الخميس، 28 أبريل 2016

أحاديث من القلب

الأوقات والأزمنة (8)
فخرى كرم
الكتاب يعلِّمنا أن الوقت الواحد يحمل عدة أوجه ومعانٍ بحسب تعدد الأشخاص والجماعات، فالوقت الواحد لا يحمل نفس المعنى لكل الموجودين فيه، فنفس الوقت الذي يحمل للبعض راحة وسلام قد يحمل لآخرين شدة وضيق، ووقت الحصاد لشخص ما قد يكون بداية الزرع لشخص آخر، وساعة اشراقة الفجر لجماعة ما قد تكون لجماعة أخرى ساعة دخول ليل بهيم!! وكلما كان الإنسان قادراً على تمييز الوقت بالنسبة لنفسه وبالنسبة للآخرين كلما كان قادراً على التصرف السليم خلال هذا الوقت.
كانت ساعة الصليب تحمل عدة أوجه ومعانٍ بتعدد الموجودين فيها، ولأن يسوع كان يعرف ما يعنيه هذا الوقت بالنسبة لنفسه وبالنسبة للمحيطين به استطاع أن يتصرف مع الجميع بشكل سليم، كانت ساعات الصليب تعني بالنسبة للشعب شيئاً يختلف تماماً عما تعنيه نفس الساعات بالنسبة للتلاميذ، وكانت نفس الساعات تعني ليسوع شيئاً ثالثاً يختلف كلياً عن الجميع!!
«ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة» (لو22: 53)
كانت ساعة الصليب بالنسبة للشعب ورؤسائه فرصة أعطاها الله لهم لتقديم اجابتهم على رسالة يسوع ودعوته، كانت بالنسبة لهم وقت زرع للمستقبل، لو قدموا توبة وإيمان كان المستقبل سيحمل لهم أوقات فرج من عند الرب، لكن للأسف رأينا الشعب يتحالف مع قوى الظلام ويعلن رفضه التام ليسوع ورسالته، وبزرعهم للشر والخبث والكذب والعنف والقتل في تلك الساعة حصدوا ويحصد أولادهم حتى اليوم من نفس جنس ما زرعوا!!
«هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد
إلى خاصته وتتركونني وحدي» (يو16: 32)
وكانت ساعة الصليب بالنسبة للتلاميذ «ساعة الحقيقة» التي تُعلن حقيقة ما في داخل التلاميذ من ضعف محبتهم للرب وشدة محبتهم لخاصتهم وتشبثهم الشديد بالحياة الحاضرة، كانت ساعة غربلة وامتحان لحقيقة ما تكوَّن في داخلهم بعد ثلاث سنوات في معيَّة الرب وشركته، ولأن الرب كان يعرف طبيعة هذا الوقت بالنسبة لتلاميذه سبق وأخبرهم بأن الشيطان طلبهم للغربلة، وطلب منهم أن يسهروا ويصلوا لئلا يدخلوا في تجربة، بل سبق وصلى هو لأجلهم لكي لا يفنى إيمانهم!!
«قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان» (يو12: 23)
لكن المفاجأة هي أن نفس ساعة الصليب كانت بالنسبة ليسوع «ساعة للتمجيد»!! كانت بالنسبة لشخصه الكريم وقتاً للحصاد وليس للزرع، لقد اختار في كل حياته أن يعمل مشيئة أبيه ويتمم عمله، اختار أن ينكر نفسه ويحمل صليبه كل أيامه، كان مثل حبة الحنطة التي قبلت أن تسقط في الأرض وتموت لكي لا تبقى وحدها بل تأتي بثمر كثير، وها قد أتى وقت الحصاد بتتويج هذه الرحلة وختامها بتقديم نفسه للصليب، كان ربنا يرى في الصليب ختام رحلة ناجحة من الطاعة آن لها أن تُكرم وتتوّج، كان يرى أن الآب سيتمجد عند اكتمال مشيئته في الصليب وسيمجد الأبن بالقيامة من الأموات، كان يعلم ان ساعة الصليب هي بوابة دخوله للمجد بعدما مجَّد الآب في حياته وموته، ولذلك استطاع أن يمتلك سلاماً في هذه الساعات الرهيبة ومنح نفس السلام لتلاميذه!! ليتنا نقتدي بسيدنا في تمييزه للأوقات والأزمنة لنعرف ان نتصرف بثبات في كل أوقات حياتنا، وللحديث بقية (يتبع)


الثلاثاء، 5 أبريل 2016

أحاديث من القلب

الأوقات والأزمنة (7)
فخرى كرم
«كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا عليَّ
الأيادي ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة»(لو22: 53)
كان يسوع يعرف أن لكل شيء في حياته وقت، وأن لكل عمل ساعة محددة في مشيئة الآب، ومعرفته هذه جعلته يعمل كل أموره «للوقت» بحسب التعبير الشائع في الأناجيل، أي في الوقت المناسب والمتوافق مع توقيت الآب، ومعرفته هذه جعلته يمسك بزمام الأمور ويتحكم في الأحداث ويتصرف بالفعل وليس رد الفعل!!
عدم معرفتنا بالأوقات والأزمنة يجعلنا غير قادرين على توقع الأحداث وبالتالي غير قادرين على التحكم في ردود أفعالنا، مما يجعلنا دائماً في حالة «مفاجأة» وانزعاج مما يحدث حولنا، وهذه الحالة تفقدنا القدرة على التحكم في مجريات الأحداث بل نصير محمولين بها إلى حيث لا نريد، وفي هذه الأوقات نحن نتصرف برد الفعل وليس بالفعل!!
 والدليل الأكبر على هذه الحقيقة هو اجتياز ربنا لأحداث الصليب، إن أي إنسان عادي يتعرض لنفس ما تعرض له يسوع من غدر وخيانة وظلم في الساعات القليلة التي تسبق الصليب لابد أن يفقد اتزانه النفسي ويصاب بالانهيار العصبي والذهني، لابد أن تصدر منه تصرفات غير محسوبة وردود أفعال طائشة، لكن ما أعجب ما رأينا من الرب في تلك الساعات، رأيناه رابط الجأش يتحكم في مجرى الأحداث، يتصرف بثقة وثبات جعلت أعداءه يسقطون أمامه، رأيناه مرفوع الرأس في مواجهة حسد وخبث رؤساء الكهنة وظلم وقسوة الملوك وعربدة العسكر والعبيد، رأيناه يغمس اللقمة ويقدمها بحب للتلميذ الذي يسلِّمه، ورأيناه يلتفت وينظر برحمة شديدة للتلميذ الذي ينكره، رأيناه يحتوي كل أعدائه بغفرانه وهم يعلقونه على الصليب، لم يصدر منه تصرف واحد غير محسوب، لم تخرج من فمه كلمة واحدة طائشة، في كل أحداث الصليب كان يسوع فاعلاً وليس مفعولاً به، كان يضع نفسه من تلقاء ذاته ولم يستطع أحد أن يأخذها منه عنوة!!
 ما هو سر ثبات الرب في وسط أحداث الصليب الرهيبة؟ السر هو معرفة الرب بالأوقات والأزمنة!! لقد عرف يسوع أن الآب قد أعطاه وقتاً للتعليم والخدمة وسط الشعب، وفي هذا الوقت لم يستطع أحد أن يلقي عليه الأيدي، رغم أنه كان يعلِّم في مجامعهم كل يوم ورغم أن عداوتهم له كان متوفرة كل يوم لكن «ساعته» لم تكن قد أتت بعد، ولكن لما أتت ساعة الصليب عرف يسوع أن الآب قد حدد «ساعة» يعطي فيها للإنسان حرية التصرف والرد على محبة الآب التي ظهرت في يسوع المسيح، بعد ثلاث سنوات قدم فيها يسوع للإنسان كل المحبة والرعاية والخدمة كان لابد أن يُعطى الإنسان «ساعة» يعبِّر فيها عن رد فعله تجاه يسوع، أن يعطوه أجرة خدمته لهم (زك11: 12) وكانت هذه الأجرة هي «الصليب»!!
كانت هذه الساعة في الأساس «ساعتهم» أي ساعة الإنسان، ولكن لأن الإنسان أسلم نفسه للشيطان أصبحت أيضاً ساعة لسلطان الظلمة، ومعرفة يسوع لهذه الساعة جعلته يستعد جيداً لها وبالتالي استطاع أن يواجهها بثبات، معرفته بأن هذه الساعة هي في صميم مشيئة الآب جعلته يقبلها برضا وخضوع، لم يُفاجأ يسوع بالأحداث التي تجري حوله بل كان يتوقعها لذلك استطاع أن يجتازها بسلام بل ويتمم مشيئة الآب فيها!!

ليت الرب يفتح عيوننا على طبيعة الأوقات والأزمنة التي نجتازها في حياتنا الخاصة وفي بلادنا لكي نستطيع أن نجتازها بثبات بدون اضطراب ونتمم مشيئة الله فيها، وللحديث بقية (يتبع)