موعظة الجبل (4)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى
للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات» (مت5: 3)
أول صفة لأبناء الملكوت الحقيقيين هي المسكنة
بالروح، إنها الأولى في الترتيب وفي الأهمية لأنها مصدر لكل البركات الأخرى التي
يتمتع بها أبناء الملكوت، «المسكنة بالروح» هي ببساطة أن يعيش الإنسان بحسب حقيقته
بلا تزييف، وحقيقة الإنسان هي أنه مسكين لا يمتلك شيئاً في ذاته ويحتاج إلى أن
يأخذ من الله كل شيء أولاً بأول.
يعلمنا الكتاب أن الله هو المصدر الوحيد لكل شيء
في الخليقة، أعين الكل إياه تترجى وهو يعطيهم طعامهم في حينه، عندما يفتح يده
يُشبع كل حي رضى (مز145: 15، 16) الله وحده يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء حتى
أننا به نحيا ونتحرك ونوجد (أع17: 25، 28) وعلى العكس نتعلم من هذه الشواهد
الكتابية أن الإنسان ليس مصدراً لأي شيء بل هو يحتاج أن يترجى الله دائماً ويرفع
عينيه على شخصه الكريم لكي يأخذ منه طعامه في حينه أي أولاً بأول، بل لكي يأخذ منه
الحياة والقدرة على الحركة والوجود ذاته، أي أن الإنسان «مسكين» لا يمتلك شيئاً
ويحتاج إلى الله في كل شيء!!
هذه الحقائق إن تمكنت من روح الإنسان ونزلت إلى
أعماقه وترسخت في جذوره تجعله مسكيناً بالروح، وهذه المسكنة بالروح ليست روح سلبية
بل هي روح إيجابية تدفع الإنسان في كل لحظة ليرفع عينيه وقلبه إلى الله طالباً
احتياجه أولاً بأول، هي روح تجعل الإنسان يفتح أعماق روحه ونفسه وجسده في كل يوم لينال
من الله الحياة والقوة والوجود، هي روح يملأها الشكر والتسبيح دائماً لأنها تدرك
أن كل ما عندها هو عطية من الله الكريم، هي روح لا يمكنها التكبُّر والتعالي على
الآخرين لأنها تعرف جيداً أنها لا تستحق شيئاً في ذاتها وإنها تحيا فقط بنعمة
الخالق، هي روح لا تعرف الشكوى ولا التذمر ولا تستطيع أن تحسد أحداً لأنها تعرف أن
الإله الصالح الذي يعطيها كل شيء مجاناً له الحق المطلق في أن يعطي الآخرين أيضاً
بحسب إرادته الصالحة.
هذه الروح المباركة إن تمكنت من الإنسان تجعل أرضه
متهيئة لقبول كل المطر النازل عليها من فوق، تجعل الطريق مفتوحة وسهلة لقبول كل
عطايا الله بلا حدود، العطايا الروحية والنفسية والمادية، أو كما قال ربنا «لهم
ملكوت السموات»، أي لهم الحق و القدرة أن يتمتعوا بكل بركات وأمجاد ملكوت الله،
ولذلك قلنا أن هذه الصفة في أبناء الملكوت هي الأولى والأهم لأنها تفتح الطريق لكل
الصفات والبركات الأخرى.
روح الإنسان الطبيعية غير المولودة من الله لا تعرف
روح المسكنة هذه ولا تقبلها ولا تحبها، من وقت السقوط وروح الإنسان الطبيعي تسعى
للانفصال عن الله والاستقلال عنه، الروح الإنسانية تريد أن تشعر أنها قوية في
ذاتها وغنية إلى حد الاستغناء ولا تحتاج إلى شيء (رؤ3: 17) الروح الطبيعية تحب أن
تفتخر وتتعالى على الآخرين بما تظن أنها تمتلكه بينما الحقيقة أنها لا تمتلك شيئاً
وأن كل ما عندها قد أخذته من الله (1كو4: 7) الروح الساكنة في أعماق الإنسان
الطبيعي لا تحب أن ترفع عينيها إلى الله ولا تعرف أن تشكر لأجل ما في يديها لأنها
لا تصدق أن الله هو مصدر كل ما عندها، وفي المقابل هي تصرف كل وقتها تنظر لما في
أيدي الآخرين وتحسدهم إلى درجة البغضة لأنها لا تريد ولا تؤمن بصلاح الله الذي
يشمل جميع البشر.
هذه الروح الرديئة تحرم أصحابها من الدخول إلى
ملكوت السماوات والتمتع ببركاته، ليس لأن الله لا يريد لهم البركة لكن لأن هذه
الروح تجعل أرض حياتهم غير متهيئة لاستقبال البركة!! وللحديث بقية (يتبع)