هذا الاسم الكثير من سوء الفهم في الأوساط الروحية والسبب أن الرسول يستخدم كلمة "الجسد" بمعنيين مختلفين في كل رسائله ، وعدم التمييز بين هذين المعنيين أدى إلى الخلط بينهما وتسبب في معاناة روحية للكثيرين !! لذلك من الضروري أن نفهم فكر الرسول جيداً ونميز بين هذين المعنيين المختلفين ، المعنى الأول والبسيط هو :

الجسد المادي

وهو الجسد الذي أخذناه بالميلاد وسنتركه بالموت ، وعندما يتكلم الرسول عن الجسد بهذا المعنى نراه يحترمه ويقدره ، كيف لا وهو الذي حمل سمات الرب يسوع في "جسده" (غل6 : 17) وسعى في كل حياته أن يتعظم المسيح في "جسده" سواء بحياة أو بموت (في۱: ۲۰) ولا يظن أحد أن الرسول كان يعتبر الجسد المادي شرا وإلا كيف يصف الكنيسة بأنها " جسد " المسيح (أف ۱: ۲۳) !! لا يمكن أن الرسول يلجأ لتشبيه الكنيسة بالجسد إذا كان الجسد له معاني سيئة في ذهنه ، وفصل الخطاب في هذه المسألة هو قوله الصريح: "فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربيه كما الرب أيضا للكنيســــة " (أف 5: ۲۹) وإذا قال الرسول أن أحدا لم يبغض جسده قط فلابد أن الرسول كان يحب جسده !! ولذلك كان يصلي لأجل شفائه (۲ كو 12 : 8) وطلب من تلميذه تيموثاوس أن يهتم بجسده (1تي 5: ۲۳) وصلى لكي تحفظ أجساد مؤمني تسالونيكي كاملة حتى مجيء ربنا يسوع المسيح (1تس 5: ۲۳)

بل إن تعليم الرسول عن الجسد المادي يتعدى الاحترام والتقدير إلى التقديس !! فنراه يطلب من مؤمني رومية أن يقدموا أجسادهم ذبيحة حية "مقدسة" مرضية عند الله (رو ۱۲: ۱) ولأهل كورنثوس يقول: "أن أجسادكم هي أعضاء المسيح.. أن جسدكم هو هيكل للروح القدس.. فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله "(1كو6 : 15 ، 19 ، 20) وهل يمكن أن تكون أعضاء المسيح غير مقدسة ؟! أو هل يسكن الروح في هيكل غير مقدس ؟! وهل يمكن أن يتمجد الله في الجسد كما في الروح إلا إذا كان الجسد يتقدس تماما مثل الروح ؟! خلاصة القول أن الجسد المادي مقدر ومحترم وقابل للتقديس حتى يصير مسكناً للروح القدس وذبيحة مرضية أمام الله وسبب مجد لإلهنا وأداة بر في يد الله (روة : ۱۳).

أما المعنى الثاني لكلمة " الجسد" في كتابات الرسول بولس فهو:

جسد الخطية (رو6 : 6)

 وهو الإنسان العتيق الشرير الموجود بداخلنا ، ومن أشهر الأجزاء التي ورد بها هذا المعنى الإصحاحان السابع والثامن من رسالة رومية حيث نقرأ عنه هذه الصفات : "ليس فيه شيء صالح" ، "جسد هذا الموت " ، " خادم الخطية"، " اهتمامه موت وعداوة لله" ، "لا يستطيع أن يرضى الله" ... الخ

ومن الاختلاف - بل التناقض - الواضح بين الأوصاف التي استخدمها الرسول في وصف الجسد المادي وتلك المستخدمة في وصف جسد الخطية نتأكد أن الرسول يقصد أمرين مختلفين تماما ، فأحدهما يسكن فيه الروح القدس والآخر لا يسكن فيه شيء صالح، أحدهما ينبغي أن يتقدس ويقدم لله كذبيحة حية بينما الآخر ينبغي أن يموت ويصلب ، أحدهما آلات بر لله والآخر خادم للخطية ، أحدهما ينبغي الاهتمام به والآخر الاهتمام به عداوة لله ، إذا فالجسد المادي لا يمكن أن يكون هو جسد الخطية ، لكن للأسف كم من مؤمنين خلطوا بين المعنيين وعاشوا حياتهم في خصومة مع أجسادهم المادية ، واعتقدوا أن معركتهم هي مع اللحم والدم ، وغاب عنهم أن العدو الحقيقي أعمق من هذا بكثير!!

لماذا الجسد ؟

          والآن نسأل لماذا استخدم الرسول كلمة "الجسد" للتعبير عن هذا الكيان الساقط ؟ لماذا لم يستخدم كلمة أخرى تفاديا للخلط بينه وبين الجسد المادي ؟ والإجابة هي : أن هذا الكيان الشرير يمارس قوته وسطوته من خلال احتياجات ورغبات الجسد المادي، يسعى لتضخيم الأمور المادية ليجعل الإنسان يقضي كل حياته يلهث وراءها ، يحرص أن يظل الإنسان منكباً على شهواته منذ ميلاده وحتى موته، أي أن الجسد المادي هو الأداة التي يستخدمها جسد الخطية - في معظم الأحيان . لممارسة سلطانه على الإنسان ، حتى أننا نستطيع أن نميز سلطان جسد الخطية على إنسان ما من خلال اهتمامه الزائد باحتياجات جسده المادي، وبسبب هذا الارتباط بينهما قرر الرسول أن يستخدم كلمة واحدة للتعبير عنهما، كلمة واحدة تعبر عن الدافع الخفي والعمل الظاهر، عن القوة المحركة والأداة المستخدمة، مع ضرورة بقاء الفرق بينهما واضحا في ذهن و روح كل من الكاتب الملهم والقارئ المختبر !! وللحديث بقية .

 

الأحد، 14 يناير 2024

[حاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (59)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الروح «المعزي » يعين ضعفنا في مجالات شتى: فهو يعيننا في مجال الصلاة فيشفع فينا بأنات لا ينطق بها ، وهو يشفع فينا في مجال الحرب الروحية فيعلمنا كل الحق الذي به نواجه أكاذيب إبليس وننتصر. ويشفع فينا في مجال الخدمة فينطق فينا أمام الناس بما يناسب احتياجاتهم وبما يفوق - في أحيان كثيرة - علمنا وخبرتنا، واليوم نتحدث عن آخر تلك المجالات وأعمقها ألا وهو:

الصراع الداخلي (غل 5 : 17 )

 يعلمنا الكتاب أن صراعنا الأكبر ليس مع العالم أو إبليس بل مع كيان فاسد موجود في أعماقنا، فإذا كان العالم وإبليس قوي خارجية يمكن تمييزها فإن هذا الكيان يختبيء في اللاوعي داخلنا ويصعب تمييزه بسهولة، يعمل في الخفاء مثل الجاسوس لصالح العدو يفسد أشياء في حياتنا دون أن نراه ويقطع علاقتنا مع الله مراراً دون أن نشعر !! والكتاب يستخدم بعض الأسماء للدلالة على هذا الكيان، وكل تسمية لها معنى خاص وتشير إلى جانب مختلف من جوانب هذا الكيان:

الانسان العتيق (رو6 : 6)

إن هذا الكيان ليس مجرد قوى غريزية عشوائية كما يظن البعض بل هو «إنسان» كامل له فكر و مشاعر وإرادة، إنه كيان عاقل متكامل، إذا تركنا له الفرصة يستطيع أن يقود الحياة كلها!! بل إنه بالفعل يقود حياة الناس ويسيطر عليهم ويسبيهم إلى فعل الخطية ولو من طرف خفي !!

والرسول يستخدم كلمة « إنساننا » العتيق بالمفرد وليس بالجمع لأن هذا الكيان له جوهر واحد في جميع الناس، قد تختلف أشكاله وأساليبه من شخص إلى آخر بحسب البيئة والنشأة والثقافة لكن يبقى الجوهر واحد لأن جذور هذا الكيان ترجع إلى بذرة واحدة !!

فهذا الكيان « عتيق» لأن جذوره قديمة ترجع إلى نشأة الإنسان الأولى في جنة عدن. لقد ألقى إبليس بذرة هذا الكيان في داخل الإنسان البرىء عندما همس في أذن حواء أن تكف عن الخضوع لمشيئة الله وتنصاع لشهوتها، سقطت هذه البذرة في أرض الإنسان ولاقت قبولا منه فرعاها واحتضنها على مدار الأجيال، وسقاها من عصارة ذهنه ومشاعره حتى صارت شجرة عميقة الجذور يستحيل اقتلاعها، وأصبحت إنسانا متكاملا له فكره ومنطقه ونظرته للأمور ولذلك يسميه الرسول أيضا:

ناموس في الأعضاء (رو 7 : 23)

« ناموس» تعني أن هذا الكيان له حكمه ومقاييسه للصواب والخطأ والخير والشر أي أنه ليس مجرد غرائز غير عاقلة بل سيداً قاسياً له سلطانه على الإنسان كله!! لكن المشكلة أن حكمه ومقاييسه مخالفة تماما لحكم ومقاييس الله. إنه يستطيع أن يريح الضمير على أفعال أثيمة ويزعجه جدا إذا قرر فعل مرضاة الله!!

وهذا الناموس هو «في أعضائنا ، أي أنه في صميم تكويننا، إنه ليس عدواً خارجياً يمكن تجنبه بل داخلياً لا يمكننا الهروب منه، إنه متغلغل في كل أجزاء الكيان. كامن خلف كل الأفكار ورابض وراء كل المشاعر ومحرك لكل إرادة!! إنه يولد معنا وينمو معنا ولا يفارقنا إلا بالموت.

حيات أولاد أفاعي (مت 23 : 33)

عندما وصف الرب الكتبة والفريسيين بهذه العبارة لم يكن يشتمهم - حاشا - بل كان يصف الحقيقة المجردة، وأحيانا تكون الحقيقة قبيحة مثل الشتيمة !! فهذا الكيان مخادع ومراوغ جداً ، يجيد التخفي والتلون، يرتدي أي ثوب ويتكلم بأي لغة لكي يلقي القبول، إذا شعر بنجاسة في الداخل أظهر قداسة في الخارج، وإذا لمس حقداً وحسداً أسرع في إظهار المحبة، لا يعنيه ما بداخل الكأس إذا كان الخارج نظيفاً، يحاول الالتفاف على وصايا الله بأن يظهر تقديسه لها في العلن بينما يكسرها كل لحظة في الخفاء، إذا لاحظ الإعجاب في عيون الناس شعر بالرضا عن النفس حتى لو كانت أعماقه تموج بكل شر، إن دينه هو المظهر الجميل وإلهه هو عيون الناس !! لذلك يقول الرب «القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس، من يعرفه؟» (إر 9 : 17).

وإذا تذكرنا أن إبليس هو «الحية القديمة » ندرك على الفور «صلة القرابة» التي بين إبليس وبين هذا الكيان الساقط!! ونفهم لماذا قال الرب «أنتم من أب هو إبليس» (يو 8 : 44) إن هذا الكيان يحمل نفس طبيعة إبليس المخادعة!! وللحديث بقية.