الجمعة، 31 يوليو 2020

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (42)

بقلم : فخرى كرم

 

«ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير» (مت6: 13)

قلنا أن ربنا يعلمنا في الجزء الأول من هذه الطلبة أن تكون صلاتنا الدائمة هي أن يحفظنا الله من الدخول في التجارب التي يحيكها العدو حولنا كل الوقت لتدمير حياتنا، ولكن الرب يعود ويستدرك في الجزء الثاني من الطلبة معلناً أن الآب السماوي قد يسمح لنا أحياناً بالدخول في التجربة، وفي هذه الحالة تكون صلاتنا أن ينجينا الله من مقاصد العدو الشريرة من وراء التجربة. وهنا لابد أن يبرز في أذهاننا سؤال: لماذا يسمح الآب الصالح أن ندخل في تجربة يهدف من ورائها العدو لتدمير حياتنا؟! وكلمة الله تجيب عن هذا السؤال في أكثر من موضع بأن هدف الله من اجتيازنا في التجربة هو تزكية إيماننا.

يقول الرسول بطرس «الذي به تبتهجون مع أنكم الآن إن كان يجب تُحزنون يسيراً بتجارب متنوعة لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الفاني مع أنه يُمتحن بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح» (1بط1: 6، 7) تؤكد كلمة الله هنا أننا قد نجتاز في تجارب متنوعة (متنوعة في طبيعتها: آلام جسدية أو ضغوط نفسية أو حروب روحية أو ظروف خارجية...) وهذه التجارب تسبب لنا الحزن والضيق وتستهدف في المقام الأول تدمير علاقتنا مع الله، لكن الله يسمح لنا بالدخول في هذه التجارب لأنه يريد أن يجعل إيماننا به أكثر نقاءً وثباتاً، تماماً مثل الذهب الذي يحتوي أحياناً على بعض الشوائب التي لا يمكن اكتشافها والتخلص منها إلا بأن نضع الذهب في النار!!

 أدرك أيوب هذا الحق في عمق آلامه وتجربته فقال «لأنه يعرف طريقي، إذا جربني أخرج كالذهب» (أي23: 10) رغم آلاف السنين التي تفصل بين أيوب وبطرس إلا أن الوحي استخدمهما لاعلان نفس الحق: أن الله يرى في إيماننا قطعة ثمينة من الذهب تحتاج باستمرار أن تجتاز في النار لكي تصير أكثر قيمة ولمعاناً!! وادراك هذا الحق على مر الأجيال كان هو الملجأ والصخرة التي حفظت إيمان أبناء الله في قلب بوتقة الألم ونيران التجربة!! وتشبيه الإيمان بالذهب هو تشبيه عبقري يحمل العديد من المعاني:

(أولاً) أن قيمة الذهب ومجده يرتبط مباشرة بدرجة نقائه وطهارته، وكذلك قيمة إيماننا وقدرته على التأثير في حياتنا وحياة الأخرين هو في قدرتنا على اجتياز التجارب بنجاح، أما إذا كنا لا نريد أن نجتاز في التجارب فنحن نحكم على أنفسنا بأن نظل أطفالاً في علاقتنا بالله ليس لنا تأثير أو وزن في العالم الروحي.

(ثانياً) لابد أن نتأكد أن قصد الله وراء ادخال الذهب إلى النار هو دافع صالح يهدف للخير وليس للشر، ابليس يحاول في أثناء التجربة أن يحيطنا بمناخ من التذمر والشكاية على أنفسنا أو على الأخرين أو على الله، ليتنا نتعلم أن نرفض مناخ الشكاية هذا ونتمسك باليقين في صلاح إلهنا، فهذا اليقين هو الحصن الذي يحفظ ايماننا في مثل هذه الأوقات الصعبة!!

(ثالثاً) النار التي يوضع فيها الذهب تكون محسوبة بدقة، لا يمكن أن تقل أو تزيد في درجتها أو مدتها، كذلك نحن لسنا متروكين للمجرب يفعل بنا ما يشاء بل كل شيء مقدر ومحكوم في يد مَن معه أمرنا!!

(رابعاً) النار مؤقتة وتنتهي بانتهاء المقصود منها أما النقاء الذي يكتسبه الذهب فأبدي، يظل يتألق ويثمر إلى الأبد، وهذا ما قاله الرسول «لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً» (2كو4: 17) فالضيقة وقتية أما المجد فأبدي!! وللحديث بقية (يتبع)


الجمعة، 3 يوليو 2020

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (41)
بقلم : فخرى كرم

«لا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير» (مت6: 13)
تكلمنا عن مفهوم التجربة وعرفنا أنها ترتيب شيطاني يهدف لاجتذابنا للوقوع في الخطية والإنفصال عن الله، وبهذا المفهوم يكون من البديهي أن نصلي لكي لا ندخل في تجربة، لكن عبارة «لا تدخلنا في تجربة» تحمل معنى أعمق، أنها تعني أن دخولنا في التجربة أو عدم دخولنا هو تحت سلطان الله المطلق، فرغم تأكيدنا أن الرب ليس هو مصدر التجربة لأنه إله صالح لا يجرب أحداً بالشرور، ورغم يقيننا بأن سقوطنا في التجربة هو بسبب انجذابنا نحن وانخداعنا من شهواتنا غير المحكوم عليها (يع1: 13-15) إلا أننا لابد أن نتأكد تماماً من سلطان الله المطلق على كل الأمور، فإلهنا له مطلق السلطان على إبليس وترتيباته ويستطيع أن يمنعه إن شاء أو يضع له حدوداً لا يتجاوزها، كما أن إلهنا له مطلق السلطان علي قلوبنا وظروفنا ويستطيع أن يمنع دخولنا التجربة أو يسمح لنا بدخولها، وإلا فما المعنى أن نصلي قائلين «لا تدخلنا في تجربة» إن كان الله ليس مسئولاً عن دخولنا في التجربة أو عدم دخولنا؟!
وهذا يقودنا إلى أن نسأل: هل معنى هذا أن الله قد يسمح أحياناً أن ندخل في تجربة؟ والإجابة كما نجدها في كلمة الله هي بالتأكيد «نعم»!! وهذا يعطينا فهماً لحرف الاستدراك «لكن» الذي وضعه الرب بين الطلبة الأولى والطلبة الثانية، فبعد أن أوصانا أن نصلي الطلبة الأولى: «لا تدخلنا في تجربة» نجده يستخدم حرف الإستدراك «لكن» والذي يعني أنه أحياناً قد يسمح أبونا السماوي أن ندخل في تجربة، وإن كان هذا هو الإستثناء وليس القاعدة، وفي هذه الحالة ينبغي أن نطلب الطلبة الثانية: «نجنا من الشرير»!! أي أننا يمكننا أن نقرأ هذا المقطع من الصلاة هكذا: «لا تدخلنا في تجربة، ولكن إذا سمحت عنايتك بأن ندخل التجربة فلتنجنا من مشورة الشرير ومقاصده وتعطنا نصرة على هذه التجربة»!! فلو كانت الطلبة الأولى: «لا تدخلنا في تجربة» مُستجابة دائماً طوال الحياة فلا معنى إذاً للطلبة الثانية: «نجنا من الشرير» لأننا لن نواجه الشرير أبداً طالما لن ندخل في التجربة أبداً!!
الحق الكتابي المستقيم يعلِّمنا أن الله في حكمته الأبدية قد يسمح أحياناً أن نجتاز في تجارب متنوعة، ليس لكي نسقط في الخطية، حاشا، بل لكي يُمتحن إيماننا ويتزكى، ويُنشئ الروح فينا صبراً وعملاً تاماً لنكون تامين وكاملين غير ناقصين في شيء، وفي النهاية ننال إكليل الحياة (يع1: 2-12) (1بط1: 6، 7) فلو كانت حياتنا خالية دائماً من التجارب فستكون خالية أيضاً من الانتصارات!! والكتاب يعلمنا أن هذه التجارب تكون خاضعة دائماً لسلطان الله وحكمته وتقديره بحيث لا تزيد عن احتمالنا ولا تخرج عن أهدافها ويكون معها دائماً المنفذ (1كو10: 13) فرغم أن إبليس يرتب لنا التجربة لكي يدمر حياتنا إلا أن إلهنا عندما يسمح بأن ندخل هذه التجربة يكون قصده أن نتعلق به أكثر فيزداد إدراكنا الروحي وتتعمق شركتنا معه أكثر، وبالتالي نخرج من هذه التجربة وقد إزداد نقاء إيماننا كما يزداد لمعان الذهب حين يجتاز في النار!!
أحياناً يرى الآب السماوي أن التجربة التي يرتبها ابليس لنا أكبر من قامتنا الروحية وقد نسقط إذا دخلنا فيها، عندئذ يستجيب أبونا السماوي للطلبة الأولى ولا يدخلنا في التجربة، ولكن أحياناً أخرى قد يرى أبونا السماوي أن عمله فينا يكفي للانتصار إذا دخلنا في التجربة وعندئذ يستجيب للطلبة الثانية ويسمح بأن ندخل في التجربة لكنه ينجينا من الشرير، فنخرج من التجربة أكثر نقاءً وإيماناً وانتصاراً!! وللحديث بقية (يتبع)