الاثنين، 18 ديسمبر 2023

أحاديث من القلب

 

 

سبعة أرواح الله (58)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الروح المعزى يشفع فينا في عدة اتجاهات، في اتجاه علاقتنا بالله هو يشفع فينا بأنات لا ينطق بها لكي يجعلنا نصلي بحسب مشيئة الله، وفي اتجاه حربنا مع إبليس هو يعلمنا كل الحق الذي به نفضح كل أكاذيب العدو، واليوم نضيف أن الروح يعيننا في اتجاه ثالث ألا وهو

الخدمه

قال رب المجد «ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب.. فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم» (مت 10 : 16 ـ 20) إن الروح الذي يصلي فينا أمام الله هو نفسه يتكلم فينا أمام الناس!!

لقد أرسل الرب تلاميذه برسالة الحياة إلى العالم أجمع، وكان عدم التكافؤ ظاهراً بين التلاميذ وبين الإرسالية المنوطة بهم، فمعظمهم كان عامياً محدود المعرفة لم يخرج تقريباً من قرى الجليل الفقيرة إلا إلى أورشليم في المواسم والأعياد ، كيف يستطيع هؤلاء البسطاء أن يكرزوا للعالم أجمع ويقفوا أمام مجامع وملوك ويحاجوا علماء الشريعة وأصحاب أفكار ومبادىء؟! إن القصور الذهني كان يمثل عائقاً كبيراً في سبيل إتمام هذه الإرسالية.

الروح يشفع في القصور الذهني

في يوم الخمسين وما تلاه نرى صورة رائعة لشفاعة الروح في القصور الذهني للتلاميذ، ونراه ينطق على أفواههم بكلمات المنطق والحجة التي كانت دائما تفحم سامعيهم وتؤثر فيهم وتخرس ألسنتهم !!

عندما ننظر إلى بطرس وهو يقف ليتكلم أمام الآلاف بكل سلطان وقوة نندهش بشدة إذ نراه يقتبس من النبوات القديمة، وتزداد دهشتنا عندما نراه يفسر النبوات ويطبقها على الأحداث الجارية كأنه خبير في دراسة النبوات و تفسيرها رغم كونه عامياً لم نسمعه يناقش الرب مرة في نبوة أو تفسير !!

والعجيب أن نوعية سامعيه كانت على النقيض منه، فمعظمهم كانوا يهودا أتقياء من كل أمة تحت السماء، ومن يتكبد مشقة السفر من أمة بعيدة لكي يسجد في أورشليم لابد أنه من الطبقة الراقية الغنية المتعلمة، الذين لا يقبلون بسهولة أي فكر ولا يخضعون بسذاجة لأي منطق.

ومع ذلك نجد كلمات بطرس حركت قلوبهم ونخستها، وأقنعت أذهانهم بأسلوب لا يقبل المجادلة، كيف حدث هذا ؟! إنها بلا شك شفاعة الروح القدس ومعونته، فبطرس ليس هو المتكلم ولا المفكر ولا المفسر بل بالحرى روح أبيه الذي فيه.

... والقصور الروحي !!

 قد يكون هناك أشخاص أذكياء بالطبيعة ومتعلمون وأصحاب فكر ومنطق، ولا تعوزهم القدرة على مقارعة الحجة بالحجة واقناع سامعيهم، أمثال بولس وأبولس واستفانوس.. هل هؤلاء ليسوا في حاجة لشفاعة الروح هذه ؟ حاشا، فالقصور الإنساني عن أداء خدمة إلهنا ليس فقط قصوراً ذهنياً بل هناك أيضا قصور روحي .

إننا روحيا لا نستطيع أن نستوعب كل أرواح الناس الذين نخدمهم، ولا يوجد خادم - مهما كان ذكياً . يستطيع أن يدرك أعماق واحتياجات الشعب الذي يخدمه بشكل كامل ودائم، إننا نتعامل مع الظاهر أما الأعماق فتخفي أشياء كثيرة، كيف إذا نستطيع أن نقدم لهم الحق ومن أي جانب ؟ كيف يمكن أن تكون كلماتنا كتفاح من ذهب في مصوغ من فضة؟ كيف تصل الكلمة المناسبة إلى المكان المناسب في الوقت المناسب؟ الإجابة تكمن في شفاعة الروح وحدها ، لأن الروح يعرف احتياجات الناس الحقيقية ويكشف أعماقهم المستورة ويستطيع أن يرسل إلى تلك الأعماق الكلمة المناسبة، حتى أذكى الخدام وأكثرهم فصاحة يحتاج أن يتكل على معونة الروح داخله ليعرف ماذا يقول وماذا يتكلم.

وقف بولس مرة أمام فيلكس الوالي لكي يحاج عن تهم نسبها إليه اليهود ولكننا نندهش إذ نجده يتكلم عن البر والتعفف والدينونة (أع 24 : 25)، ما علاقة البر والتعفف والدينونة بموضوع المحاكمة ؟! إنها بلا شك قيادة الروح القدس الذي يعرف الأعماق الحقيقية لفيلكس الوالي، لذلك لا غرابة أن نجد فيلكس يرتعب!! فالكلمات إذا خرجت من الأفواه فإنها تدغدغ الآذان، وإذا خرجت من الأذهان فقد تحرك الأفكار، أما إذا خرجت من الروح فإنها تزلزل الأعماق!! يتبع

 

 

 

أحاديث من القلب

 

 

سبعة أرواح الله (57)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الروح يشفع فينا في عدة مجالات، وأول هذه المجالات هو الصلاة، حيث أننا في أحيان كثيرة لا نعرف ما نصلي لأجله كما ينبغي ونحتاج لشفاعة الروح فينا بأنات لا ينطق بها ، عندئذ يتخطى الروح قصورنا عن فهم مشيئة الله واضعاً فينا الصلاة المرضية أمام إلهنا، واليوم نضيف أن الروح يشفع أيضا فينا في مجال ثان ألا وهو:

الحرب الروحية

إننا لا نعاني القصور تجاه مشيئة الله فقط بل أيضا تجاه حربنا مع إبليس والعالم، إننا نواجه عدواً شرساً يمتلك قدراً كبيراً من الذكاء والقدرة، إذا تركنا لأنفسنا في مواجهة هذا العدو فإنه بلا شك يبتلعنا أحياء، إن مكايده وحبائله المنصوبة في طريقنا تكفى لاقتناص أفضل المؤمنين وأكثرهم روحانية إذا تخلت عنه معونة الروح وشفاعته.

لكن نشكر الله أن الروح المبارك يقف في ثغرة حياتنا ويعيننا لكي نفهم فكر عدونا ونفضح أساليبه وننتصر عليه، إن الروح يعطينا أن نفهم فكر الله لكي نصلي كما ينبغي ويعطينا أن نفهم فكر إبليس لكي نحارب كما ينبغي، وإذا كانت وسيلته لفهم مشيئة الله هي الأنات غير المنطوقة فإن وسيلته لفهم فكر إبليس هي

معرفة الحق

 في خطاب الرب الوداعي لتلاميذه وبعد أن تكلم معهم عن ذهابه إلى الآب وعن الضيق الذي سيكون لهم في العالم بسبب مقاومة رئيس هذا العالم لهم، نراه يقدم لهم الوسيلة التي ستعطيهم القدرة على مواجهة كل هذه الصعاب والانتصار عليها، اسمعه يقول « وأما المعزى الروح الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء... متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلي جميع الحق» (يو 14 : 26 ، 16 : 13).

اذاً الوسيلة التي يعيننا بها الروح لمواجهة إبليس هي أنه يعلمنا كل الحق، إن سلاح إبليس هو الكذب لأنه الكذاب وأبو الكذب (يو8 : 44 حسب الترجمة التفسيرية) والإنسان يصدق الكذب في حالة عدم معرفته للحقيقة، إذ لا يوجد إنسان واحد عاقل يصدق الكذب وهو يعلم أنه كذب، أي أن إبليس يجد فرصته للسيطرة على حياة الإنسان طالما كان هذا الإنسان لا يعرف الحق، كل منطقة فينا تجهل حق الله هي منطقة قابلة لتصديق كذب إبليس، وبالتالي هي منطقة قابلة للسقوط أمام هجوم العدو والوقوع في قبضته وأسره ، أما إذا استطاع الروح أن يعلمنا كل الحق فإنه يحصننا من أكاذيب العدو فنستطيع أن نفضح أفكاره ولا نخضع لها، لذلك يقول رب المجـــــد : « وتعرفون الحق والحق يحرركم» ( يو8 : 32). إن الحق هو القوة المحررة من كل قيود الكذب التي يقيد إبليس بها الإنسان، إن التحرر من سلطان العدو لا يحتاج إلي عنف وصراخ وانفعال بل بالحرى يحتاج إلى إنارة الحق بقوة الروح في أعماق أرواحنا المأسورة!!

ترس و مجن حقه

 من (مز 91 : 4) نتعلم أن حق الله هو الترس والمجن اللذان بهما نستطيع أن نطفىء جميع سهام العدو الملتهبة، وأيضا في (أف 6 : 14) نجد الرسول بولس يضع الحق كأول قطعة في سلاح الله الكامل، ويشبه الحق بالمنطقة التي تحيط بجسد الجندي وتمنحه الصلابة في مواجهة عدوه.

جميع الحق

يستخدم الرب تعبيرات مثل «كل شيء » و «جميع الحق» ليؤكد لنا أننا ينبغي أن نتعلم الحق كله وليس بعض أجزائه، فالحق كل لا يتجزء، إن أي جزء مهدوم في سور المدينة يجعل السور غير كاف لحماية المدينة، وأي جزء ناقص في سلاح الجندي يجعله غير كفء للمعركة، ولذلك يقول الرب «جميع الحق» وليس جميع «الحقائق»، فالحق كتلة واحدة لا يمكننا قبول بعض أجزائه وترك الأخرى، إنه كيان حي، إنه طبيعة الله نفسه، لذلك قال يسوع «أنا هو... الحق»!!

بين الحق والحقائق !!

ما أبعد الفرق بين «الحق» الذي يغرسه الروح القدس في أعماقنـا وبيــن «الحقائق » التي قد نتعلمها بأذهاننا، إن مجرد المعرفة الذهنية للحقائق الكتابية لا تكفي للانتصار في الحرب الروحية، إننا نحتاج إلي الحق الحي الذي يغرسه الروح القدس في داخل أرواحنا، فكم من أصحاب المعرفة الذهنية سقطوا في فخاخ العدو وكان سقوطهم عظيماً !! (يتبع).

 

 

 

 

الاثنين، 4 ديسمبر 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (56)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن لنا شفاعة مزدوجة: الرب يسوع هو شفيعنا أمام الآب لأجل غفران الخطايا ، والروح القدس هو شفيعنا في داخل أرواحنا لأجل أن نعيش حياة مقدسة أمام الله، وشفاعة الروح تلك تظهر في أكثر من مجال، وأول هذه المجالات هو

الصلاة

الصلاة هي وسيلة شركتنا مع الله، ولكي تكون صلاتنا مؤثرة ومستجابة ينبغي أن تكون متوافقة مع مشيئة الله وقصده في حياتنا، فإذا كانت الصلاة الخارجة من قلوبنا متوافقة مع القصد الموجود في قلب الله فإنها تكون صلاة فعالة تحرك قلوبنا كما تحرك قلب الله!!

لكن المشكلة أن معرفة مشيئة الله والصلاة في اتجاهها ليست دائمة أمراً سهلاً، توجد مشيئة عامة لله وهي معلنة في الكتاب المقدس، مثل كونه يحب العالم كله ويريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، هذه المشيئة من السهل معرفتها والصلاة في اتجاهها بأذهاننا لأنها معلنة في كلمات واضحة للذهن، لكن هناك مشيئة خاصة بكل فرد منا وبكل يوم من أيام حياتنا ، مشيئة تخص التفاصيل الدقيقة في حياتنا، هذه المشيئة الخاصة لا نستطيع بسهولة أن ندركها بأذهاننا لأنه ما أبعد أفكار الله عن أفكارنا وطرقه عن طرقنا ، هذه المشيئة لا نستطيع أن نجدها في كلمات واضحة لأذهاننا لكن ينبغي أن نتعرف عليها كل يوم من خلال أرواحنا، هذه المشيئة الخاصة هي ما قصدها الرسول بقوله «لأننا لا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطــق بهــا » (رو 8 : 26)

بسبب القصور الإنساني نحن لا نعرف المشيئة التي نصلي لأجلها ، وإذا عرفناها لا نستطيع أن نصلي لأجلها «كما ينبغي»، أي لا نستطيع أن نعطى الصلاة حقها من المواظبة واللجاجة حتى تستجاب، ضعفنا البشري يضع فجوة بيننا وبين مشيئة الله، من يشفع في ضعفنا هذا ؟ من يعين قصورنا ونقصنا حتى نعرف مشيئة الله ونصلي لأجلها كما ينبغي؟

إنه شخص الروح وحده ! لأنه الوحيد الذي يعرف مشيئة الله الخاصة لكل منا ، لأنه الوحيد الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله (1كو 2 : 10) وهو الوحيد القادر أن ينقل هذه المشيئة لأرواحنا لكي نصلي لأجلها كما ينبغي.

وسائل الشفاعة

لأن هذه المشيئة الخاصة غير معلنة لأذهاننا لذلك يجد الروح صعوبة في استخدام ألسنتنا للنطق بكلمات مفهومة تعبيراً عن هذه المشيئة، لذلك فهو يلجأ لوسائل أخرى للتعبير عن هذه المشيئة، يقول عنها الرسول هنا: «أنات لا ينطق بها»، أي لا يمكن التعبير عنها بكلمات مفهومة، في هذا الوقت يشعر المؤمن بتحرك الروح بداخله ورغبة جارفة لرفع صلاة أمام الله رغم عدم وجود مادة مفهومة في ذهنه، مما يدفعه للتعبير عن هذا التحرك بأنات مكتومة وأحيانا بدموع وربما صرخات!!

هذه هي شفاعة الروح في أرواحنا، إنه يصلي في داخل أرواحنا بالنيابة عنا !! إنه يرفع لأجلنا طلبات بحسب مشيئة الله التي لا يعرفها إلا شخصه وحده !! وكل هذا دون أن يدرك الذهن أي شيء!! وتستمر هذه الأنات حتى نشعر براحة في أرواحنا ونتيقن أن صلاتنا قد استجيبت!!

وإذا سألنا كيف يستجيب الرب لصلاتنا رغم أننا لم ننطق بأي كلمات مفهومة يجيبنا الرسول: « إن الذي يفحص القلوب يعرف ما هو اهتمام الروح» (رو 8 : 27). إن الله لا يستمع لكلمات أفواهنا فقط بل بالحرى يفحص قلوبنا ويعرف ما يقصده الروح بأناته المكتومة تلك!!

شفاعة الروح تلك واجبة الاستجابة!! لا يمكن أن يرفضها الله، لماذا ؟ لأنـــــه « بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين »، إن شفاعة الروح هي بحسب مشيئة الله لنا، هناك توافق تام بين ما يطلبه الروح وما يريده الله، لذلك فالصلاة التي تستجاب فورأ هي الصلاة التي نرفعها بشفاعة الروح القدس.

هناك أيضأ موهبة التكلم بألسنة التي قد يستخدمها الروح لكي يشفع فينا بكلمات غير مفهومة لأذهاننا لكنها مفهومة أمام الله، في هذا الوقت يكون المؤمن متحدثاً «بأسرار» (۱كو 14 : 2) أى بأمور غير معلنة لذهنه هو نفسه، لكن فيما بعد وبعد أن تستجاب شفاعة الروح وتبدأ تتحقق في أرض الواقع عندئذ يبدأ الذهن يدرك ما كان الروح يصلى به، ولا يعود بعد «أسراراً، بل «معلنات »!!

إذا .. لا تطفئوا الروح !!

إذا كانت شفاعة الروح بهذه الأهمية وبدونها لا نستطيع أن نصلي كما ينبغي، إذا دعونا نخضع لقيادة الروح ونفسح له المجال لكي يشفع فينا، ونتعلم كيف نصغي لأناته ونتجاوب معها. (يتبع). |

 

السبت، 25 نوفمبر 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (55)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الصورة الرمزية للخمر تشير إلى شخص الروح القدس باعتباره «المعزى»، وقلنا إن أحد معاني «المعزي» هو الشخص الذي يهديء روعنا ويطمئن مشاعرنا ويمنحنا الراحة والمعونة والتشجيع، تماما كما يحتاج الطفل المضطرب إلى حضن أبويه لكي يهدأ ويطمئن بل يتغذى ويتعلم أيضا، واليوم نضيف أن «المعزى » لها معنى آخر، ألا وهو

الشفيع

نفس الكلمة اليونانية المترجمة «المعزي » في إنجيل يوحنا هي المترجمة «شفيع» في قول الرسول «إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار» (۱ يو 2 : 1) وهي تعني المحامي الذي يقف بجوار المتهم يدافع عنه ويعضده ويحاول اثبات براءته.

نفس المعنى تكلم عنه الرسول بولس في قوله « الروح أيضا يعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها ... لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين» (رو 8 : 26 ، 27).

إذاً أحد أعمال الروح القدس هو أنه شفيع فينا بحسب مشيئة الله، وهذه الشفاعة ضرورية جداً لحياتنا وبدونها لا نستطيع أن نرضي الله، ولكن للأسف فهذه الشفاعة محاطة بالكثير من الجهل والغموض، نحن نحب أن نسمع كثيراً عن شفاعة الرب يسوع لكن ما أقل ما نلتفت لشفاعة الروح القدس !! ولكي نفهم العلاقة بين شفاعة الرب وشفاعة الروح ينبغي أن نفهم أولا

قصد الله الكامل من الفداء

إن قصد الله من فدائنا لا يكمل بمجرد غفران خطايانا ورفع دينونتها عنا ، والرب يسوع لم يبذل حياته لكي يحمل عنا قصاص الخطية فحسب بل بالحرى لكي يمنحنا إمكانية الحياة المقدسة، يقول الرسول «أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف 5 : 25 ـ 27).

إذا فقصد الله الكامل من فدائنا ليس فقط أن تغفر خطايانا بل بالحرى أن لا نخطىء، أن نكون قديسين وبلا لوم، الخطية ينبغي أن تكون وضعا استثنائية شاذأ في حياة المؤمن لأن القداسة هي الوضع الطبيعي المستقر، لذلك يقول يوحنا « أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا ، وإن أخطأ أحد فلنا شفيع... » أي أن أمر الله المبدئي لنا هو أن لا نخطىء، ولكن إذا أخطأ أحد - استثنائياً - فلنا شفيع عند الآب هو الرب يسوع المسيح.

شفاعة الروح و شفاعة الرب

 الكتاب يعلمنا أن لنا شفيعين: أحدهما في السماء والآخر على الأرض. الأول يشفع «عنا » أمام عرش الآب والثاني يشفع «فينا » في داخل أرواحنا، إنهما الرب يسوع والروح القدس.

والحقيقة أننا في احتياج شديد لكلا الشفاعتين لأن لكل منهما مجالاً يختلف عن الآخر، فشفاعة الرب يسوع شفاعة قضائية بينما شفاعة الروح عملية حياتية، الرب يسوع يشفع عنا أمام قضاء الله وعدالته أما الروح فيشفع فينا أمام تحديات الواقع وصعوباته، شفاعة الرب تسعى لرفع القضاء عنا أما شفاعة الروح فتسعى لتقديس حياتنا.

في ضوء ما قلناه تواً عن قصد الله الكامل من فدائنا نقول: إننا نحتاج إلى شفاعة الروح داخلنا لكى لا نخطىء ونحتاج إلى شفاعة الرب عنا إذا أخطأنا !! الروح يعين «ضعفاتنا» أما الرب فيغفر «خطايانا » !! شفاعة الروح تعني أنه يقوينا ويساعدنا لكي نحيا حياة مقدسة مرضية عند الله، أما شفاعة الرب يسوع فتعني أنه يقدم أمام الآب ذبيحته الكاملة ودماءه الطاهرة ، تكفيراً عن حياتنا غير المقدسة، شفاعة الروح تصنع شيئا إيجابية في حياتنا أما شفاعة الرب فتغفر الشيء السلبي في حياتنا، شفاعة الروح تسعى لكي تأتي برضا الله على حياتنا أما شفاعة الرب فترفع غضبه عنها !!

الشفيع - والمشتكى !!

 هذه التعبيرات الكتابية مأخوذة من ساحات القضاء، فإذا كان الشفيع هو المحامي فإن المشتكي هو ممثل الادعاء!! المشتكي يسعى لكي يثبت الاتهام علينا والشفيع يسعى لتبرئة ساحتنا، وعمل إبليس كالمشتكي عمل مزدوج: فهو يسعى لاسقاطنا في الخطية عملياً ثم يصعد أمام عدالة الله مطالباً بالقصاص منا، لذلك نحن نحتاج إلى شفاعة مزدوجة أيضا : الروح يسعي لكي لا نسقط عملياً في الخطية وإذا سقطنا فشفاعة الرب أمام الآب ترفع عنا القصاص، وللحديث بقية.

 

 

الاثنين، 20 نوفمبر 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (54)

بقلم : فخري كرم

المؤمن يحتاج إلى تعزية الروح القدس التي تعطي دفئاً للمشاعر، والتي تشبه في بعض جوانبها مشاعر الأبوة الحميمة، المشاعر التي تربي وتحمي وتسدد الاحتياج، واليوم نضيف أن تعزية الروح تشبه في جوانب أخرى : .

حضن الأم

يقول الرب « هأنذا أدير عليها سلاماً  كنهر ومجد الأمم كسيل جارف فترضعون وعلى الأيدي تحملون وعلى الركبتين تدللون، كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا » (إش 66 : 12 ، 13) هنا يشبه الرب تعزيته لشعبه بتعزية الأم - وليس الأب - لطفلها، لماذا؟ لأن حضن الأم يمتاز بعدة مميزات:

الحنان

الحنان هو المحبة المجردة دون انتظار لأي مقابل أو رد فعل، فإذا قلنا إن حضن الأب يشمل دائماً التعليم والتأديب فإن حضن الأم يعني دفئاً وحناناً دون أن يتكلم أو يقدم النصائح.

في أحيان كثيرة يحتاج الإنسان لمشاعر الحنان هذه، وبالأكثر في أوقات الخطأ وجرح المشاعر حين يكون الإنسان في وضع لا يريد فيه أن يسمع نصائح أو ينال تعليماً أو يتعرض لتوبيخ، إنه يحتاج إلى محبة فقط، محبة تضمد جراحه و تعيد كرامته، محبة لا تذكره بخطئه ولا تنبش في جرحه بل ترفعه فوقهما.

فيما بعد وبعد أن يهدأ روعه وتطيب جراحه قد يكون من الضروري أن يضمه حضن آخر، حضن أبوي يمزج المحبة بالتعليم والنصح والتقويم، لكن لأول وهلة يحتاج الإنسان المجروح أن يرتمي في حضن الأم.

لذلك يشبه الرب معاملاته مع شعبه في هذا الجزء بمحبة الأم وليس الأب، لأن الشعب كان راجعاً من أوضاع مزرية وأخطاء متكررة أطاحت به بعيداً عن مرضاة الله لسنوات طويلة، ولقد نال من قصاص الله ما أبلى لحمهم وجفف عظامهم، وصار الشعب إلى حال لم يعد يقوى فيه على احتمال المزيد من اللوم ولا يستطيع الخضوع لمزيد من التأديب، لذلك يعدهم الرب بسلام كنهر ومجد كسيل جارف، ولا يذكر حتى خطاياهم وتعدياتهم فيما بعد، فتفرح قلوبهم المكسورة وتزهو عظامهم المسحوقة، وما أشبه هذه المحبة بمحبة الأم!!

التدليل

 التدليل هو المحبة الزائدة عن الحاجة!! المحبة في وقت الألم والاحتياج ليست تدليلا بل ضرورة ، أما بعد أن تشفي المحبة جراحنا وتسدد احتياجنا فإن استمرارها بعد ذلك يصبح « تدليلاً»، عندما يكون الطفل مشبعاً في نفسه وجسده ثم يجد مزيدا من المحبة تتدفق نحوه عندئذ يشعر بمشاعر جديدة هي مشاعر «الدلال »!! حيث يشعر بأنه محبوب ليس فقط لأنه محتاج للمحبة بل لأنه موضوع للمحبة وهدف لها في حد ذاته حتى لو لم يكن محتاجاً.

وهذا ما فعله الرب مع شعبه وما يفعله دائما ، فهو لا يعطى سلاماً قدر الحاجة بل سلاماً فائضاً كنهر، ومجده ليس بحسب الاحتياج بل كسيل جارف، إنه دائما يكيل في أحضاننا کیلاً ملآناً و مهزوزاً وفائضاً، وكثيرا ما أعطانا أكثر كثيرا مما نطلب أو نفتكر، وكثيرا ما أعطانا في وقت لم نكن نشعر فيه بالاحتياج الملح، هذه المحبة المدللة هي أقرب لمحبة الأم.

الرضاعة

بالنسبة للرضيع حضن الأم ليس حنانا ودلالاً فقط بل أيضا غذاء وشبعاً، وما أعظم لبن الأم المقترن بحنان حضنها، إنه أكسير الحياة وضرورة للنمو السليم، إنه غذاء سهل الهضم وكاف في قيمته الغذائية في أثناء شهور الطفل الأولى.

والرب كثيرا ما تعامل معنا بهذه النوعية البسيطة من التعزية، بالذات في بدايات حياتنا الروحية، حيث كان يمزج محبته وحنانه بكلمات بسيطة مشجعة للنفس يقول عنها الرسول «سقيتكم لبناً لا طعاماً لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون » (1كو 3 : 2).

لذلك يقول الرب لشعبه الراجع أنهم « سيرضعون» أي أنه سيتكلم معهم كلاماً بسيطاً مغذياً ومشبعاً للنفس ولن يثقل كاهلهم بكلمات وتعاليم ثقيلة. ما أشبه تعزية الروح في أوقات رجوعنا الأولى بحضن الأم الذي يرضع!!

ولكن إذا كانت مشاعر الأبوة والأمومة التي غرسها الرب في نفوس البشر ما هي إلا قبسأ من مشاعره هو له المجد إلا أن محبته تبقى أعظم بما لا يقاس ، فمحبة الأب والأم كثيراً ما تشوبها النقائص والسلبيات وفي أفضل أحوالها لا تبلغ الكمال، فكم جرحت قسوة الآباء الأبناء، وكم أفسد الحنان والدلال نفوس الأبناء بدلا من تقويتها، ولذلك يقول الكتاب أن آباء أجسادنا أدبونا « حسب استحسانهم» وأن الأم قد تنسى رضيعها ولا ترحم ابن بطنها، أما تعزية الروح فهي تبقى أعظم وأكمل (يتبع).

 

الجمعة، 3 نوفمبر 2023

أحاديث من القلب


سبعة أرواح الله (53)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الصورة الرمزية للخمر تشير إلى شخص الروح القدس بصفته روح التعزية والفرح . والحق أن هذا الجانب من شخص الروح في غاية الأهمية لحياتنا ، فمن منا لا يحتاج بين الحين والآخر إلى لمسات تعزية وتشجيع ، وسط ضغوط الحياة ومسئولياتها . هناك لحظات راحة يمنحها روح التعزية وبدونها لا نستطيع أن نكمل المسيرة ، فالإنسان لا يستطيع أن يظل تحت المسئولية كل الوقت، لابد من وقت يستريح فيه ويشعر أن آخر يحمل مسئوليته!! يشعر أن هناك إله يكتنفه ويهتم به ويحميه!! هذا هو إحساس التعزية الذي لا غنى لنا عنه ، إننا مراراً كثيرة نحتاج إلى موضع خلاء لنستريح قليلا !!

وهناك معان كثيرة لكلمة «المعزى» التي أطلقها الرب على شخص الروح القدس، من ضمن هذه المعاني أنه

يعطى دفئًا للمشاعر

الطفل الصغير لكي ينمو نموا سليماً جسدياً ونفسياً لا يحتاج فقط للنصائح والتعليمات الجافة لكنه يحتاج أيضا إلى حضن أب واع وأم حنون، حضن يمنحه لحظات من الدفء تسكن اضطرابه وتهديء روعه، حضن يخرج منه وهو أكثر قدرة على مواجهة مسئوليات الحياة، حضن يجدد قواه وينعش نفسه.

ونحن أيضا لكي ننمو روحياً لا نحتاج فقط إلى التعاليم والوصايا بل نحتاج أيضا لأحضان روح التعزية المبارك، إنه يعطى للنفس حضناً ودفئاً للمشاعر، وهذا الحضن يشبه.

حضن الأب

يقول الكتاب «كما يتراءف الأب على البنين يتراءف الرب على خائفيه» (مز103 : 13) هناك لحظات نحتاج فيها أن ينقل لنا الروح مشاعر «الترأف هذه، إننا لا نستطيع أن نرى الله الخالق والسيد والديان فقط، لابد أن نراه أيضا أب يتراءف علينا، إننا لا نستطيع أن نعيش تحت المسئولية كل الوقت لكن هناك لحظات فيها تضعف قوانا ورغما عنا تتعثر خطانا، وتخذلنا حكمتنا وتقصر قدرتنا عن مواصلة السعي، وعندئذ نحتاج أن يكتنفنا روح التعزية بمشاعر الأب الذي يتراءف علينا ويحبنا رغم كل ضعفنا ، الأب الذي لا يقبل أن يحملنا أكثر من طاقتنا ، الأب الذي يعرف جبلتنا ويذكر أننا تراب نحن، الأب الذي يغفر وينسى و يجدد فينا القوة والرغبة في مواصلة السعي، من منا لا يحتاج إلى هذه المشاعر بل من منا لم يحتاجها فعلا مرات عديدة ، لذلك كان اسم «الآب» هو الإعلان المميز الذي أتى به رب المجد عن شخص الله. والواقع أن حضن الأب يتميز بأنه حضن :

يعلم

« أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه » (مت 6 : 8) حضن الأب هو حضن واع، لا يمنح دفئاً كاذباً يغيب الذهن عن الوعي والواقع، بل هو حضن « يعلم» كل احتياجاتنا ويسر بأن يسددها بحسب غناه في المجد.

كم من أحضان ووسائل أخرى يلجأ إليها الإنسان لكي يهرب من احتياجاته لكنه يعود أكثر جوعاً وعوزاً، لأنها أحضان لا «تعلم» ما نحتاج إليه !!

يربي

يقول الكتاب «ربيت بنين ونشأتهم» ( إش1 : 2) حضن الأب لا يعطى دفئاً للمشاعر فقط بل بواسطة هذه المشاعر يغرس حقه في داخل نفوسنا ، إنه يعطى تعزية ممزوجة بالحق، الأب الصالح هو الذي يعرف أن يمزج تعليمه مع رأفته حتى تصل التعاليم بسلامة وهدوء أعماق نفس الابن وتنغرس هناك. إن أثقل التعاليم والمسئوليات إذا قيلت في حضن دافيء تصير خفيفة وسهلة!! ألم يقل يوحنا «وصاياه ليست ثقيلة» ؟ ولماذا قال هذا ؟ لأنه كان دائما يتكيء في حضن يسوع!!

الخمر قد تعطى دفئاً مؤقتاً للمشاعر لكنها في ذات الوقت تجرد الإنسان من كرامته وتنحدر بأخلاقه إلى الحضيض، أما تعزية الروح فهي مثل حضن الأب الذي يترأف و يربي في ذات الوقت.

يحمي

يحتاج الطفل أن يرتمي في حضن أبيه حين يستشعر الخطر المحيط به، ومن مثل الأب يمنح الحماية لأبنائه حتى أنه يقول «من يمسكم يمس حدقة عينه» (زك ۸:۲) كثيرا ما بسط روح التعزية جناحيه حولنا وحجب عنا الشر الآتي علينا، وكثيرا ما رتب لنا مائدة تجاه مضايقينا !! (يتبع).

الخميس، 26 أكتوبر 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (52)

بقلم : فخري كرم

بعدما تكلمنا عن خمسة صور رمزية للروح هي الحمامة والنار والمياه والريح والزيت، وعرفنا أن كلا منها تشير إلى عمل خاص للروح القدس، نبدأ اليوم حديثنا عن الصورة السادسة للروح ألا وهي:

الخمر

كانت الخمر من ضرورات الحياة في إسرائيل حتى أن أبسط طعام يتناوله الإسرائيلي كان الخبز والخمر (تك 14 : 18 ، قض 19 : 19 ) لذلك كانت وفرة الخمر عنوانا لبركة الله (تك 27 : 28 ، عا 9 : 13) كما أن قلتها كانت عنوانا لغضبه (إش 62 : 8 ) وكانت الخمر أيضا تستخدم لعلاج بعض الأمراض (۲صم 16 : 2 ، لو 10 : 34 ، 1تي 5 : 23 ) وأهم فوائد الخمر أنها كانت تستخدم في العبادة كسكيب مقدس على الذبائح (لا 23 : 13) ولذلك كان في الهيكل مخزون للخمر (1 أخ 9 : 29 ).

وفي العهد الجديد رأينا الوحي يقرن بين عمل الروح وتأثير الخمر في الإنسان، ففي يوم الخمسين ظهرت على التلاميذ مظاهر غريبة من الفرح والابتهاج جعلت الناس يظنون أن التلاميذ سكارى (أع 2 : 15 ) وفي (أف 5 : 18) يقول الرسول «لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح». .

ولكي نفهم هذه المقارنة بين الخمر والروح ينبغي أن نفهم تأثير الخمر على شاربها، إن الخمر إذا أستخدمت بمقدار معقول تسبب شعور الإنسان بالفرح وطيب القلب ودفء المشاعر (مز 104 : 15 ، جا 9 : 7 ، 10 : 19) وعندئذ يشعر الإنسان أنه قوي ومنتصر على همومه ولا يذكر أحزانه بعد (أم 31 : 7) وعلى ذلك نستطيع أن نفهم أن صورة الخمر وارتباطها بعمل الروح إنما هو إشارة للروح القدس باعتباره

روح التعزية والفرح

تكلم الرب كثيرا عن شخص الروح المبارك باعتباره «المعزى» (يو 14 : 16) والتي تعني «المعين » و «المشجع» و «المقوى »، إن الروح القدس له عمل في قلب المؤمن يشبه عمل الخمر في قلب الإنسان، فإذا كانت الخمر تبهج شاربها وتجعله يرتفع فوق همومه وأحزانه فإن الروح له ذات التأثير وإن كانت طريقة العمل مختلفه !!

الخمر ترفع صاحبها فوق أحزانه بواسطة «النسيان»، حيث تجعله ينسى بشكل مؤقت أحزانه مما يعطى لمشاعره انتعاشاً مؤقتاً وفرحاً وقتياً، وعندما ينتهي تأثير الخمر يعود شاربها إلى أرض الواقع ليجد أن كل شيء على ما هو عليه وأحزانه باقية كما هي، مما قد يدفعه لمزيد من الشراب ليتحول الأمر إلى سكر وإدمان ورغبة في الغياب عن الوعي والهروب من الواقع.

أما الروح القدس فهو يرفع الإنسان فوق مشاكله وأحزانه بواسطة مواهب روحية حقيقية وعطايا وبركات واقعية وإعلانات إلهية عما هو مذخر له في السماوات، كل هذا يرفع المؤمن وينعش روحه ويقويه لمواصلة السعي في هذه البرية واحتمال الآلام والمضايقات التي تواجهه، وهو في هذا ليس غائباً عن الوعى أو هارباً من الواقع بل مرتفعاً فوقه ومنتصراً عليه بوسائط حقيقية ومؤكدة.

إن شارب الخمر يحلق برأسه فوق السحاب وترتفع أقدامه من فوق الأرض ليهرب من الواقع بواسطة أجنحة الوهم والخيال، ولكنه عندما يفيق من الخمر لا تستطيع هذه الأجنحة الهشة أن تحمله فيما بعد، فيهوى بكل ثقله إلى الأرض متحطماً !! أما المؤمن الممتلىء بروح التعزية فترتفع هامته فوق السحاب وتنظر عيناه إلى ما فوق الغيوم ولكن أقدامه تظل تسير على الأرض لا ترتفع فوقها . لذلك فهو دائما في مأمن من السقوط والتحطيم!!

الكرمة الحقيقية

قال الرب عن نفسه أنه هو الكرمة الحقيقية ونحن الأغصان في هذه الكرمة، إشارة إلى كونه له المجد هو المصدر للفرح والتعزية الحقيقية في هذا العالم مقارنة مع الكروم الأخرى التي تعطي للإنسان فرحة مؤقتة وتعزية زائلة، لذلك فلا عجب أن أول ثمار الروح التي ينبغي أن نحملها نحن الأغصان هو الفرح (غلا 5 : 22).

كلمة لابد منها !!

نريد أن نؤكد هنا أنه رغم بعض الفوائد التي للخمر إلا أن الكتاب ينهى تماما عن سوء استخدامها وتحويلها إلى مادة للسكر والإدمان، والآيات التي تؤكد هذا لا حصر لها في العهدين القديم والجديد ( أم 20 : 1 ، 23 : 29 ـ 35 ، 1كو 5 : 11 ، 1بط 4 : 3 ) وكم أفسدت الخمر حياة رجال كثيرين مثل نوح ولوط، وللحديث بقية


الخميس، 19 أكتوبر 2023

أحاديث من القلب


سبعة أرواح الله (51)

بقلم : فخري كرم

قلنا إن الكنيسة ينبغي أن تشارك الرب في مسحته الكاملة الأبدية الفائضة، فالكنيسة مسئولة أن تعلن ملك الرب على النفوس في هذا الزمان الحاضر، وهي مسئولة أيضا أن تدخل إلى الأقداس في كل حين لكي تشفع في الجميع، إننا نشارك الرب في مسحة الملك والكهنوت التي مسح بها شخصه الكريم مرة واحدة وإلى الأبد، واليوم نختتم حديثنا عن روح المسحة المبارك بالقول إننا أيضا نشارك الرب في مسحة النبوة.

النبي الكامل

كان ربنا هو «النبي» الآتي إلى العالم، النبي الكامل الذي حمل إلينا ليس مجرد حق من الله مثل باقي الأنبياء بل حمل إلينا «الحق» الكامل الذي رآه في أبيه، ولم ينقله لنا بكلماته فحسب بل كان هو بنفسه «الحق» المتجسد كاملا غير منقوص، حتى أن كل من رآه فقد رأى الآب.

حمل إلينا حقا كاملاً عن الله والإنسان، حقا كاملاً عن العالم والشيطان، حقا كاملاً عن الحياة والخلود ، حقاً كاملاً عن السماء والجحيم، كانت مسحة النبوة المنسكبة على شخصه مسحة كاملة وشاملة.

لكن من الناحية الأخرى نحن نحتاج أن تظل تعاليم الرب وحياته ماثلة للأذهان مسموعة للآذان مؤثرة في الوجدان على مر العصور والأزمان، وهنا تأتي مسئولية الكنيسة من خلال خدمة

الأنبياء

وضع الروح القدس في الكنيسة مواهب تأسيسية من ضمنها «الأنبياء» (أف4 : 11)، وهم يأتوا في المرتبة الثانية بعد الرسل مباشرة، هؤلاء الأنبياء هم المسئولون في الكنيسة عن جعل فكر الله واضحاً للشعب على الدوام، وقيادة الشعب للسلوك بحسب هذا الفكر، وذلك من خلال كلمات هؤلاء الأنبياء وسلوكهم وسط الكنيسة، إن كنيسة بدون أنبياء هي كنيسة بلا رؤية لفكر الله الخاص بها، وبلا رؤية يجمح الشعب.

وما نريد أن نؤكد عليه الآن هو أن هؤلاء الأنبياء ليس لهم مسحة نبوة جديدة مستقلة عن مسحة ربنا له المجد، بل أن مسحة النبوة التي لهم ليست سوى قطرة من فيض مسحة ربنا، أي أن كل ما يمكن أن يأخذوه من معرفة لفكر الله ليس سوى جزء مما سبق ربنا وأعلنه في أثناء حياته، هؤلاء الأنبياء لا يأخذون إعلاناً جديداً عن أي شيء، بل لا يوجد في كل تاريخ الكنيسة ما يمكن أن يسمي إعلاناً جديداً ، لأن رب المجد قد نقل إلينا كل الحق مرة واحدة وإلى الأبد، ولن يوجد إعلان بعد إعلانه له المجد، لكن سيظل هناك إعلانات جزئية ضمن الإعلان الكبير، إعلانات تسلط الضوء على كلمات الرب وتشرحها وتظهر خفاياها وتجعلها حية في أذهان الناس قابلة للتطبيق في كل عصر وتحت كل ظرف.

الحق واحد والاعلانات متعددة

عندما أتى الرب في جيله حمل لهم فكر الله بوسائل وكلمات وأمثلة تناسب ثقافة ذلك العصر وعاداته، ورغم أن مضمون هذا الحق سيبقى ثابتاً لا يعتريه أدنى تغيير إلا أنه يحتاج في كل عصر إلى أنبياء يحملونه إلى أبناء جيلهم بكلمات ووسائل تناسب تطور ثقافات الشعوب وأساليب حياتها.

إن كل بلد تحتاج إلى أنبياء يحملون فكر الله إلى بلدهم بما يتناسب مع ثقافتها الخاصة وتاريخها، بل أن كل كنيسة في داخل البلد الواحد تحتاج إلى أنبياء يحملون لها فكر الله الخاص بها والمتناسب مع ظروفها ومشاكلها.

لقد استخدم الرب بولس كنبي للأمم يخاطبهم بلغتهم وبثقافتهم حاملا إليهم فكر الله الكامل، كما استخدم بطرس كإناء يحمل ذات الفكر إلى اليهود ، إن جوهر الإعلان سيظل واحداً لكن أواني الأنبياء ستتعدد بما يتناسب مع تعدد واختلاف الظروف والأماكن.

إن مهمة الأنبياء أساسية جدا لكي يظل الإعلان الكامل الذي أتى به ربنا حيا ساري المفعول في كل أنحاء المسكونة، لأنه في غياب هذا الإعلان الحق عانت الكنيسة كثيراً ومازالت تعاني من أنبياء و «نبيات » كذبة حملوا إعلانات بعيدة عن الحق سببت الكثير من الضلال والإنقسام !!

آه يا روح المسحة المبارك !! ليتك ترسل إلينا قطرات من مسحة النبوة التي انسكبت على رأس سيدنا في ملء الزمان، لننقل إلى كنائسنا وشعوبنا فكر الله الحقيقي بقوة وسلطان، ولكي تعود كلمات ربنا يسوع المسيح تكتسب سلطانها على أذهان الجيل الحاضر الذي نعيش فيه (يتبع).

 


الجمعة، 29 سبتمبر 2023

أحاديث من القلب


سبعة أرواح الله (50)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن مسحة الروح لربنا يسوع الملك والكاهن والنبي كانت مسحة كاملة وأبدية، وهي أيضا مسحة فائضة تنزل من الرأس إلى كل أعضاء جسده ، حيث صرنا شركاء للرب في هذه المسحة حتى أن الكتاب يدعونا ملوكاً وكهنة وأنبياء، واليوم نقول إن اشتراكنا في هذه المسحة ليس من قبيل الامتياز بقدر ما هو مسئولية جسيمة.

الرأس يعمل بواسطة الجسد

إن روح المسحة الذي فاض على شخص ربنا وملأه إلى كل ملء الله يتحرك اليوم في الكنيسة ليعطي لأفرادها أن يشاركوا في ذات المسحة، وذلك تأكيدا لحقيقة في غاية الأهمية وهي أن عمل مسحة ربنا يتم اليوم في العالم من خلال جسده الذي هو الكنيسة، فالرسول يقول عن الكنيسة إنها ملء - كمال أو تتميم - الذي يملأ الكل في الكل (أف 1 : 23 ) أي أن الكنيسة هي أذرع الرب وأرجله وعيونه التي تجول في هذا العالم، أن مسحة الرب الكاملة ووظائفه السامية تؤثر في العالم الحاضر من خلال المؤمنين الذين يحمل كل منهم جزء من هذه المسحة، وبدون عمل الكنيسة في إظهار وإعلان هذه المسحة تظل كمالات الرب هذه خافية عن العيون بعيدة عن متناول العالم الهالك المحتاج بشدة إلى ملك الرب وكهنوته وتعليمه، إننا نؤكد ونكرر أن المؤمنين لا ينالون مسحات جديدة خاصة بهم بعيدا عن مسحة ربنا له المجد، لكنهم فقط يشاركون في إظهار مسحة الرب الكاملة للعالم الحاضر.

كيف نشارك في مسحة الملكوت ؟

ملك الرب في هذا الزمان الحاضر هو ملك روحي على قلوب المؤمنين، أما ملكه في الزمان الآتي فهو ملك روحي ومادي على كل الأرض، والمؤمنون يشاركون الرب ملكه سواء الروحي حالياً أو المادي مستقبلا (لو 19 : 17 ، رؤ 5 : 10 ) إننا نشارك في ملك الرب عندما نقدمه إلى النفوس رباً ومخلصاً، وبمساعدة هذه النفوس لكي تنخرط تحت ملكه الروحي، ونهيىء لها المعونة والظروف المواتية لكي تلتصق بهذا الرأس الملك وتخضع له.

مع كل نفس تأتي بها إلى ملكوت الله نحن نؤيد ملكوت ربنا ونثبته في هذه الأرض، لقد كان الروح في الأيام الأولى يضم إلى الكنيسة في كل يوم الذين يخلصون، وهذا العمل كان يتم من خلال خدمة التلاميذ والرسل في وسط العالم، أن الروح لا يضم الناس إلى الرب بدون عمل المؤمنين، إذ كيف يسمعون بلا كارز ؟!

هناك من يضم النفوس إلى نفسه ويضعهم تحت سلطانه، وهناك من يضم الناس إلى كنيسته ليزيد عددها وتفتخر على باقي الكنائس !! لكن المؤمن الممسوح بمسحة الملكوت يسعى ليضم النفوس إلى الرب فقط، ويعمل على أن يكون للرب السلطان الكامل على هذه النفوس دون أن يطلب لنفسه ولو قدراً ضئيلاً من طاعة هذه النفوس وخضوعها.

وكيف نشارك في الكهنوت ؟

لقد فتح رئيس كهنتنا العظيم الطريق إلى الأقداس بدم نفسه فوجد لنا فداءً أبدياً، لكن هذا الفداء الأبدي في حاجة لمن ينقله إلى الناس، العالم البائس يرزح تحت خطاياه دون أن يعلم أن له فداءً أبدياً، من يأخذ بأيدي الناس ويدخل بهم إلى ما وراء الحجاب المشقوق ليجدوا هم أيضا رحمة ونعمة عونا في حينه؟ إن الكنيسة ينبغي أن ترفع صلوات لأجل العالم حتى يعرف الله، ينبغي أن تقف أمام الله لأجل الإنسان وتقف أمام الإنسان لأجل الله حتى يلتقيا.

وهنا نقول إن الكنيسة لا تشفع في الناس على أساس بر فيها ، كلا، بل هي تشفع على أساس شفاعة الرب الكاملة وعمله الكامل الذي عمله على الصليب، إن شفاعة الكنيسة هي على أساس ذبيحة المسيح الكاملة المقدمة أمام الله مرة وإلى الأبد، إن الكنيسة ليس لها مسحة كهنوت خاصة بها بل هي فقط تعلن كهنوت المسيح وتظهره للناس ليظل معلن في كل الأجيال ويلمسه كل إنسان.

طلب الرسول من المؤمنين أن يصلوا دائما لأجل كل إنسان وكل شيء في كل وقت، وهو نفسه كان يحني ركبتيه دائما بصلوات وتضرعات لأجل كل المؤمنين. إن لنا بابا مفتوحاً لا يستطيع أحد أن يغلقه ولنا فداءً أبدياً وجده لنا ربنا المعبود، وإذا لم ندخل في كل حين إلى ما وراء الحجاب لأجل أنفسنا ولأجل الآخرين فإننا نكون مجرمين في حق أنفسنا وحق الآخرين (يتبع).

 

الاثنين، 18 سبتمبر 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (49)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن الروح القدس هو روح «المسحة» أي أنه المسئول عن تكريس وتقديس وفرز الإنسان لأداء مهام محددة، ولقد رأينا هذه المسحة تتم بشكل رمزي وجزئي في العهد القديم من خلال مسحة الزيت المقدس للملوك والكهنة والأنبياء، ورأينا أيضا كيف أن كل هذه المسحات قد اجتمعت واكتملت في شخص واحد هو شخص ربنا يسوع المسيح، حيث حل الروح القدس عليه بكل ملئه جاعلا إياه «المسيح» المعيّن من الله ملكاً وكاهناً ونبياً إلى الأبد ، وهذه المسحة أبدية أي أنها لن تتكرر مع أي إنسان آخر، لأن ربنا المعبود ملأ ويملأ وسيملأ هذه المراكز بشكل كامل لا يحتاج إلى إضافة، قد يشهد العالم « مسحاء» كثيرين لكنهم مسحاء كذبة (مت 24 : 24 ). والآن وقد رأينا هذه المسحة في العهد القديم ورأيناها في حياة ربنا له المجد ، ماذا عنا نحن؟ ما علاقتنا نحن في العهد الجديد بروح المسحة المبارك؟ وهنا نقول: وإن كانت مسحة الروح لربنا لن تتكرر مرة أخرى مع أي إنسان آخر إلا أن أصغر مؤمن في كنيسة المسيح له نصيب في هذه المسحة، إن المؤمن لا يمسح من الروح مسحة جديدة لأن كل المسحات اكتملت في شخص ربنا المعبود، ولكنه ينال نصيبا من مسحة ربنا نفسه، لأن مسحة الروح ليسوع كانت أيضا:

مسحة فائضة

         « هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معا، مثل الدهن (المسحة) الطيب على الرأس، النازل على اللحية، لحية هرون ، النازل إلى طرف ثيابه» (مز ۱۳۳ : 1 ، 2 ).

عندما يجتمع الإخوة معا ينالون بركة ومسحة الروح، لكن هذه المسحة ليست خاصة ومستقلة لكل واحد منهم بل هي ذاتها المسحة التي انسكبت على «الرأس » بفيض حتى أنها انسابت إلى اللحية ثم إلى كل أطراف ثيابه، ومن هو «الرأس » العظيم الذى انسكبت عليه المسحة بهذا الفيض ؟ من هو رئيس الكهنة الحقيقي الذي كان هرون مجرد رمز له؟ إنه ربنا يسوع المسيح.

إن كل عضو في جسد المسيح له حق التمتع بذات المسحة التي انسكبت بفيض على شخص ربنا ، إن لنا نصيبا في كل مسحات الروح التي تكلمنا عنها، لكن هذا النصيب لا نناله إلا من

خلال شركتنا والتصاقنا بالرأس، وكلما اقتربنا من الرأس كلما كان نصيبنا من هذه المسحات أكبر !! إننا لا نستطيع أن نأخذ مسحات من الروح بالاستقلال عن يسوع لأن الروح قد أعطى كل ملئه ليسوع ونحن نستطيع فقط أن نكون مملوئين «فيه» ( كو 2 : 9 ، 10 ) إنه وحده المملوء نعمة وحقا ونحن لنا الحق أن نأخذ «من ملئه » نعمة فوق نعمة (يو 1 : 14 ، 16 )

 يؤكد الكتاب هذه الحقيقة العجيبة وهي أن كل المسحات التي أخذها رب المجد يسوع قد أعطانا الحق في التمتع بها ، أي أننا يمكن أن نكون:

ملوكاً وكهنة !!

يؤكد لنا الرسول بطرس أننا «كهنوت ملوکی» (۱بط 2 : 9 ) أي أننا نتمتع بمسحة الكهنوت والملك في وقت واحد، ونحن نعلم أن الجمع بين هاتين المسحتين لم يكن ممكنا في العهد القديم ولم يجتمعا إلا في شخص ربنا يسوع، أي أن مسحتنا هي من ذات طبيعة مسحة ربنا المعبود !!

ويوحنا في مقدمة سفر الرؤيا يخاطب المؤمنين البسطاء الموجودين في السبع كنائس التي في آسيا قائلا عن شخص ربنا يسوع المسيح: « الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه» (رؤ1 : 5 ، 6 ) وفي نفس السفر نسمع الكنيسة المنتصرة وهي تنشد « وجعلتنا لإلهنا ملوكة وكهنة فسنملك على الأرض » ( رؤ 5 : 10 ) .

.. وأنبياء أيضأ !!

يقول الرسول بولس عن شخص ربنا الذي نزل هو الذي صعد أيضا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل، وهو أعطى البعض أن يكونوا ... أنبياء» (أف 4 : 10 ، 11 ) هذه الكلمات تؤكد ما قلناه وهو أن الرب يسوع هو الذي يملأ الكل بمسحته الفائضة وأنه لا توجد مسحات جديدة، والرسول يحث كل المؤمنين أن ينالوا نصيبا من هذه المسحات المباركة التي في شخص المسيح وبالذات مسحة النبوة (1كو 14 : 1 )، وللحديث بقية.

 

الأحد، 10 سبتمبر 2023

احاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (48)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن النبي هو الشخص الذي يقترب من الله ليعرف فكره الخاص بشعبه في وقت محدد من التاريخ، ثم يقترب من الشعب لينقل إليهم هذا الفكر وقد يستطيع أن يقودهم أيضا لتحقيق هذا الفكر، ولقد ظل موسى هو النموذج الكامل للنبي في عيون بني إسرائيل والقمة التي لم يدنو منها أى نبي آخر في تاريخهم، حتى جاء يسوع إلى العالم، وكما مسحه الله بمسحة الملك والكهنوت نراه أيضا يمسحه

مسحة النبوة

          « روح السيد الرب على لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسرى القلب لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالاطلاق، لأنادي بسنة مقبولة للرب (إش 61 : 1 ، 2 ) . في بداية خدمة الرب العلانية نراه في مجمع الناصرة يقرأ هذه الآيات ويؤكد أنها قد تمت في شخصه، إنه هو النبي الذي مسح لكي ينقل فكر الله هذا إلى الشعب، ويا له من فكر جميل!! لقد كان فكر الله تجاه شعبه هو فكر الشفاء والعتق والقبول في وقت كان الشعب في حضيض الضعف والهوان والموت!! كان يسوع هو المسئول عن نقل هذا الفكر إلى الشعب ليس فقط بكلامه بل أيضأ بحياته التي جال فيها يصنع خيرأ ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس.

من هذه الزاوية كان الرب «مثل» موسى، الذي أيضا جاء إلى الشعب في وقت كانوا في حضيض العبودية والذل والهوان لينقل لهم فكر الحرية والعتق والاستقلال، واستطاع بكلماته وبحياته أن ينقلهم من كونهم عبيداً في أمة غريبة إلى شعب له أرض ووطن، كل من موسى و يسوع كانت خدمته فاصلة في تاريخ شعب إسرائيل، كل منهما نقل الشعب من وضع إلى وضع آخر، كل منهما أنهى كياناً قديما وأنشأ كياناً لم يكن موجوداً من قبل، كل منهما نقل للشعب أقوالاً إلهية حاسمة ظلت منهجاً للسلوك عبر الأجيال، كل منهما قدم إعلاناً عن الله لم يكن معروفاً من قبل، كل هذا جعل الروح القدس يشير إلى نبـــوة موســى فـي (تث 18 : 15 )  ويؤكد أنها قد تمت في شخص الرب له كل المجد (أع 3 : 22 ، 7 : 37 ) أي أن يسوع هو النبي الذي جاء إلى الشعب «مثل» موسى !!

ولكن ... !!

 هنا لابد أن نقف ونستدرك ونقول إن وجه الشبه بين موسى و يسوع محصور فقط في كون خدمتهما كانت حاسمة وفاصلة في تاريخ الشعب، لكن لا يظن أحد أننا نقصد أن مضمون خدمتهما كان متشابهاً، حاشا !! فالفرق شاسع جدا بين مضمون خدمة موسى ومضمون خدمة يسوع، بل أننا نقول إن كل ما فعله موسى في وسط الشعب لم يكن إلا ظلا باهتاً لما كان يسوع مزمع أن يفعله للشعب.

أخرج موسى الشعب من تحت عبودية فرعون أما الرب فقد أتى لكي يحررنا من عبودية الخطية، وما أبعد الفرق بين العبودية الخارجية لإنسان والعبودية الداخلية للشيطان !! فتح موسى البحر أمام الشعب أما الرب فقد فتح لنا طريقاً في السماويات إلى الأقداس عينها، أطعم موسى الشعب بالمن أما الرب فقد أعطانا الخبز الحي الواهب الحياة ، وهذا الخبز لم يكن سوى حياته نفسها، لقد أعطانا جسده مأكل حق ودمه مشرب حق، وما أبعد الفرق بين من يعطى خبزاً ومن يعطي حياته!! بشفاعة موسى هزم الشعب أعداءه وبشفاعة الرب صار لنا السلطان أن ندوس حيات وعقارب وكل قوة العدو، لقد أشهر أمامنا ليس أجناداً بشرية بل كل الأجناد الروحية في السماويات ظافراً بهم في الصليب، أتى موسى بالناموس للشعب وبالناموس صار حكم الموت على الجميع إذ أخطأ الجميع، أما يسوع فقد أتي لنا بالنعمة والحق، النعمة التي تستطيع أن تغفر للإنسان خطاياه وتعطيه القدرة ليعيش بحسب الحق، رفع موسى حية نحاسية لكي يشفي الشعب من آلام المرض أما الرب فقد رفع بنفسه على الصليب لكي يمنحنا حياة أبدية، بنى موسى للشعب خيمة الاجتماع التي هي ظل للأقداس السماوية أما يسوع فقد شق أمامنا الحجاب لكي ندخل معه إلى الأقداس عينها ... وماذا نقول أيضا ؟! إننا لا نستطيع أبدأ أن نحصر بكلماتنا الفروق الواسعة التي بين خدمة موسى وخدمة رب المجد، لأن الفرق بينهما كالفرق بين الأرض والسماء أو بين الجسد والروح أو بين الموت والحياة... وكلها فروق أبعد من قدرتنا على البيان !!

لكن كل ما نستطيع أن نقوله هو إن « النبي» العظيم قد جاء، النبي الذي حمل إلينا أكمل وأجمل إعلان عن شخص الله، هل قبلت هذا الإعلان في حياتك ؟ وللحديث بقية.

الاثنين، 14 أغسطس 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (47)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن سيدنا قد مسح ملكاً وكاهناً إلى الأبد ، وقد اكتملت في شخصه المبارك كل المسحات الرمزية والجزئية التي كانت لملوك وكهنة العهد القديم، واليوم نضيف أن روح المسحة المبارك قد مسحه أيضا «نبياً» بل بالحرى «النبي»!!

من هو النبي ؟

النبي هو الشخص المسئول عن معرفة فكر الله الخاص بالشعب في الأوقات والظروف المختلفة، وهو المسئول عن نقل هذا الفكر للشعب بأكمل صورة ممكنة، وفي بعض الأحيان يكون مسئولاً أيضا عن تحقيق هذا الفكر وتحويله إلى واقع ملموس.

ووظيفة النبي أساسية جدأ لأن طبيعة القلب الإنساني هي الضلال سريعاً عن فكر الله والتحول إلى الطقسية والروتينية المميتة، ولذا يحتاج شعب الله إلى من يعرف فكر الله الخاص لكل موقف يمر به الشعب وينقل لهم هذا الفكر المتجدد الحي.

وكثيرا ما كانت وظيفة النبي مؤلمة ومكلفة، لأنه في أغلب الأحيان يكون فكر الله غير مستساغ وغير مقبول من الشعب لا سيما في أوقات الضلال والارتداد ، والشعب دائما يحب سماع الأقوال الناعمة وعندما يحمل الأنبياء فكر الله ودينونته على الشر لا يلقى هذا الفكر في الغالب قبولا، وكثيرا من الأنبياء دفعوا حياتهم ثمنا لحملهم فكر الله لشعوبهم، وآخرون عذبوا وتجربوا في هزء وجلد وقيود أيضا وحبس، بل رجموا ونشروا وطافوا في جلود غنم ومعزى معتازين مكروبين مذلين، وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم!! ولقد استحقت أورشليم عن جدارة لقب «قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها » !!

وقيمة النبي كانت تقدر بمدى قيامه بهذه المسئوليات، فهناك الأنبياء الصغار الذين نقلوا فكر الله ولكننا لم نر لهم أعمالا مؤثرة في تاريخ الشعب، وفي المقابل هناك الأنبياء الكبار الذين لم ينقلوا فقط أقوال الله بل استطاعوا بحياتهم أن يغيروا مسار الشعب رجوعاً إلى الله، مثل صموئيل وداود وإيليا ... وقبل الكل يقف

موسى النبي النموذجي !!

لم يستطع شعب إسرائيل أن ينسى ما فعله موسي معهم، هذا الإنسان الذي اختار أن يترك كل خزائن مصر ويربط مصيره بهذا الشعب المستعبد ، موسي الذي كان يتكلم مع الله وجها لوجه ثم ينزل إلى الشعب لكي ينقل لهم أقوال الله ووصاياه، ولم ينقلها بالكلام فقط بل استطاع بآناته وحلمه ورعايته واحتماله أن ينقل صورة الله للشعب، نقل لهم فكر الخلاص والتحرير في وقت عبوديتهم القاسية واستطاع أن يكون الأداة التي يحقق بها الله هذا الخلاص ويجعله واقعاً ملموساً، لقد كان موسى نبياً عظيماً وكان دوره محورياً  وفاصلاً في تاريخ شعب إسرائيل، لقد ارتبط تاريخ إسرائيل بموسى كما لم يرتبط بأي شخص آخر، حتى أن الله خشي أن يعبدوه بعد موته فأخفي جسده عن أنظارهم!!

لقد كان موسى بحق النبي النموذجي حتى أنه قال قبل موته « يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي ، له تسمعون» (تث 18 : 15 ) أي أن كل نبي يأتي بعده كان يكتسب مصدقيته من مقدار تشبهه بموسى، ولقد اعتبر الشعب أن هذه الأقوال بمثابة نبوة عن مجيء نبي له نفس تأثير موسى في تاريخ الشعب، نبي يكون دوره محورياً وفاصلاً في حياة الشعب كما فعل موسى، ورغم تعاقب العديد من الأنبياء الكبار والصغار على إسرائيل إلا أن الشعب لم يقيم أحداً منهم بأنه «مثل» موسى، كان موسى هو المقياس الذي يقيسون عليه كل الأنبياء، ولذلك نراهم في أيام الرب يحاولون كثيراً مقارنته بموسى (يو6 : 31 ، 9 : 29 ) .

ولأن أياً من أنبياء العهد القديم لم يرقى إلى مستوى موسى اعتبروا أن هذه النبوة لم تتم بعد وظلوا ينتظرون مجيء «النبي» الذي يشبه موسى ، حتى عندما جاء المعمدان سابقأ للمسيح كان السؤال الذي وجه إليه:

ألنبي أنت ؟!

 والحقيقة أن إسرائيل كان فعلاً في هذه الأيام على موعد مع «النبي» الموعود ، ولكن ليس في شخص المعمدان بل في شخص يسوع، النبي الحقيقي الذي كان مزمعاً أن يغير مسار الشعب وتاريخه جذرياً، وللحديث بقية.

 

الجمعة، 4 أغسطس 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (46)

بقلم : فخرى كرم

إذا كان زيت المسحة المقدس قد أستخدم قديماً لتكريس الملوك والكهنة والأنبياء بشكل جزئي ورمزي، فإن روح المسحة المبارك قد أكمل كل هذه الرموز والظلال عندما حل بكل ملئه على شخص ربنا يسوع «المسيح» مكرسا إياه ملكاً وكاهناً ونبياً بشكل كامل و أبدي، ولقد تكلمنا في المرة السابقة عن مسحة الملكوت واليوم نتحدث عن مسحة الكهنوت.

من هو الكاهن ؟

كانت وظيفة الكاهن أن يكون وسيطاً بين الله والناس ، كان عمله مزدوجاً: أن يقف أمام الله لأجل الناس ويقف أمام الناس لأجل الله!! من الناحية الأولي كان ينبغي أن يكون مقدساً بشكل خاص لكي يستطيع الدخول إلى المقادس والمثول أمام الله، وعندما يقف أمام الله كان يعلم أنه لا يقف لأجل نفسه بل لأجل الشعب، كان رئيس الكهنة يحمل على كتفيه وصدره أسماء أسباط إسرائيل الاثني عشر، إشارة رمزية إلى أنه يدخل إلى المقادس لأجل كل فرد في الشعب، يتشفع لأجلهم ويلتمس غفراناً لخطاياهم وتســديداً لاحتياجاتهـــم (عب 5 : 1 ، 2 ) أي أنه من خلال الكهنوت كان الشعب يبقى ماثلا أمـــام الله دائمــــا (خر28 : 29 ، 30 ). ومن الناحية الثانية كان ينبغي أن يقف الكاهن أمام الشعب لأجل أمور الله، كانت مسئوليتهم أن يعلموا الشعب الشريعة ويحثوهم على حفظها (لا 10 : 11 ) كان ينبغي أن يكونوا ممثلين لقداسة الله أمام الشعب ساعين لدفع الشعب لحياة القداسة والطاعة لوصايا الله، كان ينبغي أن يقووا المريض ويعصبوا الجريح ويجبروا الكسير ويستردوا المطرود ويطلبوا الضال. بالاختصار كان ينبغي أن يكونوا ممثلين لشخص الله أمام الشعب.

ولكن ..

غني عن البيان أن نقول إن هذا الوضع المثالي لم يتحقق قط في ظل الكهنوت اللاوي، فأحد من الكهنة لم يستطع أن يملأ هذا المركز السامي و يشغل هذه الوظيفة الخطيرة، لقد حملوا أسماء الشعب طقسا لكن لم يحملوهم فعلاً وحباً، لقد اهتم الكهنة بشؤونهم الخاصة ورعوا أنفسهم ولم يرعوا الشعب بل تسلطوا عليهم بعنف (حز34 : 4 ) ، ولم يهتموا بتعليم الشريعة للشعب لأنه كلما كان الشعب جاهلاً وخاطئاً كانت السيطرة عليه أسهل!! ورغم أن هناك استثناءات لبعض الكهنة الصالحين الذين خدموا بأمانة في أيامهم إلا أن الغالبية لم تكن على قدر المسئولية، ويعوزنا الوقت لكي نسرد الأحداث المؤسفة والمخجلة التي صاحبت أيام خدمتهم، ويكفي أن نراهم في أيام تجسد سيدنا وقد صاروا تجاراً يحتكرون تجارة الذبائح بأنواعها ويبيعونها بأغلى الأثمان وقد ملأوا الهيكل بالباعة والصيارفة واستحقوا من الرب وصفهم باللصوص !! لقد صارت مهنة الكهنوت مصدرأ للغنى الفاحش بعدما كان الكاهن ليس له نصيب في الأرض لأن نصيبه هو الرب! !

الكاهن الحقيقي

لذلك انسكب روح المسحة في ملء الزمان على شخص ربنا يسوع المسيح ماسحاً إياه كاهناً إلى الأبد على رتبة ملكي صادق (مز 110 : 4 ) لأنه الوحيد الذي استطاع أن يملأ مركز الوسيط بكل كمال واقتدار، فمن الجهة الأولى استطاع بقداسته الشخصية أن يدخل إلى الأقداس السماوية عينها حاملا دم نفسه كفارة وفداء لكل واحد من شعبه، لقد أحبنا فعلا وحملنا فعلا على كتفيه وقلبه ودخل بنا إلى المقادس عينها متشفعاً لأجلنا، وهو مازال هناك في الأقداس متشفعاً فينا حتى يصل بنا إلى الخلاص التام، إنه قادر أن يخلص إلى التمام جميع المتقدمين به إلى الله لأنه حي في كل حين ليشفع فيهم (عب 7 : 25 ) له كل المجد!!

ومن الناحية الثانية كان هو الوحيد الذي استطاع أن يقدم للانسان صورة كاملة عن الله، ليس بالكلمات والتعاليم الجوفاء بل بحياته عينها، لقد رأينا في شخصه الله كاملاً، لقد ظهر الله في الجسد (۱تي 3 : 16) لقد استطاع بحياته أن يجعلنا نحب الله ونسعى إليه، ولقد رسم لنا بحياته وموته طريقاً للوصول إلى الآب، طريقاً حياً كرسه لنا بجسده، له كل المجد!! وهكذا استحق سيدنا أن يكون كاهنا إلى الأبد و الوسيط الوحيد بين الله والناس (1تي 2 : 5 ) وهو الآن يقوم بهذا العمل المزدوج بكل اقتدار: يشفع أمام الله لأجلنا ويتعامل معنا بروحه لأجل تقديسنا وتكميلنا.

أخي، هل استمتعت بشفاعته هذه ؟ هل تتقدم إلى الله من خلال يسوع وحده ؟ وهل تقبل عمل روحه فيك؟ إنه رئيس كهنتك الوحيد، ليس لك قبول أمام الله إلا فيه وليس لك تقديس في الحياة إلا به!! (يتبع)