الأوقات والأزمنة
(8)
فخرى كرم
الكتاب
يعلِّمنا أن الوقت الواحد يحمل عدة أوجه ومعانٍ بحسب تعدد الأشخاص والجماعات، فالوقت
الواحد لا يحمل نفس المعنى لكل الموجودين فيه، فنفس الوقت الذي يحمل للبعض راحة
وسلام قد يحمل لآخرين شدة وضيق، ووقت الحصاد لشخص ما قد يكون بداية الزرع لشخص
آخر، وساعة اشراقة الفجر لجماعة ما قد تكون لجماعة أخرى ساعة دخول ليل بهيم!!
وكلما كان الإنسان قادراً على تمييز الوقت بالنسبة لنفسه وبالنسبة للآخرين كلما
كان قادراً على التصرف السليم خلال هذا الوقت.
كانت
ساعة الصليب تحمل عدة أوجه ومعانٍ بتعدد الموجودين فيها، ولأن يسوع كان يعرف ما
يعنيه هذا الوقت بالنسبة لنفسه وبالنسبة للمحيطين به استطاع أن يتصرف مع الجميع
بشكل سليم، كانت ساعات الصليب تعني بالنسبة للشعب شيئاً يختلف تماماً عما تعنيه
نفس الساعات بالنسبة للتلاميذ، وكانت نفس الساعات تعني ليسوع شيئاً ثالثاً يختلف
كلياً عن الجميع!!
«ولكن هذه ساعتكم
وسلطان الظلمة» (لو22: 53)
كانت
ساعة الصليب بالنسبة للشعب ورؤسائه فرصة أعطاها الله لهم لتقديم اجابتهم على رسالة
يسوع ودعوته، كانت بالنسبة لهم وقت زرع للمستقبل، لو قدموا توبة وإيمان كان
المستقبل سيحمل لهم أوقات فرج من عند الرب، لكن للأسف رأينا الشعب يتحالف مع قوى
الظلام ويعلن رفضه التام ليسوع ورسالته، وبزرعهم للشر والخبث والكذب والعنف والقتل
في تلك الساعة حصدوا ويحصد أولادهم حتى اليوم من نفس جنس ما زرعوا!!
«هوذا تأتي ساعة وقد
أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد
إلى خاصته وتتركونني
وحدي» (يو16: 32)
وكانت
ساعة الصليب بالنسبة للتلاميذ «ساعة الحقيقة» التي تُعلن حقيقة ما في داخل
التلاميذ من ضعف محبتهم للرب وشدة محبتهم لخاصتهم وتشبثهم الشديد بالحياة الحاضرة،
كانت ساعة غربلة وامتحان لحقيقة ما تكوَّن في داخلهم بعد ثلاث سنوات في معيَّة
الرب وشركته، ولأن الرب كان يعرف طبيعة هذا الوقت بالنسبة لتلاميذه سبق وأخبرهم
بأن الشيطان طلبهم للغربلة، وطلب منهم أن يسهروا ويصلوا لئلا يدخلوا في تجربة، بل سبق
وصلى هو لأجلهم لكي لا يفنى إيمانهم!!
«قد أتت الساعة
ليتمجد ابن الإنسان» (يو12: 23)
لكن
المفاجأة هي أن نفس ساعة الصليب كانت بالنسبة ليسوع «ساعة للتمجيد»!! كانت
بالنسبة لشخصه الكريم وقتاً للحصاد وليس للزرع، لقد اختار في كل حياته أن يعمل
مشيئة أبيه ويتمم عمله، اختار أن ينكر نفسه ويحمل صليبه كل أيامه، كان مثل حبة
الحنطة التي قبلت أن تسقط في الأرض وتموت لكي لا تبقى وحدها بل تأتي بثمر كثير،
وها قد أتى وقت الحصاد بتتويج هذه الرحلة وختامها بتقديم نفسه للصليب، كان ربنا
يرى في الصليب ختام رحلة ناجحة من الطاعة آن لها أن تُكرم وتتوّج، كان يرى أن الآب
سيتمجد عند اكتمال مشيئته في الصليب وسيمجد الأبن بالقيامة من الأموات، كان يعلم
ان ساعة الصليب هي بوابة دخوله للمجد بعدما مجَّد الآب في حياته وموته، ولذلك
استطاع أن يمتلك سلاماً في هذه الساعات الرهيبة ومنح نفس السلام لتلاميذه!! ليتنا
نقتدي بسيدنا في تمييزه للأوقات والأزمنة لنعرف ان نتصرف بثبات في كل أوقات
حياتنا، وللحديث بقية (يتبع)