السبت، 25 فبراير 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (31)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن عمل روح النار في يوم الخمسين كان أولا إظهار الصلاح الكامن في قلوب التلاميذ وتزكيته، واليوم نضيف أن الجانب الثاني لعمل الروح كان هو :

فضح الاثم وإدانته

رغم احتفاظ الأمة اليهودية بشكلها الخارجي كأمة متدينة تعبد الله الواحد وتختلف في ذلك عن الأمم الوثنية الموغلة في الشر والنجاسة والمتعبدة لأصنام جامدة، إلا أن الحق كما يراه الله كان أن قلب هذه الأمة يموج بكل نجاسات الأمم الأخرى وشرها، والفرق الوحيد هو أن الأمم الوثنية لا تجد غضاضة في المجاهرة بالشر لذلك فهي تمارسه علانية، أما الأمة اليهودية فهى تحاول الاحتفاظ بمظهرها المتدين لذلك فهي تمارس الشر في الخفاء !! وقبل أن يخرج الشر من القلب تغلفه بأوراق براقة، وكلما شعرت بنتانة العظام العفنة المدفونة في القلب لجأت إلى تبييض الجدران الخارجية وتزيينها !! وكلما ازداد الإثم في داخل الصحفة والكأس اللتان يقدمونهما لاطعام الشعب سعوا لتنقية خارجهما وتلميعه!! وكلما نمت النجاسة في داخل القلب أصروا على تقديس وتعظيم أهداب ثيابهم!!

كان الإثم في وسط الأمم يمارس علانية وكانت الهة الخشب والحجر تعبد في هياكل ضخمة واضحة للعيان، أما الأمة اليهودية فكانت تعبد نفس تلك الآلهة النجسة لكن في مخادع النفس الداخلية (حز( 8 : 12 !!

ولم يكن تمسكهم بالمظهر الحسن بدافع حبهم للنقاء أو رغبتهم في القداسة بل بدافع الاحتفاظ بنعرة التفوق على الآخرين والإحساس بالتميز الذي اكتسبوه في البداية عندما كان إله المجد يسكن في وسطهم، وبعد أن زال المجد وفارقهم الحضور الإلهي أبي القلب المتكبر الرديء إلا أن يظل يتعالى على الآخرين ويظل يفتخر بأنه أفضل منهم حتى بعد أن صار هذا الافتخار باطلا وفارغاً بلا مضمون.

غياب روح النار

كيف يمكن أن يعيش المجتمع بهذا الشكل من الخداع والرياء؟ وكيف يمكن أن تختبيء النجاسة خلف هذه المظاهر المقدسة؟ كيف أمكن لهذا الشعب أن يجمع بين الإثم والاعتكاف ؟! إن غياب روح النار هو الذي يعطي هذه الإمكانية!!

إن روح النار هو المسئول عن فضح الإثم وتعريته وإدانته، وفي حالة غياب هذا الروح المبارك يمكن للإثم أن يستتر في القلب لسنوات عديدة دون أن يراه أحد، بل يمكن أن يرسم لنفسه صورة خارجية جميلة تستأسر بإعجاب الناس وتقديسهم!! بل أحيانا قد يصل الأمر إلى حد أن صاحب القلب الأثيم قد يفقد إحساسه بإثمه ويصدق كذبه وينخدع بخداعه ويظن في نفسه القداسة فعلا!!

.. وعندما يحضر روح النار !!

لكن عندما يحضر روح النار يصير اختباء الإثم مستحيلا، فإزاء البر الحقيقي الذي أظهره الروح في الكنيسة ظهر أيضأ الخواء والشر الكامن في قلب الشعب اليهودي، وأمام بساطة ووداعة التلاميذ انفجر بركان كبرياء وقسوة اليهود ، وفي مواجهة المحبة التي ملأت جنبات الكنيسة تدفقت أنهار البغضة والحسد من قلوب الكهنة ورؤساء الشعب، وفي مقابل صدق واستقامة التلاميذ رأينا الكهنة ينتهجون منهج الكذب والإلتواء، لم يعد في إمكانهم الاحتفاظ بمظهر التقوى والورع بل رأيناهم ينحدرون في سلوكهم إلى سلوك المجرمين وقطاع الطرق (أع 23 : 15 ) !!

الحنطة والزوان

وهكذا بينما كان روح النار يضم كل يوم القديسين إلى جسد المسيح (أع 2 : 47 ) كان من الناحية الأخرى يفضح الخواء والشر المستتر في الأمة اليهودية، كان روح الحصاد يجمع الحنطة إلى المخازن وأيضا يجمع الزوان تمهيدا لحرقه، وبينما ربطت المحبة الأخوية بين جموع المؤمنين بالمسيح كانت البغضة والحسد والخوف على المصالح المادية تجمع اليهود معا ضد أتباع المسيح، وكان هذا التجمع إيذانا باقتراب القضاء السريع.

وبالفعل لم تمض سنوات كثيرة حتى أرسل الرب نيران تلتهم كومة الزوان الكبيرة، انهار الهيكل ولم يبق فيه حجر على حجر لم ينقض، واحترقت المدن وتهدمت المنازل وبنيها فيها ، وبينما كان تيطس الروماني هو الأداة المنفذة لهذا القضاء كان روح النار هو الحاصد الحقيقي، له كل المجد!! وللحديث بقية.

 

 

 

السبت، 18 فبراير 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (30)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن روح النار أتى ليسكن في الكنيسة ليمارس فيها ومن خلالها عمله المبارك الذي كانت تشير إليه نيران مذابح العهد القديم، وقلنا إن هذا العمل مزدوج حيث إنه يزگی الصلاح ويظهره - مثل مذبح الذهب - ومن الناحية الأخرى يدين الشر ويحرقه كما كان يشير مذبح النحاس، وهذا العمل المزدوج هو ما نريد الآن أن نتتبعه عملياً في حياة الكنيسة الأولى:

اظهار الصلاح

عندما عاش رب المجد في وسط تلاميذه استطاع بروح الوداعة أن يزرع في أعماقهم بذور الصلاح الحقيقي، سواء بواسطة كلامه الثمين الذي أعلن فيه طبيعة البر الذي يريده الله، أو بحياته الكريمة التي ترجم فيها هذا البر عملياً ، لقد سمعوا منه عن الصلاة التي ترضى الآب ورأوه يصلي أمامهم هذه الصلاة، سمعوا منه عن المحبة للقريب وللعدو ورأوا فيه هذه المحبة متجسدة ، سمعوا منه عن القداسة الحقيقية وليست المظهرية، ورأوا فيه هذه القداسة وهي تتعامل مع أشر الناس وأحط دركات المجتمع، قداسة لم تستطع نجاسة الإنسان أن تلوثها بل استطاعت هي أن تهزم النجاسة وتطلق كثيرين من قيودها أحراراً.

وهكذا انزرعت في قلوبهم بذور الصلاح الحقيقي، ما لم يفهموه بالأقوال فهموه من الأعمال، وما لم تشرحه لهم كلماته شرحته لهم لمساته، والقلوب التي لم تنفتح أمام إعلانه انفتحت أمام محبته وغفرانه، خلاصة القول إن الرب ترك قلوباً مملوءة بمعرفة الصلاح، وهم من ناحيتهم أحبوا هذا الصلاح الذي رأوه في سيدهم، وفي نوره اكتشفوا زيف الصلاح المظهري الذي كان يملأ الساحة حولهم، ولم يعودوا يستطيعون العيش بمقاييس البر الإنساني بل صارت قلوبهم تشتاق لأن تحيا على نفس مستوى البر الذي رأوه في يسوع.

.. ولكن !!

كان هناك ما يمنع أن تنمو هذه البذار الثمينة وتتحول إلى حياة عملية، فمن الخارج كان المناخ الروحي المحيط بهم لا يسمح لهم بهذه الحياة، ومن الداخل كان ينقصهم الجرأة والقوة والسلطان لكي يعيشوا هذه الحياة ضد المناخ الروحي المضاد لهم، البذور الموجودة في قلوبهم لم يكن متوفرة لها القدرة ولا الظروف المناسبة لكي تنمو وتزهر وتثمر، الله وحده كان يرى في أعماق هذه الجماعة كنزاً من بذور الصلاح الحقيقى ولكنه كنز غير معلن ولا يراه أحد من الناس، وهنا يأتي دور...

روح الحصاد

الروح الذي حضر في عيد الحصاد ( يوم الخمسين) لكي يميز بين الحنطة والقش، فيجمع الحنطة إلى المخازن وأما القش فيحرقه بنار، وهو نفسه روح النار الذي يميز بين الذهب والزغل، فيلمع الذهب و يزكيه ويحرق الزغل، إنه الروح الذي اختار أن يأتي في هيئة ألسنة من نار في يوم عيد الحصاد لكي يعلن لنا طبيعة عمله في الكنيسة، لقد أتى لكي يساعد هذه البذور لكي تعيش وتمتد إلى أقصى مدى لها، أتى لكي يوفر لها المناخ المناسب ويمنحها القدرة للنمو، لم يأت روح يوم الخمسين لكي يزرع بذورة جديدة فالزارع هو رب المجد يسوع، لكنه أتى لكي يعطى للبذور المدفونة إمكانية الظهور على وجه الأرض لكي يراها الجميع، أتى لكي يجسد الصلاح الذي زرعه الرب في قلوب أتباعه و يزكيه ، أتي لكي  يحول المعرفة إلى أعمال علانية، أتى لكي يجعل هذه الجماعة الصغيرة تمارس سلوكا يصعد بخوراً طيباً أمام الآب السماوي، الأمر الذي كانت تشير إليه نيران مذبح البخور لمئات السنين، فالآب لم تكن تشبعه رائحة البخور بل كان يشتاق إلى الصلاح الحقيقي الذي يخرج من أناس حقيقيين أحبوا إلههم بحق وعاشوا أمامه بقداسة حقيقية، وفي ملء الزمان استطاع الرب يسوع أن يغرس هذا الصلاح الحقيقي في قلوب أتباعه، وعندما أتى يوم الخمسين واشتعلت نار الروح في هذه القلوب فاحت رائحة الصلاح الحقيقي وغطت كل المسكونة.

الأساس والبنيان

بعبارات أخرى نقول إن تعاليم الرب لتلاميذه كانت الأساس الثابت على الصخر في قلوبهم، لكنه مدفون في العمق لا يراه أحد، ولقد أتي الروح لكي يبني على هذا الأساس بنيانة عالياً يرتفع فوق الأرض ليراه الجميع، لم يأت الروح المبارك ليضع أساسا جديدا بل لكي يجعل الأساس الذي وضعه الرب معلناً وظاهراً في هيئة أعمال منظورة يراها العالم ويلمسها، ويشبع بها الآب ويرضى، هذا هو العمل الأول لروح النار: تزكية الصلاح وإعلانه (يتبع).

 

 

 

السبت، 11 فبراير 2023

أحاديث من القلب


سبعة أرواح الله (29)

بقلم : فخرى كرم

رأينا النار في العهد القديم ترمز للروح القدس في عمله القضائي ، روح القداسة الذي ينتقم من الشر و يزكي الخير، روح الحصاد الذي يفصل بين الحنطة والزوان، الروح الذي قال عنه أشعياء : «روح القضاء وروح الإحراق » ( إش 4 : 4 ) .

ولقد بدأ هذا الرمز بسيف النار المتقلب في طريق شجرة الحياة، ثم استمر بعد ذلك من خلال مذبحي النحاس والذهب الموجودين في الهيكل حتى مجيء الرب وتكوين الكنيسة، وعندئذ كان لابد للرمز أن ينتهي لتحل محله الحقيقة الحية بكمالها وجمالها، لأن الروح لا يمكن أن يظل محصوراً في رمز مهما كان مقدساً، ولا يمكن أن يمارس عمله من خلال طقس مهما كان سامياً، لقد ظل الروح يشتاق إلى كيان حي يمكن أن يسكن فيه ويمارس من خلاله عمله القضائي في الأرض ، كيان كبير متعدد الأطراف والمواهب يمكنه أن يحتوي كل إظهارات الروح بتعددها وتباينها ، كيان طاهر يحتمل قداسته دون أن يحترق، كيان يقبل أن يبدأ القضاء فيه أولا، لأن ابتداء القضاء دائما من بيت الله (۱بط 4 : 17 ) ، ولقد وجد الروح هذا الكيان في الكنيسة استطاع الرب يسوع من خلال حياته القصيرة، وروح الوداعة التي ملأته، ودمه الكريم الذي سفكه، وجسده الذي بذله، أن يصنع هذه الكنيسة، مجموعة من الناس صارت أنقياء بسبب الكلام الذي كلمهم به (يو15 : 3 ) مجموعة حمل هو خطاياهم واحترق بها على الصليب لكي يقدم للروح القدس « مسكناً » طاهراً مغفور الإثم يمكن أن يسكن فيه إلى الأبد (يو 14 : 16) ويمارس من خلاله عمله القضائي في العالم (يو 16 : 8) كيان عجيب متعدد الأشكال والنوعيات يمكن للروح أن يفيض فيه بصور متعددة ويستخدمه في إرساليات متباينة الأشكال والأغراض، كيان رغم اتساعه وتباينه إلا أنه كيان واحد مترابط، له رأس واحد ويسكن فيه روح واحد (رو 12 : 4 ـ 12 ) .

الكنيسة هي مسكن الروح القدس وموطىء قدميه في هذا العالم الأثيم، العالم الذي لا يعرف روح القداسة ولا يستطيع أن يعرفه أو يقبله (يو14 : 17 ) لأنه عالم اختار النجاسة منهجاً والخطية طريقاً وإبليس إلهاً ورئيساً، هذا العالم لا يعرف القداسة ولا يريد أن يعرفها ، لذلك لا يوجد لروح القداسة مكان يمارس من خلاله عمله إلا داخل ومن خلال الكنيسة التي غسلها الرب يسوع بدمه، هذا هو الكيان الوحيد الذي يحتمل نار قداسة الله بل ويحبها !! الكنيسة هي الكيان الوحيد الذي يقبل قضاء الله بل ويفرح به!! إنها العليقة الوحيدة التي يمكن أن تشتعل فيها نار قداسة الله دون أن تحرقها.

بين الرمز والحقيقة

لم يكن ممكناً أن يسكن الروح في الرمز  ويمارس عمله في الطقس، فنار مذبح النحاس لم تستطع أن تنزع الخطية من قلوب مقدمي الذبائح، لذلك ظل الروح يشتاق إلى كيان حي يحرق فيه وبه الخطية من قلوب الناس فعلا، والله لم يشبع قط من رائحة البخور المتصاعدة من نار مذبح الذهب، لذلك ظل الروح يشتهي كيانا بشرياً يستطيع أن يرفع منه وبه عبادة وسجودا مشبعاً لقلب الله حقا، ومن قال أن سيف نار متقلب في يد كروبيم يمكن أن يعلن موقف الله من خطية الإنسان، بل ظل الروح ينتظر أن يسكن في كيان إنسان يستطيع فيه وبه أن يبكت العالم على خطيته ويعلن عملياً أن الخطية هي التي فصلت بين الإنسان والحياة الأبدية.

ولقد استطاع الرب يسوع بروح الوداعة أن يبني هذا الكيان الإنساني البشري الحي ليسكن فيه روح القداسة ويعلن فيه وبه قداسة الله وقضاءه، ولقد أعلن الروح المبارك عن قبوله ورضاه بالسكني في هذا الكيان عندما حضر في يوم الخمسين وحل على كل واحد من الموجودين في العلية في هيئة ألسنة منقسمة من نار، ليعلن أن الروح الذي سكن في هؤلاء هو ذات الروح الذي أشارت إليه نيران المذابح التي ظلت مشتعلة طوال العهد القديم، وأنه سيعمل فيهم وبهم ما عجزت عن فعله المذابح الرمزية والنيران الطقسية.

عطاء متبادل !!

إذا كان الأب قد هيأ للابن جسدا ليدخل به إلى العالم (عب 10 : 5 ) فإن الابن قد هيأ مسكناً للروح القدس ليسكن فيه في العالم، وهذا المسكن هو الكنيسة، والروح القدس بدوره سيهييء هذه الكنيسة لتكون عروساً للابن (رؤ 21 : 2 ) ومن الناحية الأخرى سيهيئها لتكون مسكناً لله الآب مع الناس (رؤ 21 : 3 ) ، إن المحبة والعطاء المتبادلين بين الأقانيم هما أعظم مما تدركه عقولنا، لكن ما ندركه فعلا هو أنه طوبى لمن له نصيب في كنيسة الله الحقيقية، مسكن الله الأبدي مع الناس !! (يتبع).

 

 

الأحد، 5 فبراير 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (28)

                               بقلم : فخرى كرم

أول ما رأينا النار في الكتاب المقدس كانت تقف عقبة في طريق شجرة الحياة، ثم رأيناها ثانياً في مدخل خيمة الاجتماع تقف عقبة أيضا في الطريق إلى المقادس، كان الله يعلن بهذه الصور الرمزية أن قداسته وقضاءه على الخطية هما العقبة التي تحول دون وصول الإنسان إلى الشركة مع الله، ولكن الصورة الرمزية الموجودة في خيمة الاجتماع أضافت بعداً جديداً لعمل النار، نراه في

مذبح البخور

لا نرى النار مرة واحدة في خيمة الاجتماع بل مرتين، حيث كان هناك مذبحان ينبغي أن تبقى النار مشتعلة فيهما باستمرار، الأول هو مذبح النحاس في مدخل خيمة الاجتماع وكانت تقدم عليه الذبائح الدموية، ورأينا كيف أنه يشير إلى قداسة الله التي تنتقم من الشر، ولأن الذبائح الحيوانية ومقدميها لم يكن فيهم ما يرضي الله كانت النار تشتعل في الذبيحة ولا يبقى أمام مقدميها سوى أن يعودوا أدراجهم دون أن يطمعوا في مواصلة الاقتراب إلي ما داخل الخيمة.

لكن ما أعطى الأمل لمواصلة الدخول إلى الأقداس هو أن هناك مذبحة آخر من الخشب المغشى بالذهب كان موجوداً في داخل القدس أمام الحجاب المؤدي إلى قدس الأقداس مباشرة. وعلى هذا المذبح كانت تشتعل دائماً النار ولكن ليس لكي تحرق ذبيحة دموية بل لكي تذيب البخور العطر وتصعد به رائحة سرور أمام الرب دائما.

عملان للنار

أي أن النار لم يكن لها عمل واحد في الخيمة بل عملان، كانت تحرق الذبائح الدموية للتكفير عن الخطية وكانت تحرق البخور لإصعاد رائحة طيبة أمام الرب، وهذا يشير إلى العمل المزدوج لروح النار: إنه ينتقم من الخطية الموجودة في الإنسان وفي نفس الوقت يزكّى الصلاح الموجود في الإنسان ويرفعه أمام الله رائحة طيبة.

إن قداسة الله ليست سلبية فقط في عملها بل إيجابية أيضا، أي أنها لا تنتقم من الشر فقط بل أيضا تزكّى الخير، قداسة الله إذا ما صادفت صلاحا فإنها تحيطه وتغذيه و تزكيه وترفعه إلى أمام عرش الله، إنها لا تحرق المعادن الرخيصة فحسب بل أيضا - وفي نفس الوقت - تلمع الذهب وتنقيه وترفع من قيمته، إنه ذات عمل الحصاد المقترن بروح النار في يوم الخمسين حيث يحترق القش بالنار بينما يتزكّى القمح ويجمع إلى المخازن.

وإذا كان مذبح النحاس محاطاً دائماً بالدم والرماد فإن مذبح البخور كان يقترن دائماً برائحة عطرية جميلة، وإذا كان مذبح النحاس في الخارج بعيداً عن الأقداس فإن مذبح البخور في داخل الأقداس مباشرة، إشارة إلى أن الخطية أبعدت الإنسان عن محضر الله بينما البر  يقترب به من محضره القدوس.

إلى ماذا يشير مذبح البخور ؟

أراد الله أن يضيف بعداً جديداً للصورة الرمزية التي رأيناها في سيف النار المتقلب وفي مذبح النحاس، وهو أن هناك أملا للإنسان للتقدم إلى داخل الأقداس، وذلك في حالة واحدة وهي وجود الإنسان الذي يستطيع أن يجتاز نار قداسة الله المنتقم من الشر وتظل حياته مرضية أمام الله ويصعد منها رائحة سرور لقلبه، إنسان إذا اشتعلت فيه نار قداسة الله لا تحرقه كله بل تجد فيه ذهبا يشبع قلب الله، في هذه الحالة فقط لن تتوقف مسيرة الإنسان عند مدخل الخيمة بل ستمتد إلى أمام العرش، إلى مذبح البخور!!

هوذا ابني الحبيب الذي به سررت !!

وظلت هذه الصورة الرمزية قائمة طالما ظلت غير متممة، وطالما لم يأت الإنسان الذي يمتلك القدرة على حمل الخطية واجتياز عقابها كاملا وفي نفس الوقت يقدم حياة مشبعة لقلب الآب، إلى أن جاء رب المجد الذي جعل نفسه ذبيحة إثم ( إش 53 : 10 ) وفي نفس الوقت أدخل السرور لقلب الآب (مت 3 : 17 ) وعندما اشتعلت فيه نار قداسة الله قدم حياة كاملة وموتا كاملا، حياة كاملة لسرور الآب وموتا كاملا للتكفير عن خطايانا ، ولذلك لم تنته حياته الكريمة في نار الصليب بل تزكت ولمعت وقامت من بين الأموات وصعدت لكي تبقى ماثلة أمام الآب رائحة طيبة إلى أبد الدهور.

وبمجيء هذا المخلص المبارك انتهى الرمز إلى الأبد، انشق الحجاب وانهدم الهيكل ومذابحه، وانتهى العمل بهذه الصور الرمزية بعدما صارت الحقيقة الكاملة في متناول أيدينا ، وبعدما صار طريق الأقداس مفتوحاً أمام كل من يختبيء ويتحد بهذا المخلص العظيم، وللحديث بقية.