الأربعاء، 2 يوليو 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (2)
فخرى كرم
«يا رب لم يرتفع قلبي ولم تستعلِ عيناي ولم أسلك في العظائم ولا في عجائب فوقي، بل هدَّأت وسكَّت
نفسي كفطيم نحو أمه، نفسي نحوك كفطيم» (مز131: 1، 2)
كثيراً ما تمر حياتنا بظروف لا نفهمها، ونجتاز في أحداث غريبة لا نعرف القوى المتحكمة فيها ولا المعاني التي تقف وراءها، والحقيقة أننا كائنات ضئيلة الشأن جداً تتحكم فينا قوى خفية تحركنا مثل قطع الشطرنج على رقعة صغيرة لتحقيق أهداف خفية لا ندرك كنهها، والإنسان الذي يظن في نفسه أنه يفهم مجريات الأمور وأبعادها هو إنسان مرتفع القلب ومنتفخ من قِبِل ذهنه الباطل، والإنسان الذي يتكلم كثيراً في محاولة لشرح الأحداث ووضع التفسيرات لكل ما يجري حوله هو في الحقيقة إنسان مغرور لدرجة تثير الشفقة والضجر، فالإنسان لا يدرك إلا نسبة ضئيلة جداً مما يحدث في حياته وهو في معظم الوقت مفعول به لا فاعل، تحركه قوات أعلى منه وأكثر ذكاء مما يتصور، ومحاولة الاطلاع على هذه العجائب والعظائم التي فوقنا محاولة فاشلة بكل المقاييس إلا إذا أنار الروح القدوس أعيننا وجلى بصيرتنا لنبصر (ولو بقدر محدود) هذه العوالم الخفية.
وهذه القوى الخفية التي تتحكم في حياتنا تنقسم إلى قوى شريرة وأخرى صالحة، فكما ان هناك مملكة ضخمة للشر تسود وتعمل في أبناء المعصية لتتميم مشيئة الشيطان، هناك أيضاً ملكوت الله الذي يعمل من خلال أبنائه لتتميم مشيئة الله الصالحة على الأرض، فسلطان الله على البشر ومحاصرة روح الله للإنسان في كل أحواله وأوضاعه أمر يفوق خيالنا ولا نستطيع تصوره، قال عنه داود «من خلف ومن قدام حاصرتني وجعلت عليّ يدك،  عجيبة هذه المعرفة فوقي ارتفعت لا أستطيعها، أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب؟» (مز139) إن معرفة الله لتفاصيل حياتنا الدقيقة وتحكّمه فيها أمور ترتفع فوق ادراكنا ولا نستطيع فهمها بالكامل واستيعابها.
لكننا للأسف لا نكفُّ أبداً عن حماقة اعتقادنا أننا نفهم كل شيء!! نرتئي دائماً فوق ما ينبغي أن نرتئي ونظن في أنفسنا أننا نملك ناصية المعرفة ومفاتيح الفهم، حتى أننا لا نتوانى عن محاولة شرح الأحداث والتفاصيل التي تمر بها حياتنا وحياة المحيطين بنا، فننسب هذا للشيطان وذاك لله وتلك للإنسان...، ونتقدم أكثر في كبريائنا فنُسدي النصيحة للواحد بأن يفعل هذا وللآخر بأن يتصرف هكذا، وكأننا المدركين لبواطن الأمور والفاهمين لمسارات الأحداث والمطّلعين على نهاياتها، لعن الله كبرياء الإنسان وغروره في كل زمان ومكان!!
لكن الأكثر مدعاة للأسف أننا ندخل إلى محضر الله بذات الروح المتعالية التي تظن أنها تعرف كل شيء وهي في الغالب لا تعرف أي شيء، ونحن أمام الله لا نكف عن الكلام في ما ينبغي أن يكون وما لا ينبغي أن يكون، نحاول أن نملأ وقت صلاتنا بأحاديث عن ما يصح وما لا يصح، عن ما ينبغي أن يفعله الله وما لا يجوز أن يسمح به، نحمل حكمتنا ونرفعها بكبرياء أمام عرش الله، بل قد تجدنا في ذات الوقت نشكِّك في حكمة الله وصواب أفعاله بتصلُّف وغباء لا نُحسد عليه، غباء الجُبلة حين تحاول التعديل على جابلها والتشكيك في حكمته!!

داود يعلمنا أنه عندما نمر بأحداث لا نفهمها ويقصر إدراكنا على الإلمام بأبعادها فهذا هو الوقت المناسب لنتعلم السكوت أمام الله!! عندما تدخل النفس إلى محضر الله وترفع إليه عينين دامعتين ولا تنطق بكلمة فهذا السكوت هو أبلغ من أي كلام، السكوت هنا يحمل معانٍ لا تستطيع الكلمات مهما كانت بلاغتها أن تحملها، عندما نهدئ ونسكِّت نفوسنا أمام الله فالسكوت هنا يحمل معنى إدراكي أني صغير جداً عن فهم ما يجري حولي، صغير مثل الفطيم الذي لا يعرف من الحياة إلا صدر أمه وبعض اللعب والعرائس، ولكني رغم صغري المتناهي أؤمن أن ليّ إلهاً يرعاني كالأم الرؤوم التي تفوقني فهماً وإدراكاً، الأم التي لم ولن ينقصها قط المحبة والإرادة أن تفعل لي أفضل الأشياء وتختار لي أفضل المسارات، هذا السكوت يقول أني لن يرتفع قلبي وتستعلي عيناي وأخوض في العظائم والعجائب التي ترتفع فوقي، لن أحاول أن أتكلم بجهل عن الأسرار الروحية التي تجري في السماويات طالما الله لم يعلنها لي، السكوت يقول اني لن أحاول بغباء أن أشتكي على صلاح وحكمة الله تماماً مثل الفطيم الذي لا يمكنه مهما كان جهله وغباؤه أن يشكِّك في صلاح أمه التي أرضعته كل الخير في كل أيام حياته، السكوت هنا يحمل الكثير من المعاني التي ربما نتكلم عنها في المرات القادمة (يتبع)