الاثنين، 9 أغسطس 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (54)

بقلم : فخرى كرم

 

«لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير» (مت7: 6)

في داخل كل واحد منا مكان سحيق نختزن فيه أعمق مشاعرنا وأدق خصوصيتنا وأغلى ذكرياتنا، وهناك أيضاً ندفن أحزاننا واحباطاتنا وجراحنا السخينة، أنه المكان الذي يحتوي على مفاتيح شخصياتنا وأسرار كينونتنا، هذا المكان لا نحب أن يعرفه أحد ولا تدخله قدم ولا تتجول فيه عين، إنه يشبه القدس الذي ينبغي ألا يقترب منه غريب، ويشبه الجواهر التي تحاول المرأة أن تخبأها في مكان لا تصل إليه يد إنسان.

يحذرنا ربنا هنا من أن نسمح لأحد بأن يدخل إلى هذا «القدس» ويمد يده على هذه «الدرر»!! فأحياناً نعتقد بسذاجة أن الآخرين ربما يساعدوننا إذا عرفوا ما نختزنه في أعماقنا، لكن ربنا يكشف لنا ما سيحدث إذا فعلنا هذا، سنُفاجأ بأنهم لا يقدِّرون أمورنا كما نقدّرها نحن بل يزدرون بها ويدوسونها، فمشاعرنا لا قيمة لها عند مَن لم يشعر بها، وأحزاننا لا تساوي شيئاً عندهم، آمالنا وطموحاتنا واحباطاتنا لا قيمة لها عند أي أحد، هذه كلها ذات قيمة عندنا نحن فقط لأنها شكَّلت كياننا، لكن إذا أتطلع آخر عليها فلن يرى فيها أية قيمة!!

ازدراء الناس بما اكتشفوه في أعماقنا سيزيد معاناتنا وآلامنا، ولن تنتهي الخسارة عند هذا الحد لكنهم سيلتفتون نحونا ليمزقونا شر تمزيق، فمَن اتطلع على مكنونات النفس العميقة يسهل عليه سحق هذه النفس وتمزيقها، ومن عرف نقاط الضعف في شخصياتنا يستطيع بكل سهولة أن يسيطر عليها ويحطمها.

ونأتي هنا للسؤال الأهم: ما علاقة كلمات الرب هذه بحديثه السابق في موعظة الجبل؟! والإجابة هي أن العلاقة وطيدة ومؤكدة. لقد تكلم الرب في الجزء السابق عن أدعياء التقوى الذين يذهبون للبسطاء من الشعب ويؤكدون لهم أنهم يميزون القذى الذي في أعينهم، ويطلبون منهم السماح لكي يمدوا أيديهم ليخرجوا لهم القذى، ولقد فاجأنا الرب بحقيقة أن هؤلاء الأدعياء تملأ عيونهم قطع كبيرة من الخشب!! واتهمهم الرب بالرياء، وقال إن عليهم أن يخرجوا الخشبة أولاً من عيونهم قبل أن يستطيعوا اخراج القذى من عيون الآخرين، ثم تقدم الرب في حديثه ليخاطب بسطاء الشعب ليحذرهم من السماح لهؤلاء الأدعياء بالاقتراب من أقداس حياتهم وأسرارها، وطالباً منهم ألا ينخدعوا في هؤلاء المرائين ولا يسمحون لهم بالدخول إلى تفاصيل حياتهم الدقيقة تحت دعوى المعالجة والإصلاح.

في (حز 34) نجد صورة مفصلة لهذه العلاقة بين الرعاة الأردياء والغنم المسكينة، إذا ذهبت شاة بمرضها إلى هؤلاء الرعاة لا يقووها، والمجروحة لا يعصبوها، والمكسورة لا يجبروها، أي أنهم يزدرون ويدوسون معاناة بسطاء الشعب، وليت الأمر انتهى عند هذا الحد لكن يقول الكتاب «بل بشدة وبعنف تسلطتم عليهم» لقد التفتوا ليمزقوا ويشتتوا غنم الرب على كل وجه الأرض!!

ولو سألنا ما هو الحل إذاً؟ إلى مَن نذهب بمعاناتنا الداخلية ومكنونات نفوسنا الخفية؟ نجد الرب يجيبنا «أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب، أطلب الضال وأسترد المطرود وأجبر الكسير وأعصب الجريح» (حز34: 15، 16) فلا يستحق أن يدخل إلى «قدس» حياتك إلا «القدوس» ولا يستحق أن تكشف له مكنونات نفسك إلا من افتدى هذه النفس بدمائه الثمينة!! ولذلك نجد ربنا يستطرد في حديثه التالي ليتكلم عن الصلاة التي هي القناة الآمنة الوحيدة التي من خلالها نستطيع أن نسكب مكنونات نفوسنا أمام الله وننال كل شفاء وتعزية وتقديس، ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)