السبت، 24 سبتمبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (16)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن روح الوداعة التي ملأت شخص الرب يسوع له المجد قادته إلى حياة الطاعة الكاملة للآب، طاعة من طراز فريد تختلف نوعيتها عن أي مواقف طاعة رأيناها في حياة رجال الله القديسين، طاعة مميزة تبدو طاعتنا بجوارها ناقصة معيبة، قلنا عنها في المرة السابقة إنها طاعة مبدئية شاملة واليوم نضيف إنها

طاعة وفق الساعة !!

لكل شيء زمان ولكل أمر تحت السماء وقت (جا 3 : 1) فالله يسير هذا العالم وفق أزمنة وأوقات محتومة لا تقبل التعديل (أع 17 : 26 ) وهذه الأوقات والأزمنة هي في سلطان الأب وحده (أع 1 : 7 ) وله وحده حق تغييرها (دا ۲۱:۲).

يخطىء الإنسان عندما يظن أن حياته تسير بشكل عشوائي لا يحكمها توقيت أو زمن، وإبليس يريد أن يلقى في قلب الإنسان أن الأمور تسير كما اتفق لكي يبث في داخله روح الاستهانة والتسويف، ولكن الحقيقة هي أن لكل عمل تحت السماء ساعة محددة لا تتقدم ولا تتأخر، وإذا لم يميز الإنسان هذه الساعة ويفتد الوقت ويقم بالعمل المناسب في وقته المناسب فإن هذه الساعة قد تنتهى وتضيع الفرصة وإذا أراد أن يعمل هذا العمل في وقت لاحق لا يجد له مكانا ولا قبولاً (عب 12 : 17 ) فللتوبة وقت ولطلب الرب وقت وللخلاص وقت مقبول، وطوبى لمن يطلب الرب في وقت يجده فيه (مز 32 : 6 ) .

إن عدم تمييزنا للوقت يضيع منا فرصاً ثمينة ويجرنا إلى أخطاء مريرة، ورغم أنه ليس لنا أن نعرف بصورة مطلقة الأزمنة والأوقات التي جعلها الأب في سلطانه إلا أننا من الناحية الأخرى مطالبون بأن نميز علامات الأزمنة التي تخصنا وتوقيت الله بالنسبة لحياتنا لكي نستطيع أن نعمل ما يريده الله في الوقت الذي يريده الله، فالرب وبخ الفريسيين والصدوقيين لأنهم لم يستطيعوا أن يميزوا علامات الأزمنة (مت 16 : 3 ) .

بعضنا يظن أن الطاعة هي أن نعمل الأعمال التي نظن أنها مرضية عند الله، أي إنها طاعة لقائمة من الأعمال والوصايا ، وهذه هي طاعة الناموس أو طاعة العبد، وهي لا تستلزم شركة حقيقية كاملة مع شخص الله نفسه، لكن الحقيقة أن الطاعة في العهد الجديد والتي رأيناها في شخص الابن المبارك ليست طاعة لأعمال بل لشخص، إنها ليست فقط أن نعمل الأعمال التي يريدها الله بل أن نعملها وفق التوقيت الذي يريده الله، لأن لكل وقت عند الآب أعماله التي قد تتغير بتغير الأوقات والأزمنة، ولذلك فهذه النوعية من الطاعة لا يمكن أن تكتفي بمعرفة قائمة بالأعمال والوصايا بل تستلزم شركة حقيقية مع شخص الله في كل يوم وتوافق تام مع رؤيته للأزمنة والأوقات، إنها طاعة وفق ساعة الآب!!

 

لم تأت ساعتي بعد !!

إننا لم نر هذه النوعية الفريدة من الطاعة إلا في شخص الابن المبارك الذي كانت كل تفاصيل حياته تسير بحسب توقيت الآب، انظر إليه وهو في عرس قانا الجليل عندما فرغت الخمر منهم وتدخلت العذراء مريم لكي تحثه على تسديد الاحتياج الموجود، لكنه لم يكن ذلك الإنسان الذي يتحرك وفق احتياج المحتاجين ولا وفق شفاعة المتشفعين بل فقط وفق توقيت أبيه المحتوم، فسمعه يقول لها: «مالي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد » ( يو 2 : 4 ) فقد كان لكل عمل من أعماله ساعة محددة ينبغي أن يتم فيها ، وليس قبلها أو بعدها.

بل حتى سفره إلى أورشليم قبيل عيد المظال كان له وقته المحدد، فعندما طلب منه إخوته أن يصعد معهم إلى العيد قال لهم « إن وقتي لم يحضر بعد، وأما وقتكم ففي كل حين حاضر» ( يو 7 : 6 ) إن الإنسان الطبيعي يمتلك وقته، يستطيع أن يرتبه كما يشاء ويتحرك حين يريد، أما ابن الله المبارك فكل تحركاته كانت مرتبة من قبل الآب ووفق توقيته الدقيق!!

أيها الأب : قد أتت الساعة !!

 بل انظر إليه وهم يحاولون أكثر من مرة أن يقتلوه لكنه في كل مرة كان يجتاز فيما بينهم ويمضي، ولم يلق أحد يدة عليه لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد( يو 7 : 30 ) فإن موته أيضا كانت له ساعة محددة ومحتومة!!

ولكن عندما تيقن أن ساعته قد جاءت رأيناه يرفع عينيه إلى السماء بكل طاعة وتسليم ويقول « أيها الآب: قد أتت الساعة» ( يو 17 : 1 ) ثم يتقدم إلى أعدائه ويسلمهم نفسه لكي يلقوا القبض عليه ويفعلوا به كل ما أرادوا !! حقا إنه خادم يهوه الفريد الذي عرف كيف يعيش وفق توقيت أبيه، فعرف كيف يخدم في وقت الخدمة وكيف يصلي في وقت الصلاة وكيف يصمت في وقت الصمت بل وكيف يموت في وقت الموت!! آه ، ما أحوجنا إلى طاعة من هذا القبيل!! (يتبع)

 

 

الاثنين، 19 سبتمبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (15)

بقلم : فخرى كرم

بعد انتهاء فترة وقوف الرب على أرض إبليس انتقل إلى أرض الإنسان ليبدأ حياته العملية والعلنية، وروح الوداعة التي قادته في مواجهته لإبليس فوق الجبل هي ذاتها التي قادته في مواجهته للناس في كل مدينة وقرية، وإذا كان تسليمه كل شيء ليد الأب كان هو مفتاح انتصاره على إبليس فإن خضوعه وطاعته الكاملة للآب كانت هي سمة سلوكه بين الناس، ونحن لن نجد تلخيصا لحياته المباركة أفضل من ذلك الذي قاله بولس بالوحي :

« وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب » ( في2 : 8 )         لقد كانت طاعة السيد للآب مختلفة نوعياً عن أية طاعة نراها في أنفسنا أو نسمع عنها في حياة المؤمنين وسير القديسين، لقد كانت طاعته مبدئية شاملة أما طاعتنا نحن فثانوية جزئية، ثانوية لأنها دائما تأتي بعد أن يعلن لنا الله مشيئته ويحاصرنا بها ولا نجد منها مفراً، فعندما يعلن الله مشيئته بصورة واضحة للإنسان يبدأ الإنسان يتفاعل مع هذه المشيئة بصور مختلفة، فقد يساوم في تكلفتها أو يحاول أن يعدل في مسارها أو حتى أن ينأى بنفسه عن طريقها ، ولكن إذا حاصرته المشيئة ولم يجد منها مهرباً فإنه قد يبدأ يستسلم ويحني رأسه ويتعلم الطاعة!!

أما طاعة السيد فقد كانت طاعة مبدئية أي أنها سبقت إعلان أي تكليف أو مشيئة، لقد وضع إرادته وفق إرادة الأب وقرر أن يطيع مشيئته بسرور من قبل أن يعلن له أي تكليف، لقد كانت الطاعة بالنسبة له موقفا إرادياً مبدئياً أعطى للآب الفرصة الكاملة وأطلق يده لكي يضع في هذه الحياة المباركة كل إعلان أراده وكل مشيئة اختارها مهما كانت صعبة أو قاسية، لأن الطاعة مضمونة ومتوفرة من قبل أي تكليف أو إعلان.

وطاعتنا أيضا جزئية أي إنها تختص بمشيئة خاصة أو تكليف محدد لا يشغل من مساحة حياتنا قدراً كبيراً، كل القديسين كانت لهم « مواقف طاعة » أظهروا فيها طاعة لله في مشيئة محددة أو موقف خاص، أما بقية حياتهم فكانت تستمر لسنوات طويلة وفق الإرادة الشخصية بدون أي تكليف محدد أو مشيئة واجبة الطاعة، فذات الإنسان لا تحتمل أن تظل لفترات طويلة في طاعة لإرادة خارجية وموضوعة تحت التزام مستمر وخضوع متصل، فهذا الوضع يستلزم إنكارا كاملا للنفس لا تقوى عليه أية ذات إنسانية، والله العالم بطبيعة الإنسان لا يحمله فوق طاقته، لذلك نراه في حياة أعظم أبطال الإيمان يعطى للنفس فترات راحة تعيش فيها وفق إرادتها الطبيعية بعد كل « موقف طاعة» استلزم خضوعاً وإنكارا للذات!!

أما طاعة سيدي فلم تكن قط «مواقف طاعة» بل كانت « حياة طاعة »، طاعته شملت كل حياته بأدق تفاصيلها، في كل دقائق حياته كان يرفض أية إرادة طبيعية للنفس الإنسانية ويقبل إرادة أبيه مهما كانت مكلفة للنفس أو مهينة للذات، ولكي تتسنى له هذه النوعية من الطاعة الشاملة كان ينبغي أن.. .

يضع نفسه

الإنسان الطبيعي يقدر نفسه كثيرة ولديه دائما تخيل جيد عنها ويرسم لها في ذهنه صورة حسنة ويسعى دائما أن يراها الآخرون في أفضل حال، وبالغريزة يقاوم الإنسان كل اتجاه أو موقف يستشعر فيه الخطر على صورته، ويخاف جدا من أن يوضع في موضع تهتز فيه الصورة التي يراها الآخرون فيه أو التي يريدها هو لنفسه، وهذه الصورة الذاتية هي دائماً العقبة الأولى التي واجهت كل رجال الله في محاولتهم إطاعة الله، فالطاعة ممكنة طالما كانت غير متضاربة مع الحد الأدنى من الصورة المقبولة التي يراها كل واحد لنفسه ويريد أن يراه الآخرون عليها، لكن عندما تبدأ الذات تستشعر الخطر على صورتها من مطلب معين أو اتجاه محدد تتخذه مشيئة الله عندئذ يبدأ الصراع الداخلي المرير في قلب الإنسان، الصراع بين ذات تريد أن تتشبث بالحد الأدنى من الصورة المقبولة لنفسها وبين مشيئة الله التي تبدو للإنسان أنها تتخذ مسارا مدمراً لتلك الصورة، عندئذ تصبح الطاعة صعبة ومكلفة والخطوة في اتجاهها لها ثمن باهظ ومقرونة بدموع كثيرة، لأن الإنسان لن يستطيع أن يطيع إلا إذا اضطر أن يتخلى ولو جزئياً عن تلك الصورة التي رسمها في مخيلته وتمناها دائما لنفسه، هذا هو «وضع النفس »!!

لقد وضع سيدى نفسه بالكامل، أي إنه لم يشأ لها شكلا حسناً ولا حتى حدا أدني من القبول والمصداقية لدى الناس، ولذلك استطاع أن يطيع مشيئة الآب طاعة كاملة بلا حدود وبلا صراع، حتى عندما قادته هذه المشيئة لأوضاع مهينة ومؤلمة بحسب مقاييس أرض الإنسان وتقييمه، فأطاع عندما جعلته مشيئة الله «محتقراً ومخذولا من الناس » وعندما جعلته «لا صورة له ولا جمال» بل عندما جعلته «مهان النفس، مكروه الأمة، عبــد المتسلطين » !! وحتى جعلته «خطية» و «ذبيحة إثم» على صليب الجلجثة، لقد أطاع حتى الموت موت الصليب!! وللحديث بقية.

الاثنين، 12 سبتمبر 2022

أحاديث من القلب


سبعة أرواح الله (14)

بقلم : فخرى كرم

               « للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد » ( مت 4: ۱۰)

دعونا الآن نرفع عيوننا من على إبليس وظلمته وخداعه ونتطلع إلى ذلك القلب الذهبي الذي انطفأت عنده كل السهام الملتهبة، ذلك القلب الذي لم يجد معه الإغراء بكل ممالك العالم ومجدهن ، ذلك القلب الذي لم يشته أن يمتلك أي شيء لأنه يعرف أن الله وحده هو المالك لكل الأشياء ، القلب المملوء بروح الوداعة التي لا تريد أن تأخذ أي مجد لنفسها بل سر أن يأخذ الله وحده كل المجد والسجود والعبادة.

لقد جاء السيد إلى العالم لكي يعيد ملكوت الله على كل الأرض، جاء ليعلن سلطان الله المطلق وحقه في امتلاك كل الأشياء والأشخاص، جاء ليعلن هذا بحياته وأقواله وأفعاله، ألم يعلمنا أن نصلي قائلين..

لأن لك الملك (مت 6 : 13 )

تلك العبارة التي نرددها دائما في صلاتنا دون أن ندرك معانيها العميقة، إن هذه العبارة تتصدى لشهوة الامتلاك التي تسود قلوبنا، إنها تعلن حقيقة أن الله هو المالك وحده لكل الأشياء، والإنسان لا يمكن أن ينال شيئا إلا ما يعطيه الله، وفي هذه الحالة لن يكون «مالك » بل « وكيلا»، والوكيل مهما كانت الأموال التي في يديه لا يمكن أن يضع قلبه عليها لأنه يعلم أنها ليست ملكاً مطلقاً له ، وليس من حقه أن يتصرف فيها كما يحلو له بل ينبغي أن يتصرف بأمانه كوكيل أمين على أموال سيده ، وهو يعلم أن هذه الوكالة ليست أبدية بل مؤقتة ومشروطة، وفي أي وقت تؤخذ منه أو يؤخذ هو منها !!

الإنسان الذي يصيب قدراً من الغنى يصاب بنوع من الغرور والارتفاع المزيف، يعتقد أنه « مالك »، وهذا الملك يعطيه الحق في السيادة والتسلط كما يمنحه الأمان والضمان للمستقبل، وهذا الإحساس الوهمي هو ما يسميه الرب «غرور الغنى » (مت 13 : 22 ) لكن عبارة «لأن لك الملك » تتصدى لهذا الوهم وتهدمه، فالله هو المالك الحقيقي لكل ما في أيدينا، ونحن لا نستطيع أن نضمن بقاءه في أيدينا لساعة واحدة قادمة، إن الضمان الذي يمنحه الغني هو ضمان « غير يقيني»، والعاقل هو من يبني ضمانه على شخص المالك والمعطى الحقيقي وليس على العطايا الزائلة، ولقد عبر الرسول بولس عن هذا الحق بوضوح عندما قال «أوص الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغني بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع » (  1 تي 6 : 17 ).

هل وصل هذا الحق إلى أعماق نفوسنا ؟ هل عالج فينا شهوة الامتلاك ؟ إن إبليس مازال يتحرك في كل يوم على هذه الشهوة في قلوب شعب الرب. مازال يغريهم بإمكانية الحصول على المزيد، وبأنهم سيكونون أكثر سعادة إذا حصلوا على كذا وكذا، ورغم كونه مخادعاً إلا أن إغراءه كثيرا ما نجح ، وكثيرا ما تحركت أعماقنا خلف شهوة الامتلاك، وكثيرا ما انحنت أعناقنا وجثت ركبنا أمام هذا السيد المغتصب المخادع لكي يعطينا أشياء أكثر، وخضعنا لقوانين هذا العالم وشروره لكي نحصل على المزيد من غناه ، لقد رفض الرب أن يسجد لإبليس في مقابل جميع ممالك العالم، أما نحن فكثيرا ما سجدنا له في مقابل أشياء تافهة وقليلة، بل أحيانا بدون مقابل على الإطلاق!!

لمن نسجد ؟!

إن السجود والعبادة ليست أفعالا خارجية بل هي حالة قلب، فالعبادة في جوهرها هي المحبة والمخافة والخضوع لمن يملك في يديه أمور حياتي ، والسجود ليس سوى اعتراف بخضوعي لمن أعلم أنه يملك خيري وسعادتي ، فلو صدقت أن العالم يملك لى حياة وسعادة فسأجد قلبي في حالة سجود لروح العالم بدون أن أدري، ولو صدقت أن إبليس يستطيع أن يمنحني خيراً لصار قلبي في حالة عبادة لإبليس حتى لو كنت بفمي أنكر هذا ، فالقلب الإنساني يسجد بالطبيعة لمن يرجو منه الخير. أما إذا صدقنا أن الله وحده يملك أن يعطينا الحياة والنفس وكل شيء ( أع 17 : 25 ) فعندئذ ستكون الوصية أمرا طبيعياً وتلقائياً:

للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد

كانت هذه الوصية هي رد الرب الحاسم على إبليس، لم تكن مجرد كلمات بل كانت خارجة من قلب ذهبي لم ينحن يوماً إلا لله، ونفس طاهرة لم تجث إلا لإرادة يهوه، إنه الإنسان الكامل الذي لم يرج شيئا من إبليس فلم ينحن أمامه، ولم يرج شيئا من الناس فلم يخضع لهم، إنه الشخص الوحيد الذي تمت فيه هذه الوصية بالكامل، هل تعلمنا منه وانتقلت إلينا روحه الوديعة الطاهرة أم مازال كل منا يخفي تحت جلده عابد وثن ؟ !! وللحديث بقية.

 

السبت، 10 سبتمبر 2022

أحاديث من القلب


سبعة أرواح الله ( 13 )

بقلم : فخرى كرم

هل كان إبليس صادقاً أم كاذباً عندما قال أن ممالك العالم قد دفعت إليه؟ الحق أنه لم يكن صادقا تماما وأيضا لم يكن كاذبا تماما، لقد كان مخادعا!! إن الصادق هو من يذكر الحق كله ولا شيء غيره،. والكاذب هو من يذكر أكاذيب لا علاقة لها بالواقع والحق، أما المخادع فيذكر « توليفة » من الحق والكذب، من الواقع والخيال!! توليفة متقنة محبوكة لا يسهل اكتشافها ، إنه يذكر في مستهل كلامه بعض الوقائع وأجزاء من الحق لكى يعطى لأقواله مصداقية ويغرى المستمع بتصديقه، ولكنه سرعان ما يبني على هذه الحقائق فروضاً وتفسيرات مضللة، ويخلص إلى نتائج كاذبة لا علاقة لها بالحق القويم، وهو يجيد إظهار الحقائق وإخفاء الأكاذيب حتى ينخدع البسطاء ويبتعلوا الطعام المسموم كله، هذا ما نسميه الخداع.

ممالك العالم .. لمن؟

كون إبليس هو رئيس العالم حاليا فهذا حق كتابي ذكره الرب نفسه أكثر من مـرة (يو12 : 31 ، 14 : 30 ، 16 : 11 ) ولكنه ليس كل الحق، لقد ذكر إبليس فعل «دُفع» مبنية للمجهول ولم يذكر لنا من الذي دفع له هذا السلطان ولماذا وكيف وإلى متى؟!! والحق الكامل هو أن الأرض كلها ملك شرعي لله بصفته الخالق (مز 24 : 1 ) ولقد أعطاها في فضله للإنسان ليسودها ويثمر فيها (مز 115 : 16 ، تك 1 : 28 ) ونتيجة لسقوط الإنسان تحت سلطة إبليس بالخطية أخضعت الأرض بالتالي لإبليس ليس طوعا بل كرهاً ، ولكن هذا الوضع شاذ ومؤقت لحين اتمام فداء الله الكامل للإنسان – بما فيه فداء الأجساد - وعندئذ ستعتق الخليقة من عبودية الفساد وتعود ممالك العالم مرة أخرى لربنا ومسيحه (رؤ 11 : 15 ) وتستطيع أن تقرأ هذا الحق الكامل في (رو 8 : 19 ـ 23 ) أي إن الأرض هي ملك لله شرعا وملك للإنسان فضلا وملك للشيطان غصبا !!

ولقد ذكر إبليس للرب الجزء الأخير فقط من الحق وهو أنه المتسلط الحالي على الأرض، ثم أراد أن يبني على هذا الجزء استنتاجا باطلا وهو أنه مادام متسلطاً فهو مستحق للسجود ، ولكن الرب الذي يعرف الحق الكامل بل هو الحق الكامل ما كان يمكن أن ينخدع بهذا الضلال، فالمغتصب مهما امتلك و تسلط سيظل مغتصباً ولصاً وتحت القصاص ومهما تأني الله في قضائه وتمهل في قصاصه إلا أن الحق لابد أن يعود لصاحبه ولابد للمغتصب أن يلقى جزاءه، هو وكل من سجد له وربط نفسه بمصيره المظلم (رؤ20 : 10 )  وعجباً لمن يسجد للص ومغتصب ويربط مصيره بمصير إله مؤقت محفوظ له قتام الظلام للأبد!! 

أحقا قال الله ؟!

لقد استخدم إبليس أسلوب الخداع هذا منذ بدء تعامله مع الإنسان وحتى اليوم، فعندما قال الحواء قديمة «... تكونان كالله عارفين الخير والشر» كان يذكر جزءا من الحق، فالكتاب يقول « هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر» (تك 3 : 5 ، 22) ولكنه بني على هذا الجزء فرضا خاطئا وهو أن الله يخشى أن يصير الإنسان مثله ولذلك فهو يحاول بالوصية أن يمنع عن الإنسان هذا الخير، وهذا محض ضلال، فالله لا يمكن أن يخشى أن يصير هذا الكائن الترابي مثله حتى بعد أن يعرف الخير والشر، فمعرفة الله للخير والشر لا تماثل معرفة الإنسان لهما، فالله يعرف الخير والشر معرفة كاملة مطلقة باعتباره الخالق المسيطر على هذا الكون بكل ما فيه من خير وشر ( إش 45 : 7 ) أما معرفة الإنسان فهي معرفة محدودة ناقصة وغير مجدية، فالله عندما يقول «... صار كواحد منا » يعني التشابه من بعيد، التشابه مع الفارق الشاسع بين معرفة الخالق ومعرفة المخلوق، لكن إبليس عندما قال لحواء « تكونان كالله» فكان يلقى في روحها التشابه الذي يعني التساوي والتكافؤ، وهذا هو الضلال بعينه، وهذا ما أثبتته الأحداث التالية، فعندما أكل الإنسان من الشجرة ظل إنساناً كما هو وظل الله إلها مرتفعاً كما هو، بل زادت الشقة بينهما اتساعاً ، ولم يستفد الإنسان من معرفته للخير والشر بل شقى بها !!

الحق الكامل يقول إن دافع الله من وراء وصية عدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر هو محبته الشديدة للإنسان، لقد أراد الله للإنسان أن يعيش بحسب الحياة المتدفقة إليه كل يوم من قلب الله وليس بحسب معرفته للخير والشر، ناموس روح الحياة يربط الإنسان بالله برباط حي متجدد ، أما ناموس معرفة الخير والشر فيضع الإنسان تحت سلطان النواميس الأدبية ومجموعات الأوامر والنواهي ويفتح عليه باب الصراع مع غرائزه الدفينة ومع قوى الشر في هذا الكون، فالله يعرف أن الإنسان أضعف جدا من أن يصمد أمامه، ولابد أن تهزمه الخطية وتقوده للابتعاد عن الله والموت الأبدي، ومعرفته للخير والشر لن تفيده لأنه سيعرف الخير ولن يستطيع فعله وسيعرف الشر ولن يجد منه مهرباً !!

لا يكفي أن نعرف أجزاء من الحق ونجهل أخرى لأن كل منطقة جاهلة بالحق فينا هي أرض خصبة للخداع وثغرة يسهل لإبليس الدخول منها لتدمير علاقتنا بالله، لم يكن يكفي أن تعرف حواء الوصية بل كان ينبغي أن تعرف أيضا دوافع الله الصالحة من وراء هذه الوصية، معرفة الوصية فقط وجهلها بدوافع الله جعل إبليس يستغل هذه المنطقة الجاهلة ويصور لها أن دوافع الله هي القسوة والأنانية!! لذلك قال الرب عن الروح القدس: «يرشدكم إلى جميع الحق» ( يو 16 : 13 ) . إننا في حاجة إلى جميع الحق لكي نحصن حياتنا من مكائد وخداع إبليس... وللحديث بقية.

 

 

 

الجمعة، 2 سبتمبر 2022

أحاديث من القلب

                             سبعة أرواح الله ( 12 )

بقلم : فخرى كرم

    « ثم أخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جدا ، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها » ( مت 4 : 8 )

لعل أحد أسباب حصول إبليس على لقب «بعلزبول » أي « إله الذباب» هو أنه كلما طردته عاد من جديد بإلحاح وإصرار ليهاجمك بدون كلل أو ملل!! ولهذا نجده بعد هزيمته مرتين أمام الرب يعاود هجومه بإصرار وتصميم كما لو أن شيئا لم يحدث!! وفي هذه المرة نراه يشحذ كل قواه ويستخدم كل ما في جعبته - كل ممالك العالم !! - لإغراء الرب والعزف له على وتر آخر نجده في كل قلب إنساني ، نعني به شهوة.

الكسب والامتلاك

بداخل كل إنسان شهوة جارفة تجاه الكسب والامتلاك، نراها منذ الطفولة المبكرة عندما يسعى الطفل إلى امتلاك الألعاب المختلفة وضمها بعضها إلى بعض وتخزينها ، وتنمو معه وهو يكبر وتأخذ أشكالا مختلفة تتدرج من محاولة امتلاك الأشياء وحتى محاولة امتلاك الأشخاص !! وهذه الشهوة لا تكتفى ولا تشبع وليس لها حدود ، فعندما قال الرب له المجد « ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله...» لم يكن يبالغ البتة، حاشا ، بل كان يشير إلى شهوة حقيقية في قلب الإنسان تشتاق أن تمتلك «العالم كله »!!

كل أساليب التجارة والإعلان والترويج تعتمد في الأساس على إثارة هذه الشهوة في قلب العميل حتى تدفعه لشراء سلع قد لا يحتاجها فعلا !! فالإنسان قد يشترى أشياء كثيرة ليس لأنه يحتاجها بل لأنه يحتاج لامتلاكها، أي إنه ليس في حاجة للسلعة نفسها بقدر ما هو في حاجة للشعور بأنه امتلك شيئاً جديداً !!

وهذه الشهوة مركزية جدا في القلب الإنساني، فشهوة المكسب تقف دافعة وراء معظم أعمالنا ، وإذا انطفأت هذه الشهوة وشعر الإنسان بأنه لا سبيل لكسب المزيد فإنه يفقد الدافع للعمل والاجتهاد ، فالإنسان لن يتعب في عمل لا يرجو من ورائه مكسباً.

بل إن هذه الشهوة تقف كثيرة وراء أعمالنا الروحية وعلاقتنا بالله، فكثيرا ما اقتربنا إلى الله لأننا نعتقد أننا سنربح من ورائه الكثير، بل إن الخدام كثيراً ما يعزفون على هذا الوتر في قلوب الناس لاجتذابهم إلى الله!! إن النفوس التي أحبت الله لذاته وليس للمكسب هي نفوس نادرة الوجود بالحق!! وخلاصة القول هو ما قاله فاحص القلوب لعبده حزقيال : «إن قلب الإنسان ذاهب وراء المكسب» ( حز 33 : 31 )

لأجل كل هذا قرر إبليس أن يوجه سهامه الملتهبة إلى تلك المنطقة الحساسة في قلب شخص الرب يسوع له المجد:

 « وقال له إبليس لك أعطى هذا السلطان كله ومجدهن لأنه إلىّ قد دفع وأنا أعطيه لمن أريد . فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع » (لو 4 : 6 ، 7 )

ماذا كان إبليس يقصد من وراء هذا العرض ؟ أين يكمن السم في العسل؟

أولا : كان يريد أن يثبت أن ما يدفع الإنسان للسجود لله هو نفس الرغبة الدفينة لامتلاك المزيد، ويريد أن يثبت أنه إذا حصل الإنسان على هذا المزيد من مصدر آخر غير الله فسوف يتحول القلب سريعاً ليسجد لهذا المصدر الآخر حتى وإن كان إبليس!! يريد أن يثبت أنه ليس هناك « ساجدون حقيقيون» للأب، بل الكل تحركه شهوة الامتلاك وكل السجود فحواه الذات.

وثانيا : كان يريد أن يوقف سعى الرب منذ بدايته، فلو كان طموح المكسب هو ما يدفع الإنسان للسعي في الحياة فلماذا سيسعى إذا حصل على كل شيء مقدماً ؟ فإذا حصل الإنسان على كل ما يطمح إليه منذ البداية فإنه يتراخى ويكف عن السعي وتنتهي رحلته من قبل أن تبدأ.

ثالثا : كان يريد أن تثور في نفس الرب مقارنة بين ثمن رضا الآب وثمن رضا إبليس !! فإبليس يعلم من (مز ۸:۲) أن الآب سيمنح الابن كل أمم الأرض ميراثاً له بعد طريق طويل من الألم والسحق والحزن، ولذلك فقد قرر إبليس أن يلوح أمام عيني الرب بنفس الميراث في مقابل أسهل جدا وهو السجود له!! وهو يقصد أن يغرس في نفس الرب أن ثمن رضا الآب باهظ ومكلف بينما رضا إبليس يحتاج إلى عمل بسيط وسهل وغير مكلف، فلماذا السير إذا في طريق الموت والصليب إذا كان إبليس سيمنحه كل المجد والسلطان مجانا ؟! ولماذا تسلك طريق الأمانة الوعر إذا كان السير في طريق الخيانة أسهل؟! لماذا السجود لله وحده إذا كان السجود لإبليس يمنحنا نفس المقابل وبطريقة أسهل؟!

رابعا : إبليس يغار جدا من خضوع المحبة الذي يقدمه يسوع للآب، إنه يرغب في مثل هذا السجود ، لقد حاول قديماً أن يكون موضع المحبة والسجود كالله فسقط، وكل خضوع العالم الآن له لا يشبعه لأنه مؤسس على الكذب وليس خضوعاً حقيقياً، لقد تسلط على العالم بالخداع وسلطانه مستمر بالخداع ولو توقف إبليس يوما عن خداع الإنسان لفقد كل سلطانه، لذلك فهذا السلطان المؤقت الزائف لا يشبعه وهو على استعداد للتنازل عنه للرب في مقابل سجود حقيقي له!! وللحديث بقية.