عن الروح القدس ( 8 )
بقلم : فخرى كرم
يؤثر الروح القدس على النفس بمؤثراته الروحية السامية ،
وتعيش
النفس تحت هذه المؤثرات فترة زمنية مباركة تحلق فيها في أجواء السماويات ، حيث تستشعر كل برکات الله في متناول اليد ، وحيث تسمو فوق کل منطور حتى تصير التضحية بأي شیء أمراً میسوراً
. ولكن ــ فجأة أو تدريجيا ــ تبدأ هذه المؤثرات تخبو وتتسرب من بين أيدينا ، و تعود النفس الى حدودها الطبيعية مرة اخرى كما لو أنها حطت على ارض الواقع بعد طول تحليق ، وتبدأ تستشعر كل الضغوط والمقاومات الخارجية والداخلية مرة اخرى ، وتری أمور الله بعيدة صعبة المنال ، والسير في طريقه مكلفاً مضنياً . وهذا قد يجعلها تشك في أن هذه المؤثرات كانت مجرد أوهام نفسيه ، وإذا استسلمت للشك استسلمت للضعف والسقوط ، وفقدت كل شيء جميل وخيم عليها ضباب الضعف وظلمة الشك وليل الشكاية والتذمر.
والحقيقة هي ان الروح يسحب تأثيراته لعدة أسباب ان فهمناها استطعنا أن نجتاز تلك المرحله الموحشه بنجاح ، وجعلنا وادى البكاء ينبوعا !! إن الروح يسحب تأثيراته أولا لكي :
يعطي الفرصة للارادة الحرة
الله لا يريد إلا الذبيحة المقدمة بكامل الارادة ، والارادة الكاملة هي الارادة التي تتخذ قرارها في أرض الواقع وهي شاعره بكل المؤثرات المختلفة ومدركة للمغريات والواقع ، للمكاسب و الخسائر ، إنها الارادة التي تتخذ قرارها بعد حساب النفقة ، إنها الارادة التي ترى جيدا كل الطرق المتاحة ومع ذلك تختار السير في طريق الله ، إنها إرادة حرة تتخذ قرارها بدون الاندفاع بمؤثر ما ، حتى لو كان مؤثرا روحيا !!
عندما تكون النفس تحت سلطان الروح تری أمور الله بصورة ممجدة تدفعها لاتخاذ قرارات سريعة ، لكن هذه القرارات لا يعتد بها لأنها ليست ناشئة عن إرادة حرة بل عن مؤثر روحي طاغ ، ولذلك يسحب الروح تأثيراته
ـــ بعدما يكشف للنفس امجاد الله
ـــ ويترك النفس ترى الطرق الأخرى ومغرياتها ، وتشعر بالتضحيات الموجودة في الطريق الكرب ، ويترك عندئذ الفرصة للإرادة لكي تختار طريقها . إنه إله عادل لا يريد أن يؤثر على حريتنا في اتخاذ قرارنا .
إن الله لا يعتد بالتوبة الناشئة عن سطوة التبكيت الالهي ، لكنه يعتد
بالتوبه الناشئه عن إرادة أدركت شناعة خطيتها و قررت أن ترفض الخطية و
تعترف بها و تتركها . لقد قلنا سابقا أن التبكيت الإلهي ضروري لكي تدرك النفس
شناعة الخطية و قداسة الله و لكن السؤال
الآن هو : ماذا بعد زوال التبكيت !! هل ستستمر النفس منكسره أمام الله طالبه الغفران و التطهير ؟ حينئذ يكون
التبكيت قد أثمر " نفساً تائبة " . لكن في معظم الأحيان ، عندما يزول
التبكيت ، تنهض النفس و تعاود سيرها في الطرق القديمة ، و هذا يثبت أن التوبة الناشئة عن التبكيت
الإلهي لم تكن توبة إرادية بل توبة مؤقتة ، و هذه
توبة لا يعتد بها و كأنها لم تكن !! و لا نقول أن التبكيت قد فشل في مهمته
، حاشا بل نحن الفاشلون في اقتناص فرص
نعمة الله و التجاوب معها !!
وما نقوله عن التبكيت نقوله عن كل المؤثرات الأخرى للروح ، كم من نفوس اتخذت قرارها بالتكريس لله في مناخ روحي قوي ، ثم تراجعت عن هذا القرار حين اصبحت في مناخ آخر ، وكم من خدمات ناجحة قدمت تحت تأثير الروح لم يكن لها هدف سوى مجد الله وخير النفوس ، و عندما زالت المؤثرات وجدنا الخادم يهتم بنفسه ومجده وخيره الشخصي ، انظر الى بلعام بن بعور وهو ساقط أمام الله علي مشارف خيام شعب اسرائيل ، كم من نبوات عظيمة خرجت من شفتيه وكم من رؤی رآها وهو مفتوع العينين !! لكن هل تريد أن تعرف بلعام على حقيقته !! انظر اليه بعدما فارقه الله ، ستجده يعلم بالاق أن يلقي معثرة امام بني اسرائیل
لکی يأکلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا !! ( عدد 22 ــ 24 ، رؤ 2 : 14 ) .
و هل رأيت شاول بن
قيس و هو يتنبأ في وسط الأنبياء بعدما حل عليه
الروح ، حتى صار مثلاً : أشاول أيضا بين الأنبياء ! لا تنخدع بهذه الصورة ان شاول الحقيقي
سیظهر بعد زوال موثرات نعمة الله ، وعندئذ سيقول الله لصموئیل " ندمت على اني
قد جعلت شاول ملكاً لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي " ( 1 صم 10 : 11 ، 15 :
11 ) .
وماذا
نقول عن يهوذا الإسخريوطي الذي عاش ثلاث سنوات
كاملة تحت أعظم المؤثرات الروحية قاطبة ، تحت ظل الرب يسوع نفسه وهو يجول يصنع خيرا
ويشفي جميع المتسلط عليهم ابليس ؟ لا تنظر اليه وهو يشارك في أعمال الخير والشفاء باسم
الرب ، ان اتجاه الارادة الحقيقي سيظهر بعد زوال هذه المؤثرات ، ونراه قادرا على بيع سيده بثلاثين من الفضة !! و مره
أخرى نقول أن نعمة الله لم تفشل لكننا نحن
الفاشلون في التجاوب معها .
وهكذا يسحب الله تأثيراته الروحية لکي يعطى لارادة الإنسان الفرصة لتتخذ قرارها بحرية ، وطوبي للنفس التي تختار الله دائما ، ولا ترضی عنه بديلا .