الثلاثاء، 4 نوفمبر 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (6)
فخرى كرم
«كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه» (أش53: 7)
كان سيدنا عظيماً وبليغاً في سكوته تماماً كما كان عظيماً وبليغاً في كلامه، كان نموذجاً للإنسان الكامل الذي يعرف متى يتكلم ومتى يسكت، حتى استحق أن يُذكر صمته في النبوة قبل مجيئه بمئات السنين.
عندما تعرَّض أيوب لمحاكمة أصحابه واتهاماتهم لم يستطع أن يظل معتصماً بالصمت بل اندفع يتكلم لكي يبرِّر نفسه وينفي عنها الاتهام، وفي معرض دفاعه عن نفسه وجدنا الكثير من القصور بل والحماقة في الكلام، وهذا القصور وتلك الحماقة موجودة بكثرة في داخل كل واحد منا لكن ربما تحتاج إلى ظروف ضاغطة لكي تُخرجها للعلن.
ولقد تعرَّض سيدنا لمحاكمة أكبر بكثير من محاكمة أيوب ووجِّهت له اتهامات أخطر وأفظع من تلك التي وُجِّهت لأيوب لكنه مع ذلك استطاع أن يظل متمسكاً بصمته المملوء إيماناً وتسليماً لمن يقضي بعدل، أصحاب أيوب تكلموا معه بالمنطق والحجة فلم يحتمل كلماتهم أما سيدنا فقد تكلم معه الحكام بالأكاذيب والإهانات والشتائم، واستخدموا التهديد والسخرية والاستهزاء، ولجأوا للعنف والضرب والتعذيب، وانتهوا بالصلب والموت والسحق، لكن رغم كل ذلك لم تخرج من فمه كلمة لا تمجِّد الله أو تنسب له حماقة، ولقد كان هذا الصمت شديد البلاغة وعميق الدلالة، يحمل الكثير من المعاني التي ينبغي أن نتأمل فيها قليلاً:
† أولاً: لا ينبغي التكلم حين لا يكون للكلام قيمة!! قيمة الكلام أن يكون له تأثير ايجابي في نفوس سامعيه، لقد قال ربنا «ان كل كلمة بطَّالة (بلا فائدة) يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين» (مت12: 36) ويذكر الرسول بولس نفس المعنى في قوله «لا تخرج كلمة ردِّية من أفواهكم بل كل ما كان صالحاً للبنيان حسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين» (أف4: 29) ولكي يكون للكلام قيمة إيجابية ينبغي أن تتوفر النية للاستفادة من الكلام (ولو في حدها الأدنى) في نفوس السامعين، كان الرب دائماً يتوجه بكلامه لمن عندهم «أذن للسمع» أي لديهم ولو الحد الأدنى من الرغبة في الاستماع والاستعداد للاستفادة من الكلام.

في أثناء محاكمة الرب بل وقبل المحاكمة بأسبوع لم يعد لقادة اليهود «أذن للسمع» ليسمعوا أقوال الرب، لقد عقدوا النية أن يقتلوه، وفي كل مرة كانوا يتكلمون معه لم يكن الهدف أن يستفيدوا من أقواله بل أن يصطادوه بكلمة لكي يشتكوا عليه، كانوا يستدرجوه لكي يتكلم ونيتهم معقودة على اتخاذ كلماته حجة ضده، أياً كان الكلام الذي سيقوله كان سيستخدم ضده، وبالتالي فأي كلمات سيقولها الرب في موقف المحاكمة لن يكون لها تأثير ايجابي في نفوس سامعيه، لذلك قرر الرب أن يصمت لكي يعلمنا درساً مهماً وهو أننا إذا استشعرنا أن كلماتنا لن تؤثر في شيء فلا داعي للنطق بها، فما قيمة كلمات تنطق بها أمام قاضٍ قرَّر بالفعل ما سيصدره من أحكام؟! وما الهدف من كلمات تقولها إذا كان المستمعون قد عقدوا العزم ألا يستفيدوا منها؟! وللحديث بقية (يتبع)