الأحد، 30 أبريل 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (4)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات» (مت5: 3)
أول صفة لأبناء الملكوت الحقيقيين هي المسكنة بالروح، إنها الأولى في الترتيب وفي الأهمية لأنها مصدر لكل البركات الأخرى التي يتمتع بها أبناء الملكوت، «المسكنة بالروح» هي ببساطة أن يعيش الإنسان بحسب حقيقته بلا تزييف، وحقيقة الإنسان هي أنه مسكين لا يمتلك شيئاً في ذاته ويحتاج إلى أن يأخذ من الله كل شيء أولاً بأول.
يعلمنا الكتاب أن الله هو المصدر الوحيد لكل شيء في الخليقة، أعين الكل إياه تترجى وهو يعطيهم طعامهم في حينه، عندما يفتح يده يُشبع كل حي رضى (مز145: 15، 16) الله وحده يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء حتى أننا به نحيا ونتحرك ونوجد (أع17: 25، 28) وعلى العكس نتعلم من هذه الشواهد الكتابية أن الإنسان ليس مصدراً لأي شيء بل هو يحتاج أن يترجى الله دائماً ويرفع عينيه على شخصه الكريم لكي يأخذ منه طعامه في حينه أي أولاً بأول، بل لكي يأخذ منه الحياة والقدرة على الحركة والوجود ذاته، أي أن الإنسان «مسكين» لا يمتلك شيئاً ويحتاج إلى الله في كل شيء!!
هذه الحقائق إن تمكنت من روح الإنسان ونزلت إلى أعماقه وترسخت في جذوره تجعله مسكيناً بالروح، وهذه المسكنة بالروح ليست روح سلبية بل هي روح إيجابية تدفع الإنسان في كل لحظة ليرفع عينيه وقلبه إلى الله طالباً احتياجه أولاً بأول، هي روح تجعل الإنسان يفتح أعماق روحه ونفسه وجسده في كل يوم لينال من الله الحياة والقوة والوجود، هي روح يملأها الشكر والتسبيح دائماً لأنها تدرك أن كل ما عندها هو عطية من الله الكريم، هي روح لا يمكنها التكبُّر والتعالي على الآخرين لأنها تعرف جيداً أنها لا تستحق شيئاً في ذاتها وإنها تحيا فقط بنعمة الخالق، هي روح لا تعرف الشكوى ولا التذمر ولا تستطيع أن تحسد أحداً لأنها تعرف أن الإله الصالح الذي يعطيها كل شيء مجاناً له الحق المطلق في أن يعطي الآخرين أيضاً بحسب إرادته الصالحة.
هذه الروح المباركة إن تمكنت من الإنسان تجعل أرضه متهيئة لقبول كل المطر النازل عليها من فوق، تجعل الطريق مفتوحة وسهلة لقبول كل عطايا الله بلا حدود، العطايا الروحية والنفسية والمادية، أو كما قال ربنا «لهم ملكوت السموات»، أي لهم الحق و القدرة أن يتمتعوا بكل بركات وأمجاد ملكوت الله، ولذلك قلنا أن هذه الصفة في أبناء الملكوت هي الأولى والأهم لأنها تفتح الطريق لكل الصفات والبركات الأخرى.
روح الإنسان الطبيعية غير المولودة من الله لا تعرف روح المسكنة هذه ولا تقبلها ولا تحبها، من وقت السقوط وروح الإنسان الطبيعي تسعى للانفصال عن الله والاستقلال عنه، الروح الإنسانية تريد أن تشعر أنها قوية في ذاتها وغنية إلى حد الاستغناء ولا تحتاج إلى شيء (رؤ3: 17) الروح الطبيعية تحب أن تفتخر وتتعالى على الآخرين بما تظن أنها تمتلكه بينما الحقيقة أنها لا تمتلك شيئاً وأن كل ما عندها قد أخذته من الله (1كو4: 7) الروح الساكنة في أعماق الإنسان الطبيعي لا تحب أن ترفع عينيها إلى الله ولا تعرف أن تشكر لأجل ما في يديها لأنها لا تصدق أن الله هو مصدر كل ما عندها، وفي المقابل هي تصرف كل وقتها تنظر لما في أيدي الآخرين وتحسدهم إلى درجة البغضة لأنها لا تريد ولا تؤمن بصلاح الله الذي يشمل جميع البشر.

هذه الروح الرديئة تحرم أصحابها من الدخول إلى ملكوت السماوات والتمتع ببركاته، ليس لأن الله لا يريد لهم البركة لكن لأن هذه الروح تجعل أرض حياتهم غير متهيئة لاستقبال البركة!! وللحديث بقية (يتبع)

الاثنين، 3 أبريل 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (3)
بقلم : فخرى كرم
يبدأ الرب موعظته على الجبل بقائمة من الصفات التي تميز أبناء الملكوت والتي اعتادنا أن نسميها «التطويبات»، ولابد أن نلاحظ أنها قائمة من «الصفات» وليست قائمة من «الوصايا»، فالرب في هذه القائمة لا يأمرنا أن «نفعل» بعض الأشياء لكي ندخل إلى ملكوت الله لكنه بالأحرى يصف لنا «الصفات» الروحية لأصحاب السعادة الذين دخلوا الملكوت، فالموعظة على الجبل ليست وصايا مقدمة للإنسان الطبيعي للارتقاء بمستواه الأخلاقي بل هي تتحدث عن طبيعة جديدة موجودة في أبناء الملكوت تشبه طبيعة أبيهم السماوي، وهذه الطبيعة تعيش بتلقائية وتتصرف بالتوافق مع طبيعة ومشيئة الآب السماوي. الفرق الجوهري بين ناموس جبل سيناء وبين موعظة جبل الجليل أن الناموس يأمر الإنسان الطبيعي أن يعمل أعمالاً للوصول إلى رضا الله أما موعظة الجبل فتصف طبيعة حياة هؤلاء السعداء الذين يعيشون فعلاً في رضا الله.
الفرق شاسع بين أن تطالب الإنسان أن يعمل أعمالاً من الخارج حتى وإن كانت مضادة لطبيعته وبين أن تكون هذه الأعمال نابعة من طبيعته القلبية الداخلية. قد يستطيع الإنسان الساقط أن يجبر نفسه على عمل بعض الأعمال الصالحة لبعض الوقت ولكنه لا يستطيع أن يفعل هكذا كل الوقت لأن طبيعته الساقطة ستجبره يوماً على فعل الشر، أما إذا كان الصلاح قد صار جزءاً من طبيعته فسيظل يعمل الصلاح كل الوقت ومع كل الناس، الطبيعة البشرية الساقطة تستطيع أن تعمل الخير من الخارج لكي يراها الناس ولكنها لا تستطيع أن تعمل نفس الخير في الخفاء لأنه غير موجود في عمق طبيعتها، بينما تجد أبناء الملكوت يعملون الخير ظاهراً وفي الخفاء لأن الخير صار في صميم طبيعتهم ولا يستطيعون أن يعملوا شيئاً بخلافه!!
الرب في موعظة الجبل لا يأمر الإنسان المتكبِّر بطبعه أن يكون مسكيناً بالروح فهذا أمر مستحيل، ولكنه بالحري يشير إلى قوم استطاعوا أن ينالوا من الروح القدس طبيعة أخرى تتميز بالمسكنة الروحية وهؤلاء سعداء جداً لأن لهم ملكوت السماوات!! الرب لا يأمر الإنسان الشرس بالطبيعة صاحب الأقدام السريعة إلى سفك الدم أن يكون صانعاً للسلام، حاشا، لكنه يطوِّب قوماً نالوا من الله طبيعة جديدة تعرف أن تصنع السلام دائماً ولا تعرف أن تصنع غيره، هؤلاء لا يصنعون السلام لكي يصلوا إلى غرض ما بل لأن السلام صار جزءاً من طبيعتهم عندما صاروا أبناء لله!!

لابد أن نميز هذا الفرق الجوهري بين الناموس وموعظة الجبل إذا أردنا أن نفهم كلمات الرب ونستفيد منها، فكل من يتعامل مع موعظة الجبل على أنها وصايا مقدمة للإنسان لكي يعيشها بطبيعته الساقطة لابد أن يكون الفشل مصيره، فطبيعتنا الساقطة لا تفهم هذه الصفات ولا تقبلها (1كو2: 14) وإذا حاول الإنسان الطبيعي أن يعيش الموعظة على الجبل لقدَّم لنا سلوكيات ممسوخة ومشوَّهة، تثير السخرية والاشمئزاز أكثر مما تثير الإعجاب، تُظهر غير ما تُبطن وتقول عكس ما تقصد، تمد يداً بالخير وتخفي سكيناً في اليد الأخرى، تجعل الإنسان المتعجرف العابد لذاته حتى النخاع يعظ عن الوداعة والمسكنة بالروح، يركع سجوداً لكي يراه الناس بينما قلبه يحلِّق عالياً في كبريائه، تدفع الذئب ليحاول أن يصنع سلاماً بين المتخاصمين أو تجعله يتقدم ليرعى الغنم ويجمع الخراف المشتتين!! ليتنا جميعاً نكون قد قبلنا من الروح القدس الطبيعة الجديدة القادرة على السلوك بحسب طبيعة الآب السماوي، وللحديث بقية (يتبع)