موعظة الجبل (42)
بقلم : فخرى كرم
«ولا تدخلنا في
تجربة، لكن نجنا من الشرير» (مت6: 13)
قلنا
أن ربنا يعلمنا في الجزء الأول من هذه الطلبة أن تكون صلاتنا الدائمة هي أن يحفظنا
الله من الدخول في التجارب التي يحيكها العدو حولنا كل الوقت لتدمير حياتنا، ولكن
الرب يعود ويستدرك في الجزء الثاني من الطلبة معلناً أن الآب السماوي قد يسمح لنا
أحياناً بالدخول في التجربة، وفي هذه الحالة تكون صلاتنا أن ينجينا الله من مقاصد
العدو الشريرة من وراء التجربة. وهنا لابد أن يبرز في أذهاننا سؤال: لماذا يسمح
الآب الصالح أن ندخل في تجربة يهدف من ورائها العدو لتدمير حياتنا؟! وكلمة الله
تجيب عن هذا السؤال في أكثر من موضع بأن هدف الله من اجتيازنا في التجربة هو تزكية
إيماننا.
يقول
الرسول بطرس «الذي به تبتهجون مع أنكم الآن إن كان يجب تُحزنون يسيراً بتجارب
متنوعة لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الفاني مع أنه يُمتحن
بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح» (1بط1: 6، 7) تؤكد
كلمة الله هنا أننا قد نجتاز في تجارب متنوعة (متنوعة في طبيعتها: آلام جسدية أو
ضغوط نفسية أو حروب روحية أو ظروف خارجية...) وهذه التجارب تسبب لنا الحزن والضيق
وتستهدف في المقام الأول تدمير علاقتنا مع الله، لكن الله يسمح لنا بالدخول في هذه
التجارب لأنه يريد أن يجعل إيماننا به أكثر نقاءً وثباتاً، تماماً مثل الذهب الذي
يحتوي أحياناً على بعض الشوائب التي لا يمكن اكتشافها والتخلص منها إلا بأن نضع
الذهب في النار!!
أدرك أيوب هذا الحق في عمق آلامه وتجربته فقال
«لأنه يعرف طريقي، إذا جربني أخرج كالذهب» (أي23: 10) رغم آلاف السنين التي تفصل
بين أيوب وبطرس إلا أن الوحي استخدمهما لاعلان نفس الحق: أن الله يرى في
إيماننا قطعة ثمينة من الذهب تحتاج باستمرار أن تجتاز في النار لكي تصير أكثر قيمة
ولمعاناً!! وادراك هذا الحق على مر الأجيال كان هو الملجأ والصخرة التي حفظت إيمان
أبناء الله في قلب بوتقة الألم ونيران التجربة!! وتشبيه الإيمان بالذهب هو تشبيه
عبقري يحمل العديد من المعاني:
(أولاً)
أن قيمة الذهب ومجده يرتبط مباشرة بدرجة نقائه وطهارته، وكذلك قيمة إيماننا وقدرته
على التأثير في حياتنا وحياة الأخرين هو في قدرتنا على اجتياز التجارب بنجاح، أما
إذا كنا لا نريد أن نجتاز في التجارب فنحن نحكم على أنفسنا بأن نظل أطفالاً في
علاقتنا بالله ليس لنا تأثير أو وزن في العالم الروحي.
(ثانياً)
لابد أن نتأكد أن قصد الله وراء ادخال الذهب إلى النار هو دافع صالح يهدف للخير
وليس للشر، ابليس يحاول في أثناء التجربة أن يحيطنا بمناخ من التذمر والشكاية على
أنفسنا أو على الأخرين أو على الله، ليتنا نتعلم أن نرفض مناخ الشكاية هذا ونتمسك
باليقين في صلاح إلهنا، فهذا اليقين هو الحصن الذي يحفظ ايماننا في مثل هذه
الأوقات الصعبة!!
(ثالثاً)
النار التي يوضع فيها الذهب تكون محسوبة بدقة، لا يمكن أن تقل أو تزيد في درجتها
أو مدتها، كذلك نحن لسنا متروكين للمجرب يفعل بنا ما يشاء بل كل شيء مقدر ومحكوم
في يد مَن معه أمرنا!!
(رابعاً)
النار مؤقتة وتنتهي بانتهاء المقصود منها أما النقاء الذي يكتسبه الذهب فأبدي، يظل
يتألق ويثمر إلى الأبد، وهذا ما قاله الرسول «لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ
لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً» (2كو4: 17) فالضيقة وقتية أما المجد
فأبدي!! وللحديث بقية (يتبع)