الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

أحاديث من القلب

الأوقات والأزمنة (2)
فخرى كرم
«لأنكِ لم تعرفي زمان افتقادك» (لو19: 44)
كلمات ربنا الحزينة التي قالها وهو على مشارف أورشليم تستحق أن نقف أمامها ونتعلم منها، تلك الكلمات التي امتزجت بدموعه الطاهرة تكشف لنا أن الله كان قد حدّد للأمة اليهودية «زمن افتقاد» لعلها تستغله وتقتنص الفرصة وترجع إليه بتوبة وإيمان، وهذا الزمان محدد ببداية ونهاية، كانت بدايته مع بداية خدمة يوحنا المعمدان الذي دعا الشعب والقادة للتوبة وتغيير المسار، وكانت نهايته في يوم دخول ربنا الأخير إلى أورشليم، زمان طويل وكافٍ لا يقل عن ثلاث سنوات وبضعة أشهر.
في زمان الإفتقاد هذا أعطى الله للشعب كل ما يحتاجه للتوبة والرجوع، وتكلم معهم بكل الأساليب والطرق، أرسل يوحنا المعمدان صوتاً صارخاً في البرية لكي يعدوا طريقاً للرب في القفر، صوت يوحنا كان صوتاً عالياً ومزعجاً ومخيفاً لعل الغافلون ينتبهون والنائمون يستيقظون، استخدم يوحنا كلمات حادة وصارمة وكاشفة لخطايا الشعب وابتعاده عن شريعة إلهه، رسم لهم طريق التوبة بوضوح ورسم لهم طقس المعمودية لإشهار هذه التوبة، كانت رسالته مؤيدة بالروح القدس الذي ملأه وهو بعد جنيناً في بطن أمه ليعدَّه لهذه الخدمة، ولقد حرَّكت خدمته الضمائر وأشعلت القلوب ومهَّدت الطريق لعودة الشعب إلى إلهه.
  ثم أتى ربنا المبارك بخدمته بعد خدمة يوحنا ليكملِّها ويضيف إليها، دعا الشعب للتوبة لأن ملكوت الله اقترب منهم، أعلن ربنا للشعب أن الله هو أبوهم المحب الذي يرثي لهم ويريد أن يخلِّصهم من شرورهم وآثامهم، أظهر محبة الآب من خلال أعمال الخير والشفاء التي كان يجول يصنعها في كل مكان، رفض مشورة تلاميذه أن يوقع الدينونة بمدينة السامريين الذين رفضوا استقباله وقال لهم أنهم لا يعلمون من أي روح هم، فابن الانسان لم يأتِ ليدين بل ليخلّص، فكما قلنا أن لكل زمان الأرواح المسئولة عنه، والروح السائد في زمن الإفتقاد كان روح الخلاص وليس روح الدينونة.
ومن كلمات الرب الباكية على مشارف أورشليم نتعلم أيضاً أن ربنا حاول كثيراً في زمن الإفتقاد أن يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، كان المجتمع اليهودي منقسم إلى متدينين وخطاة، والمتدينون لا يقبلون الخطاة ولا يأكلون معهم، فنجد ربنا يجلس ويأكل مع العشارين والخطاة ويجلس ويأكل في بيت سمعان الفريسي، حاول أن يجمع حول شخصه النقيضين، تكلم عن الغفران للآخرين وقبول توبتهم، حكى لهم مثلاً عن الأب الذي له ابنان واشتاق أن يسترد ابنه الضال ويجلِّسه على مائدة واحدة مع أخيه الأكبر، ولكن الابن الأكبر رفض للأسف أن يشارك أخاه مائدته أو يشارك أباه فرحته!!

وها قد مرت الأيام ودنا وقت النهاية لزمان الإفتقاد، ماذا يعوز الإنسان أكثر لكي يتوب؟ ماذا بعد خدمة يوحنا النارية وخدمة ربنا كلي المحبة؟! ماذا ينقصهم بعدما رُسم أمامهم الآب الذي يفتح أحضانه لقبولهم وخلاصهم؟! كان الجواب الحزين الذي سكب الدموع من عيون ربنا هو «ولم تريدوا» (مت 23: 37)!! لقد رفضت الأمة اليهودية أن تقنص الفرصة في زمان الإفتقاد، أغمضت عيونها وصمَّت آذانها وأغلقت قلبها ورفضت التوبة، قطعوا رأس يوحنا بالسيف وهاهم يتآمرون لتسليم ربنا للأمم ليقتلوه، وماذا يتبقى بعدما نرفض زمان الإفتقاد؟! ليس سوى قبول الدينونة المخيفة: «فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفي زمان افتقادك»!! وللحديث بقية (يتبع)