الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (4)
فخرى كرم
«كُفَّ عني لأن أيامي نفخة!! ما هو الإنسان حتى تعتبره؟ وحتى تضع عليه قلبك؟ وتتعهَّده
كل صباح وكل لحظة تمتحنه؟ حتى متى لا تلتفت عني ولا ترخيني ريثما أبلع ريقي؟»( أي 7: 16-19)
قد يوجد في أرواحنا قدراً من محبة الله ورغبة في السير معه والجلوس تحت ظله، وهذه المحبة هي من عمل روح الله في داخل أرواحنا، لكن هذا لا ينفي أنه في ذات الوقت يوجد جهل مطبق بالله في داخل أنفسنا، الاستنارة التي يصنعها الروح في داخل أرواحنا لا تصل بسهولة إلى أعماق مشاعرنا وأفكارنا، لأن لكل من الروح والنفس طبيعة مختلفة، أرواحنا تستقبل بسهولة عمل الروح القدس وإعلاناته بينما نفوسنا تجد صعوبة شديدة في ذلك، أرواحنا قريبة للروح القدس بحكم طبيعتها المأخوذة منه أما نفوسنا وأجسادنا فهي قريبة أكثر للعالم المادي وتمتلئ بسهولة بمنطق الإنسان وأفكاره، لذلك كثيراً ما نرى بداخلنا صراع بين أرواحنا ونفوسنا، فبينما أرواحنا تريد أن تأخذنا بقرب الله نجد أنفسنا تبتعد بنا بعيداً عنه!!
عندما تعرَّض أيوب للتجربة المريرة خرج من داخله موقفان: أحدهما من روحه التي تحب الله وتثق فيه والآخر من نفسه التي تجهل كل شيء عن الله وتتعامل معه بمنطق الإنسان وأفكاره، وعلى مَن يقرأ أقوال أيوب أن يميز كل الوقت بين ما تنطق به روح أيوب وبين ما تقوله نفسه، فالاختلاف بينهما كبير ويدعو للدهشة!!
أمام التجربة اتخذت روح أيوب موقف السكوت البليغ الذي يعني التسليم لمشيئة الله وقبول كل الأمور من يديه بشكر، السكوت الذي يعني تقديم المجد لله سواء أعطى أو أخذ، السكوت الذي يعني اعتراف الإنسان بعجزه عن فهم كل ما يجري حوله وجهله بالكثير من القوى المحيطة بحياته والمؤثرة فيها، السكوت الذي ينشر عبق الطاعة وبخور التسليم ليغطي على دخان الشكوى الذي يريد العدو أن ينشره في الأجواء المحيطة، السكوت الذي يجعل السلام يسود في المنطقة التي أراد العدو أن يعمَّها الفوضى والاضطراب.
  لكن هذا العبق الجميل الخارج من روح أيوب لم يستمر طويلاً، فبعد سبعة أيام بدأ يتكلم بما في نفسه ومشاعره، بدأت النفس الإنسانية تتكلم بمنطقها وتستعرض أفكارها، فوجدنا صبغة الكلام تختلف ووجهة النظر تتغير، تبدلت نغمة الخضوع والتسليم في كلامه ووجدنا نغمة الرثاء للذات تملأ أقواله، وعوضاً عن صبغة تمجيد الله التي صبغت أيام التجربة الأولى رأينا صبغة الشكوى من الله وتصويره كإله جبار يتسلط على حياة الإنسان بعنف غير مبرر، وبدل اشتياق الروح للاقتراب من محضر الله والتمتع بلمسته رأينا النفس تريد الابتعاد عنه حتى أنها تقول بجسارة غريبة: «كفّ عني..حتى متى لا تلتفت عني ولا ترخيني»!!

روح أيوب ترى الله إلهاً صالحاً ممجداً حين يعطي وحين يأخذ بينما نفسه التي تربَّت على أفكار العالم ترى الله إلهاً قاسياً ممتلئاً بالعنف والشدة، روح أيوب تشعر بالأمان في عين الله الساهرة عليها أما نفسه فتتمنى أن تلتفت عين الله بعيداً عنها وتتركها، روح أيوب تشعر بالامتنان والفخر لأنه عاش حياته في رفقة هذا الإله العظيم وتعترف انها اخذت منه الكثير من الخير، أما نفسه فتشعر بالمرارة الشديدة تجاه حياته وتتساءل لماذا أعطاه الله حياةً ولماذا لم يمت وهو بعد جنين في رحم أمه، وكلماته هذه تعني أنه لم يجد في حياته الطويلة مع الله يوماً واحداً يستحق أن يحياه، كما لو أن هذا الإله العظيم لم يضف لحياته أي شيء جميل يجعل الحياة تستحق أن تُعاش!! أليست هذه الكلمات مملوءة بحماقة شديدة وجحود ونكران جميل مفرطين؟! كيف يخرج من الإنسان الواحد ماءً عذباً منعشاً وماءً عكراً شديد المرارة، كيف تهدأ الروح وتسكت بينما تصر النفس أن تملأ الأجواء ضجيجاً وتنشر دخان الشكوى وضباب الجهل في كل مكان؟! لكن على كل حال هذا هو الإنسان في كل زمان ومكان، وإختبارنا اليوم لا يختلف في شيء عن إختبار هذا القديس الذي عاش في زمان قديم!(يتبع)