الجمعة، 3 نوفمبر 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (10)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون» (مت5: 9)
إن الرب يسوع هو نموذجنا الكامل في صنع السلام، ولكي نفهم معنى صنع السلام لابد أن نقرأ كلمات الرسول «لأنه هو سلامنا الذي جعل الإثنين (اليهودي والأممي) واحداً ونقض حائط السياج المتوسط أي العداوة، مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض لكي يخلق الإثنين في نفسه انساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً، ويصالح الإثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به» (أف 2: 14-16)
 لقد كانت هناك عداوة شديدة بين اليهودي والأممي بسبب ناموس الوصايا والفرائض، اليهودي كان يشعر بالتميُّز والتفوُّق على الأممي لأنه يمتلك الناموس ويريد أن يتبرر به، لكن عندما أبطل ربنا بذبيحته ناموس الوصايا والفرائض جمع اليهودي والأممي ليكونوا واحداً في شخصه، وهكذا صنع سلاماً ونقض حاجز العداوة القائم بينهما. وبنفس ذبيحته قتل يسوع العداوة التي كانت قائمة بين الإنسان (اليهودي والأممي) وبين الله، عندما جمع ربنا جميع البشر في نفسه انساناً واحداً وقدم عنهم ذبيحة مقبولة أمام الله، وهكذا انتهت العداوة القائمة بين الله وبين الكيان الخاطئ لكل إنسان يستتر في ذبيحة المسيح، سواء كان يهودي أو أممي.
نفهم من هذا النموذج الكامل أن صناعة السلام هي خلق حالة من التوافق بين الأطراف المتخاصمة ونقض جدران العداوة الفاصلة بين الأطراف المتباعدة، كما جمعنا الرب وصالحنا في شخصه رغم اختلافاتنا الكثيرة هكذا يريدنا أن نتمثل به ونسعى في حياتنا لجمع الأطراف المختلفة معاً صانعين بينهم سلاماً، وكما بذل الرب دمه ليصنع سلامنا هكذا نحن قد ندفع ثمناً غالياً لنصنع السلام ولكننا بهذا نبرهن عملياً أننا أبناء الله ولسنا أبناء إبليس، لأن منهج ابليس الذي يزرعه في هذا العالم يختلف جذرياً عن منهج صناعة السلام.
 ان منهج إبليس هو خلق الخصومة والعداوة بين الأطراف المتصالحة، انه النموذج الكامل لكل «زارع خصومات بين اخوة» (أم 6: 19) أنه الأب الروحي لكل خصام وبغضة وعداوة وقتل (يو8: 44) انه يسعى لبناء جدار عازل بين كل اثنين متجاورين ويحاول أن يخلق خصومة بين كل متحابين!! يسعى دائماً لتحويل الاختلاف إلى خلاف وتحويل الخلاف إلى خصومة وتحويل الخصومة إلى عداوة وتحويل العداوة إلى قتل!! انه يقتدر في تأجيج أعظم النار من مستصغر الشرر ويعرف كيف يفتح كل السبل أمام الكراهية كي تنتشر وتسود، إن ابليس يتبع منهج «فرَّق تسد»!! ان سبيله للسيطرة على العالم هو اضعاف الإنسان وتدمير قوته من خلال العداوة المزروعة بين الجميع.
 ان نظرة واحدة للأحداث الجارية حولنا تثبت لنا أن منهج إبليس ومملكته هو السائد اليوم في العالم عموماً وفي مجتمعنا خصوصاً، نستطيع أن نرى بوضوح انتشار الخصومات والبغضة بين البشر في كل مكان، جدران العزلة والتجنب ترتفع في كل بيت بين أفراد الأسرة الواحدة، سياج البغضة والإقصاء يتعاظم في كل يوم بين أفراد المجتمع الواحد، تستطيع أن ترى ذلك بوضوح في الوجوه الشاحبة والعيون الدامعة والدماء الصارخة من الأرض من دم هابيل وحتى يومنا هذا!!
 الأمل الوحيد لمجتمعنا المتألم هو في أبناء ملكوت الله الذين يتبعون منهج يسوع في صناعة السلام، الذين يسعون في حياتهم لهدم الحواجز ومسح الدموع وزرع المحبة، قد يدفعون ثمناً باهظاً لصناعة هذا السلام لكن طوبى لهم لأنهم أبناء الله يُدعون!! وللحديث بقية (يتبع)


الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (9)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله» (مت5: 8)
كينونة الإنسان تتكون من كيانين أساسيين، الكيان الخارجي الظاهر والكيان الداخلي الخفي (2كو4: 16) الكيان الخارجي هو سلوكيات الإنسان التي يراها الناس أما الكيان الداخلي فتتجمع فيه أفكار ودوافع الإنسان الخفية التي لا يراها الناس، وهذا الكيان الباطن الخفي هو ما يسميه الكتاب «القلب» وعن هذا قال السيد «لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل، جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان» (مر7: 21-23)
وعادة يهتم الإنسان بكيانه الخارجي أكثر من كيانه الداخلي، والسبب هو أن الناس ترى الكيان الخارجي ومن خلاله تحكم على صاحبه ايجاباً أو سلباً، ولأن الإنسان يهتم كثيراً بحكم الناس وبصورته أمامهم لذلك هو يهتم بتزيين كيانه الخارجي أكثر من اهتمامه بنقاء كيانه الداخلي، وفي هذا قال السيد «أنتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس والقصعة وأما باطنكم فمملوء اختطافاً وخبثاً، يا أغبياء أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضاً؟!» (لو11: 39، 40)
أما الله فعلى العكس من الناس لا ينظر كثيراً إلى خارج الإنسان بقدر ما ينظر إلى قلبه «لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فينظر إلى القلب» (1صم16: 7) الله يهتم أكثر بصلاح القلب لأن صلاح القلب يحتِّم بالضرورة جمال الخارج أما تزيين الخارج فلا يعني بالضرورة صلاح القلب!! الكيان الداخلي دائماً يؤثر وينعكس على الكيان الخارجي لكن العكس ليس صحيحاً، فالإناء ينضح بما فيه أو كما قال السيد «من فضلة القلب يتكلم الفم، الانسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات» (مت12: 34، 35) فلا يمكننا بتزيين السلوك الخارجي أن نُصلح القلب في الداخل، بل أن الواقع العملي يؤكد أننا قد ننجح في تنقية الخارج ويظل الداخل فاسداً وقد يستطيع الإنسان أن يكرم الله بشفتيه ويظل القلب مبتعداً عنه بعيداً (مر7: 6) وهذا ما يسميه الرب «الرياء»!!
في التطويب السادس يؤكد الرب أن أبناء ملكوت الله يتميزون بنقاء القلب، انهم على العكس من أبناء العالم لا يهتمون بصورتهم أمام الناس بقدر اهتمامهم بنقاء قلوبهم أمام الله، عندما يفحص الروح أعماقهم الخفية يجد أفكاراً نقية ونوايا طاهرة ودوافع شريفة، لسان حالهم دائماً يقول «قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي» (مز51: 10) وأيضاً «اختبرني يا الله واعرف قلبي امتحني وأعرف أفكاري» (مز139: 23) وهذا لا يعني أبداً أنهم يهملون في سلوكياتهم أمام الناس لأننا اتفقنا أن الداخل النقي لابد أن ينضح على صورتهم الخارجية بزينة مقدسة خالية من الرياء.

والرب يؤكد أيضاً أن نقاء القلب هو الطريق لرؤية الله في حياتنا، الله كلي الصلاح والنقاء وليس فيه أي اعوجاج أو رياء، ولكي نستطيع أن نتعامل مع الله وجهاً لوجه لابد أن نمتلك قلوباً صالحة ونقية ولو في حدها الأدنى، فأبسط قواعد العلاقة الصحيحة بين طرفين هو الحد الأدنى من التوافق والانسجام بين قلبيهما، لا يمكن لإلهنا الصالح أن يعلن عن نفسه أو يدخل في علاقة حميمة مع قلب غير صالح وغير نقي!! إن الطريق الوحيد لنختبر حضور الله في حياتنا هو أن نترك روح الله ينقي قلوبنا من كل دنس، أما إذا أهملنا نقاء قلوبنا فلابد أن نعاني من عدم رؤيتنا لله عاملاً في حياتنا بوضوح، وللحديث بقية (يتبع)      

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (8)
بقلم : فخرى كرم 
«طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون» (مت5: 7)
الرب هنا يشير إلى صفة جديدة تميز أبناء الملكوت وهي أنهم رحماء، والرحمة في أبسط معانيها هي رفع الأثقال عن كاهل الآخرين، فالرحيم هو الشخص الذي يشعر بأثقال الناس ويعمل دائماً لرفعها عنهم أو على الأقل تخفيفها، مقتدياً بسيده الذي كان يجول يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم ابليس، يسوع الذي دعا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال لكي يريحهم، يسوع الذي نراه في آخر لحظات حياته لا يتوانى أن يرفع ثقل الخطية عن كاهل اللص المعلَّق بجواره، يسوع وهو يتوجع مصلوباً لم ينسَ أن يرفع عن أمه هموم الأيام التالية عندما طلب من يوحنا أن يأخذها إلى خاصته !! فأثقال الناس قد تكون ذات طبيعة روحية مثل خطايا اللص المصلوب وقد تكون ذات طبيعة نفسية مثل ثقل الحزن والوحدة الذي كانت الأم المكلومة تنوء تحته!!
الرحمة هي أن تفعل الخير للآخرين بغض النظر عن استحقاقهم للخير أو عدم استحقاقهم، إذا قدمنا الخير للمستحقين فقط فلا يُعد عملنا هذا رحمة، عمل يسوع الرحمة مع الأحباء والأعداء، مع الأبرار والأشرار    وعلَّمنا ألا نحب الذين يحبوننا فقط بل نحب أعداءنا ونُحسن إليهم ونصلي لأجلهم، وفي مَثَل السامري الصالح علَّمنا يسوع أن نصنع الرحمة مع القريب ومع العدو، فالدافع الأوحد للرحمة هو صلاح الراحم وليس صلاح من تتجه إليهم الرحمة!!
والرحمة هي أن ترفع أثقال الآخرين دون أن تنتظر منهم مقابلاً أو تتوقع منهم امتناناً، فالراحم يرحم بسرور لأن هذه هي طبيعته ودون انتظار لأي مجازاة، سروره الحقيقي أنه يتشبه بسيده ويتمم مشيئته!!
الله يريد أن يرى الرحمة في كل سلوكياتنا، بل أنه يعتبر الرحمة هي جوهر العبادة المقبولة، وبدون الرحمة تصبح عبادتنا ممارسات جوفاء لا معنى لها!! قدم الشعب قديماً صوماً لله لكن الرب لم ينظر إليهم ولم يستجب، ولما تساءل الشعب «لماذا صمنا ولم تنظر؟ ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟» كانت إجابة الرب لهم على فم إشعياء «أليس هذا صوماً أختاره: حلَّ قيود الشر، فك عقد النير وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كل نير، أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تُدخل المساكين التائهين إلى بيتك، إذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك» (أش 58)
هذه القائمة من الأعمال هي ببساطة أعمال الرحمة التي ينتظر منا الرب أن نعملها مع الجميع، لقد ظن الشعب أنه يستطيع أن يقدم للرب طقوساً دينية مقبولة دون أن تظهر في حياتهم اليومية أعمال الرحمة، لقد أخطأوا فهم طبيعة إلههم وظنوه يُسر بالتقدمات والذبائح مثل آلهة الأمم الباطلة، بينما الحقيقة هي أن إلهنا لا يرضى إلا بكل ما يتفق مع طبيعته الصالحة والرحيمة. ولقد أشار الرب يسوع لكلمات اشعياء هذه عندما قال مرة لمنتقديه «اذهبوا وتعلَّموا ما هو: إني أريد رحمة لا ذبيحة» (مت9: 13) ما أسهل أن يقدم الإنسان ذبيحة لكن ما أصعب أن يقدم رحمة!!                                                          ووعد الرب للرحماء أنهم بلا شك يُرحمون، وهذا تأكيد للقانون الإلهي «لا تضلوا، الله لا يُشمخ عليه (لا يُخدع) فان الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً» (غل6: 7) مَن يختار أن يُرضي الله ويتوافق معه في عمل الرحمة لابد أن يجد رحمة الله تحيطه من كل جهة، أما مَن يظن أنه يستطيع أن يقدم عبادات لله دون أن يتخذ الرحمة منهجاً لسلوكه فهو يظن أنه يستطيع أن يخدع الله، وهذا هو الضلال بعينه!! وللحديث بقية (يتبع)                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                              


السبت، 29 يوليو 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (7)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يُشبعون» (مت5: 6)
أقوى احتياج في كيان الإنسان هو الاحتياج للأكل والشرب، منذ اللحظة الأولى للميلاد نجد المولود يعلن قدومه إلى العالم بالصراخ طالباً للطعام، ويظل الإنسان طوال أيامه يسعى في دروب الدنيا بحثاً عما يأكله ويشربه، ان الجوع والعطش هما الدافع الأقوى الذي يدفع الإنسان للسعي والاجتهاد في الحياة، لأن الانسان إذا لم يجد ما يأكله ويشربه فانه يفقد الحياة نفسها.
إذا كان هذا حقاً على الصعيد الطبيعي والجسدي فالرب يضيف هنا أن الروح الإنسانية المولودة في ملكوت الله تجوع وتعطش أيضاً للبر، جوع وعطش روحي بنفس الحاح وعمق الجوع والعطش الجسدي، جوع وعطش يشكِّل دافعاً قوياً للسعي الروحي في دروب ملكوت الله، جوع وعطش لا تستطيع أي أمور مادية أو نفسية أن تشبعه، لا يشبع إلا بإدراك «البر» وتحقيقه.
ولقد تكلم الرب في نفس الموعظة على الجبل عن قلق الناس واهتمامهم وطلبهم للأكل والشرب الجسدي، ولكنه طلب منا باعتبارنا أبناء ملكوت الله أن يكون اهتمامنا وطلبنا هو أولاً لملكوت الله و«بره» مع وعده بأن يعطينا ويُزيد لنا ما نحتاج اليه من الأكل والشرب الجسدي (مت6: 31-33)
ولكي نفهم ما هو «البر» الذي نجوع إليه ولا نشبع إلا به دعونا نراه في كلمات الرب لتلاميذه عند بئر سوخار «أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم، طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو4: 32، 34) ان الطعام الذي تتغذى عليه الروح المولودة في ملكوت الله هو أن تصنع مشيئة الله في حياتها، ولا تشعر هذه الروح بالشبع إلا إذا شهد الروح القدس لها أنها أتمت هذه المشيئة!!
هذا لا ينفي أن جسد الرب كان جائعاً وعطشاً للخبز والماء بدليل أنه أرسل تلاميذه ليبتاعوا طعاماً وطلب من المرأة السامرية أن تعطيه ماءً ليشرب، لكن بالإضافة لهذا الجوع والعطش الجسدي كان يعتمل في قلب يسوع جوع آخر روحي، جوع لا يقل عمقاً والحاحاً عن جوع الجسد، جوع لعمل مشيئة الآب السماوي بشكل تام وكامل، وفي ذلك اليوم كانت مشيئة الآب هي خلاص هذه المرأة السامرية، كان هذا هو «البر» الذي يجوع اليه يسوع ويعطش ويريد أن يتممه حتى يشبع.
 ولكي يكتمل هذا الحق الكتابي أمامنا لابد أن نقرأ ما قاله الرب للشيطان في تجربته الأولى على الجبل «فأجاب وقال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله» (مت4: 4) هنا الرب لا ينفي أن الجسد يجوع للخبز لكي يحيا ولكنه يضيف أن الروح المولودة في ملكوت الله تجوع أيضاً لكل كلمة تخرج من فم الله، وهذه الكلمة التي تخرج من فم الله هي التي تعلن لنا مشيئته في حياتنا، وبمجرد خضوعنا لهذه الكلمة ينشأ جوع جديد في أعماقنا لننفذ هذه المشيئة ونحوِّلها إلى واقع ملموس على الأرض، فاذا كان «الحق» هو مشيئة الله المعلنة في كلمته الخارجة من فمه فإن «البر» هو هذه المشيئة عندما تتحول في حياتنا إلى سلوك عملي!! والدليل الحقيقي لنجاح المؤمن في تحقيق مشيئة الله على أرض الواقع هو الإحساس الروحي العميق بالشبع، عندما أتم يسوع مشيئة الآب في حياة السامرية شعر بالشبع والارتواء لدرجة أنه لم يتناول من الطعام الذي أتى به التلاميذ!! والعكس أيضاً صحيح، فالدليل الأكيد لفشلنا في تحقيق مشيئة الله هو إحساسنا العميق بعدم الشبع وعدم الارتواء!! وللحديث بقية (يتبع)


الأحد، 2 يوليو 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (6)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض» (مت5: 5)
يمتدح الرب هنا صفة أخرى من صفات أبناء الملكوت وهي صفة الوداعة، والوداعة هي إعطاء الآخرين حقوقهم وعدم التعدي على حريتهم. الشخص الوديع كما يعطي لنفسه الحق في أن يؤمن بما يقتنع به يعطي أيضاً للآخرين حقهم في أن يؤمنوا بما يقتنعون به حتى لو كان مختلفاً عن ايمانه، الشخص الوديع يجتهد في الترويج لما يؤمن به لكنه يعرف حدوده جيداً ويعرف متى يتوقف ليعطي الآخرين الفرصة لتقييم ما سمعوه قبولاً أو رفضاً، الشخص الوديع لا يفرض رأيه على الآخرين بالقوة أو التهديد لكنه يحترم حريتهم في أن يأخذوا برأيه أو يرفضوه، وفي الحالتين سواء قبلوا رأيه أو رفضوه هو يستمر يحبهم بذات الدرجة والكيفية!!
لكل انسان مساحة من حرية الارادة والفكر والعمل، والشخص الوديع هو الذي يسير وسط الناس مدركاً لهذه المساحة التي للآخرين ولا يحاول أبداً أن يخترقها أو يسلبها منهم، الشخص الوديع لا يستثمر قدراته في جعل الآخرين ينساقون وراء أفكاره ليفعلوا ارادته هو، انه لا يدخر وسعاً لخدمتهم لكنه لا يسعى من وراء هذه الخدمة لسلب حريتهم أو اقتناص ارادتهم لخدمة أغراضه الشخصية، انه يحترم مساحة الخصوصية التي للآخرين ويدرك أن حدود حريته تنتهي عند حدود حرية الآخرين!!
ولكي نفهم الوداعة بالحق لابد أن نراها عملياً في حياة ربنا يسوع المسيح، الذي قال عن نفسه أنه وديع ومتواضع القلب، لقد كان ربنا يمتلك الحق الكامل بل كان هو في ذاته الطريق والحق والحياة، ومع ذلك نجده لا يفرض فكره أو ارادته على أحد بل يحافظ دائماً للآخرين على مساحة حريتهم، كان بعد كل مرة يتكلم فيها بالحق يختم كلماته بعبارة «من له أذنان للسمع فليسمع»!! وعندما تركه الناس ورفضوا كلامه لم نجده يغضب أو يهدد بل يلتفت لتلاميذه ليؤكد لهم أنهم هم أيضاً أحرار إن أرادوا أن يتركوه ويمضوا (يو6: 67)!!
وعندما كان سيدي يفعل احساناً لإنسان لم يكن يقصد أن يأسر هذا الانسان بإحسانه، اسمعه يقول لبارتيماوس «اذهب، ايمانك قد شفاك» أو للمرأة الخاطئة «اذهبي بسلام» أو للمرأة المُمسكة في ذات الفعل «اذهبي ولا تخطئي أيضاً»، ان كلمة «اذهب» تعني «أنت حر، خذ الإحسان واذهب في طريقك الذي تختاره، احساني غير مشروط وأنا لا أقصد منه اقتناص ارادتك أو التعدي على حريتك»!!     
اننا لا نستطيع أن نفهم حقيقة أحداث الصليب إلا إذا فهمنا معنى الوداعة، لماذا ترك الرب يهوذا يخونه دون أن يمنعه؟ لماذا ترك رؤساء اليهود يتآمرون عليه ولم يهرب؟ لماذا سلَّم نفسه للأحكام الظالمة والآلام القاسية دون شكوى أو تهديد؟ هل كان الرب في هذا الوقت «ضعيفاً»؟ حاشا، بل كان سيدي «وديعاً»!! بعد خدمته الكاملة لشعبه كان لابد أن يعطيهم حقهم في قبول خدمته أو رفضها، كان يحتفظ لهم بحريتهم في اتخاذ رد الفعل المقابل لإحسانه وخدمته، حتى لو كان رد الفعل للإحسان هو الخيانة والغدر!!

   صفة الوداعة هذه غير موجودة في طبيعتنا البشرية الساقطة، وعبثاً تبحث عنها في قلوبنا الرديئة، فالقلب البشري يجد لذته في امتلاك ما ليس له والتعدي على ما للآخرين، قلوبنا في حالة صراع يومي لامتلاك إرادة الآخرين وتسخيرهم لفعل ارادتنا، اننا نستخدم الترهيب والترغيب لنستميل الناس وراءنا لتحقيق أغراضنا الذاتية، نحن نشعر بسعادة غامرنا إذا امتلكنا مساحات في عقول الناس وملأناها بأفكارنا الشخصية، ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)

الأربعاء، 31 مايو 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (5)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون» (مت5: 4)
من العجيب أن يطوِّب سيدنا الحزانى، فالمنطق السائد في العالم هو أن نطوِّب السعداء وليس الحزانى، وهذا يؤكد أن القوانين التي تحكم ملكوت الله تختلف جذرياً عن القوانين التي تحكم ملكوت هذا العالم!! ولكي نفهم طبيعة هذا الحزن المقدس لابد أن نراه في حياة يسوع على الأرض، فهو الذي قال عنه إشعياء «رجل أوجاع ومختبر الحزن.. أما الرب فسُر أن يسحقه بالحزن» (53: 3، 10) لقد وصل الحزن في حياة ربنا إلى درجة الانسحاق، لكن العجيب أن ربنا وهو ينسحق بهذا الحزن كانت تصعد منه رائحة سرور أمام الآب، والسبب هو أن نوعية هذا الحزن نوعية إيجابية مقدسة تُدخل السرور الى قلب الله!!
ما هي طبيعة هذا الحزن الذي ملأ قلب ربنا وسحق مشاعره؟ الجواب نجده في نفس كلمات إشعياء «لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها» (53: 4) لقد حمل ربنا أحزاننا وأوجاعنا وانسحق بها، لم يكن حزن يسوع حزن شخصي لأجل أمور تخصه، لكنه حمل أحزان شعبه وتألم معهم ولأجلهم، لقد وضع نفسه في مكان الإنسان وحمل أثقاله وتألم بها أمام الله، لقد حمل على قلبه كل أنواع الحزن في حياة البشر بداية من الأمراض والأوجاع والموت وصولاً لجذر وأصل كل الأحزان ألا وهو الخطية، رأيناه يتعاطف مع المرضى ويئن في مواجهة المقيدين بأرواح نجسة وتسيل دموعه عند قبر لعازر، وأخيراً حمل معاصينا وجُرح بها واحتمل آثامنا وانسحق تحتها (53: 5)
الحزن المقدس هو شعور فاعل وايجابي، عندما حزن يسوع لأجلنا لم يقف مكتوف الأيدي لكنه تقدم وحمل هذه الأحزان وقدم نفسه ذبيحة إثم لله لكي يرفع عنا هذه الأحزان، ان مشاركة الآخرين أحزانهم والعمل باجتهاد لرفع هذه الأحزان عن كاهلهم هي العلامة الأكيدة للمحبة الحقيقية، المحبة الحقيقة لا تكتفي بالرثاء للآخرين أو مواساتهم بكلمات لا تكلف صاحبها شيئاً لكنها تتقدم لتضع كتفها تحت أثقالهم وترفعها عنهم، وكما فعل يسوع معنا هو ينتظر منا أن نفعل مع الجيل الذي نعيش فيه، ينتظر منا أن نحزن لأجل أحزانهم ونحمل على قلوبنا معاناتهم، وأن تتحول مشاعر الحزن هذه إلى طاقة إيجابية تجعلنا نعمل بكل طاقتنا ونسكب نفوسنا أمام الله لكي يعطينا القدرة لرفع اثقالهم وتغيير واقعهم الحزين!!
كل نهضة مباركة حدثت على مدار التاريخ كانت بدايتها مشاعر حزن مقدس تحركت في قلب انسان مُحب لشعبه، قلب حمل أوجاع الناس وسكب نفسه أمام الله لأجلهم، قلب رفض أن يعيش بأنانية منحصراً في ذاته، قلب اعتبر قضية الشعب هي قضيته وأحزانهم هي أحزانه، قلب رفض أن يتعزى حتى يرفع الله أثقال الشعب ويغيِّر واقعهم، قلب تنطق نبضاته بكلمات النبي الباكي «يا ليت رأسي ماء وعينيّ ينبوع دموع فأبكي نهاراً وليلاً قتلى بنت شعبي» (أر9: 1) 

ان طبيعتنا البشرية لا تعرف هذه النوعية من الحزن المقدس، ان مشاعرنا أنانية بطبعها ولا تعرف أن تحزن لأجل الآخرين أو تحمل أوجاعهم، اننا نحزن فقط لأجل ما يخصنا، ننكفئ على أنفسنا وننحصر في آلامنا ونقضي أيامنا نرثي لذواتنا، هذا الحزن الأناني السلبي لا ينتج أي خير بل يُنشئ موتاً (2كو7: 10) نحتاج الطبيعة إلهية تنسكب في قلوبنا حتى نستطيع أن نقتدي بيسوع ونمتلك قلباً مثل قلبه، قلب يحمل أحزان الآخرين ولا يتعزى حتى تأتي تعزية السماء لهذه النفوس الحزينة، وللحديث بقية (يتبع) 

الأحد، 30 أبريل 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (4)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات» (مت5: 3)
أول صفة لأبناء الملكوت الحقيقيين هي المسكنة بالروح، إنها الأولى في الترتيب وفي الأهمية لأنها مصدر لكل البركات الأخرى التي يتمتع بها أبناء الملكوت، «المسكنة بالروح» هي ببساطة أن يعيش الإنسان بحسب حقيقته بلا تزييف، وحقيقة الإنسان هي أنه مسكين لا يمتلك شيئاً في ذاته ويحتاج إلى أن يأخذ من الله كل شيء أولاً بأول.
يعلمنا الكتاب أن الله هو المصدر الوحيد لكل شيء في الخليقة، أعين الكل إياه تترجى وهو يعطيهم طعامهم في حينه، عندما يفتح يده يُشبع كل حي رضى (مز145: 15، 16) الله وحده يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء حتى أننا به نحيا ونتحرك ونوجد (أع17: 25، 28) وعلى العكس نتعلم من هذه الشواهد الكتابية أن الإنسان ليس مصدراً لأي شيء بل هو يحتاج أن يترجى الله دائماً ويرفع عينيه على شخصه الكريم لكي يأخذ منه طعامه في حينه أي أولاً بأول، بل لكي يأخذ منه الحياة والقدرة على الحركة والوجود ذاته، أي أن الإنسان «مسكين» لا يمتلك شيئاً ويحتاج إلى الله في كل شيء!!
هذه الحقائق إن تمكنت من روح الإنسان ونزلت إلى أعماقه وترسخت في جذوره تجعله مسكيناً بالروح، وهذه المسكنة بالروح ليست روح سلبية بل هي روح إيجابية تدفع الإنسان في كل لحظة ليرفع عينيه وقلبه إلى الله طالباً احتياجه أولاً بأول، هي روح تجعل الإنسان يفتح أعماق روحه ونفسه وجسده في كل يوم لينال من الله الحياة والقوة والوجود، هي روح يملأها الشكر والتسبيح دائماً لأنها تدرك أن كل ما عندها هو عطية من الله الكريم، هي روح لا يمكنها التكبُّر والتعالي على الآخرين لأنها تعرف جيداً أنها لا تستحق شيئاً في ذاتها وإنها تحيا فقط بنعمة الخالق، هي روح لا تعرف الشكوى ولا التذمر ولا تستطيع أن تحسد أحداً لأنها تعرف أن الإله الصالح الذي يعطيها كل شيء مجاناً له الحق المطلق في أن يعطي الآخرين أيضاً بحسب إرادته الصالحة.
هذه الروح المباركة إن تمكنت من الإنسان تجعل أرضه متهيئة لقبول كل المطر النازل عليها من فوق، تجعل الطريق مفتوحة وسهلة لقبول كل عطايا الله بلا حدود، العطايا الروحية والنفسية والمادية، أو كما قال ربنا «لهم ملكوت السموات»، أي لهم الحق و القدرة أن يتمتعوا بكل بركات وأمجاد ملكوت الله، ولذلك قلنا أن هذه الصفة في أبناء الملكوت هي الأولى والأهم لأنها تفتح الطريق لكل الصفات والبركات الأخرى.
روح الإنسان الطبيعية غير المولودة من الله لا تعرف روح المسكنة هذه ولا تقبلها ولا تحبها، من وقت السقوط وروح الإنسان الطبيعي تسعى للانفصال عن الله والاستقلال عنه، الروح الإنسانية تريد أن تشعر أنها قوية في ذاتها وغنية إلى حد الاستغناء ولا تحتاج إلى شيء (رؤ3: 17) الروح الطبيعية تحب أن تفتخر وتتعالى على الآخرين بما تظن أنها تمتلكه بينما الحقيقة أنها لا تمتلك شيئاً وأن كل ما عندها قد أخذته من الله (1كو4: 7) الروح الساكنة في أعماق الإنسان الطبيعي لا تحب أن ترفع عينيها إلى الله ولا تعرف أن تشكر لأجل ما في يديها لأنها لا تصدق أن الله هو مصدر كل ما عندها، وفي المقابل هي تصرف كل وقتها تنظر لما في أيدي الآخرين وتحسدهم إلى درجة البغضة لأنها لا تريد ولا تؤمن بصلاح الله الذي يشمل جميع البشر.

هذه الروح الرديئة تحرم أصحابها من الدخول إلى ملكوت السماوات والتمتع ببركاته، ليس لأن الله لا يريد لهم البركة لكن لأن هذه الروح تجعل أرض حياتهم غير متهيئة لاستقبال البركة!! وللحديث بقية (يتبع)

الاثنين، 3 أبريل 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (3)
بقلم : فخرى كرم
يبدأ الرب موعظته على الجبل بقائمة من الصفات التي تميز أبناء الملكوت والتي اعتادنا أن نسميها «التطويبات»، ولابد أن نلاحظ أنها قائمة من «الصفات» وليست قائمة من «الوصايا»، فالرب في هذه القائمة لا يأمرنا أن «نفعل» بعض الأشياء لكي ندخل إلى ملكوت الله لكنه بالأحرى يصف لنا «الصفات» الروحية لأصحاب السعادة الذين دخلوا الملكوت، فالموعظة على الجبل ليست وصايا مقدمة للإنسان الطبيعي للارتقاء بمستواه الأخلاقي بل هي تتحدث عن طبيعة جديدة موجودة في أبناء الملكوت تشبه طبيعة أبيهم السماوي، وهذه الطبيعة تعيش بتلقائية وتتصرف بالتوافق مع طبيعة ومشيئة الآب السماوي. الفرق الجوهري بين ناموس جبل سيناء وبين موعظة جبل الجليل أن الناموس يأمر الإنسان الطبيعي أن يعمل أعمالاً للوصول إلى رضا الله أما موعظة الجبل فتصف طبيعة حياة هؤلاء السعداء الذين يعيشون فعلاً في رضا الله.
الفرق شاسع بين أن تطالب الإنسان أن يعمل أعمالاً من الخارج حتى وإن كانت مضادة لطبيعته وبين أن تكون هذه الأعمال نابعة من طبيعته القلبية الداخلية. قد يستطيع الإنسان الساقط أن يجبر نفسه على عمل بعض الأعمال الصالحة لبعض الوقت ولكنه لا يستطيع أن يفعل هكذا كل الوقت لأن طبيعته الساقطة ستجبره يوماً على فعل الشر، أما إذا كان الصلاح قد صار جزءاً من طبيعته فسيظل يعمل الصلاح كل الوقت ومع كل الناس، الطبيعة البشرية الساقطة تستطيع أن تعمل الخير من الخارج لكي يراها الناس ولكنها لا تستطيع أن تعمل نفس الخير في الخفاء لأنه غير موجود في عمق طبيعتها، بينما تجد أبناء الملكوت يعملون الخير ظاهراً وفي الخفاء لأن الخير صار في صميم طبيعتهم ولا يستطيعون أن يعملوا شيئاً بخلافه!!
الرب في موعظة الجبل لا يأمر الإنسان المتكبِّر بطبعه أن يكون مسكيناً بالروح فهذا أمر مستحيل، ولكنه بالحري يشير إلى قوم استطاعوا أن ينالوا من الروح القدس طبيعة أخرى تتميز بالمسكنة الروحية وهؤلاء سعداء جداً لأن لهم ملكوت السماوات!! الرب لا يأمر الإنسان الشرس بالطبيعة صاحب الأقدام السريعة إلى سفك الدم أن يكون صانعاً للسلام، حاشا، لكنه يطوِّب قوماً نالوا من الله طبيعة جديدة تعرف أن تصنع السلام دائماً ولا تعرف أن تصنع غيره، هؤلاء لا يصنعون السلام لكي يصلوا إلى غرض ما بل لأن السلام صار جزءاً من طبيعتهم عندما صاروا أبناء لله!!

لابد أن نميز هذا الفرق الجوهري بين الناموس وموعظة الجبل إذا أردنا أن نفهم كلمات الرب ونستفيد منها، فكل من يتعامل مع موعظة الجبل على أنها وصايا مقدمة للإنسان لكي يعيشها بطبيعته الساقطة لابد أن يكون الفشل مصيره، فطبيعتنا الساقطة لا تفهم هذه الصفات ولا تقبلها (1كو2: 14) وإذا حاول الإنسان الطبيعي أن يعيش الموعظة على الجبل لقدَّم لنا سلوكيات ممسوخة ومشوَّهة، تثير السخرية والاشمئزاز أكثر مما تثير الإعجاب، تُظهر غير ما تُبطن وتقول عكس ما تقصد، تمد يداً بالخير وتخفي سكيناً في اليد الأخرى، تجعل الإنسان المتعجرف العابد لذاته حتى النخاع يعظ عن الوداعة والمسكنة بالروح، يركع سجوداً لكي يراه الناس بينما قلبه يحلِّق عالياً في كبريائه، تدفع الذئب ليحاول أن يصنع سلاماً بين المتخاصمين أو تجعله يتقدم ليرعى الغنم ويجمع الخراف المشتتين!! ليتنا جميعاً نكون قد قبلنا من الروح القدس الطبيعة الجديدة القادرة على السلوك بحسب طبيعة الآب السماوي، وللحديث بقية (يتبع)

الأربعاء، 1 مارس 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (2)
بقلم : فخرى كرم
قبل أن نخوض في مواد الموعظة على الجبل لابد أن نتوقف قليلاً لنعقد مقارنة سريعة بينها وبين الناموس القديم، فهناك أوجه للشبه وهناك أوجه أخرى للاختلاف، من جهة التشابه نجد أن كلاهما قُدم في بداية عهد جديد لشعب الله، الناموس أعطاه الله لموسى على الجبل بعد الخروج من مصر وفي بداية مسيرة الشعب للدخول إلى أرض الموعد، وموعظة الجبل أعطاها يسوع على الجبل لتلاميذه في بداية خدمته ودعوته الشعب للدخول إلى ملكوت الله، كلٌ منهما كان يرسم منهجاً لمرحلة جديدة قادمة في حياة شعب الله، وكلٌ منهم كان يشرح ارادة الله التي يريد تحقيقها في شعبه.
  لكن من جهة المضمون هناك اختلاف كبير بين ناموس جبل سيناء وموعظة جبل الجليل، كان الناموس يوصي الشعب كيف يسلكون كشعب الله بين الشعوب الأخرى، كيف يكونون شعباً مقدساً يحبون الرب إلههم ويلتصقون به فلا يرتكبون الخطايا الشائعة في الشعوب المحيطة بهم، لا يقتلون ولا يسرقون ولا يزنون ولا يشهدون بالزور ولا يشتهون ما للآخرين، كان الهدف هو صناعة شعب أرضي أرقى أخلاقياً من الأمم الأخرى يكونون إعلاناً لسائر الشعوب وبرهاناً أن يهوه هو الإله الحقيقي وأن الصلاح والبر والاستقامة هم طريق الحياة المثمرة وليس الشر والعنف والنجاسة، ولو عاش الشعب بحسب الناموس لكان نوراً لسائر الشعوب وقدوة صالحة تقود كل الأرض لمعرفة الإله الحقيقي وحده، وكان وعد الرب للشعب إن حافظ على وصايا الناموس أن يباركهم بكل البركات الأرضية من زيادة وإثمار في النسل والصحة وخيرات الأرض.
لكن تاريخ الشعب القديم يؤكد فشل الشعب في معظم الفترات في حفظ الوصايا أو تتميم مشيئة الله التي قصدها من إعطاء الناموس، لم يستطع الشعب أن يعلن عن الرب إلهه اعلاناً صحيحاً، لم يحبوا الرب إلههم ولم يلتصقوا به فتسربت إليهم نفس خطايا الشعوب الوثنية المحيطة بهم، أفرغوا وصايا الناموس من مضمونها الطاهر واحتفظوا بالقشور الخارجية فقط، استخدموا قشور الوصايا في ادعاء القداسة الوهمية والاستعلاء على الشعوب الأخرى ووصفهم بالكلاب بينما هم يسلكون في الخفاء نفس مسلكهم الخاطئ، وكانت النتيجة أن الرب سحب حضوره من وسطهم وسمح بتشتيتهم بين الشعوب الوثنية معلناً غضبه من فشلهم في تحقيق مشيئته الصالحة لهم.
في المقابل عندما نستمع لوصايا الرب في موعظة الجبل نجد اختلافاً جوهرياً في المضمون والهدف، فالمستوى الأخلاقي الذي يطالب به الرب في موعظته يفوق بكثير المستوى الموجود في الناموس، الرب لا يطالب بمجرد أخلاقيات متميزة لكنه يطالب تابعيه بأن يكونوا متمثلين بالآب السماوي!! المقياس الأخلاقي في موعظة الجبل لم يعد يتوقف عند عدم ارتكاب الشرور لكنه يسمو إلى فعل الصلاح المشابه للصلاح الإلهي ذاته، لم تعد المقارنة معقودة مع أخلاقيات الشعوب المحيطة بل مع صفات الآب السماوي نفسه!!

ولا شك أن هذا المستوى الأرفع للسلوك لا يمكننا الوصول إليه إلا بسكنى الروح القدس الذي كان يسوع مزمعاً أن يسكبه على تابعيه، وبالتالي لم يكن هدف الموعظة على الجبل هو صناعة شعب أرضي متميز ببركات أرضية بل خلق شعب سماوي له اتصال وارتباط روحي حقيقي بالآب السماوي، شعب يستطيع أن يقدِّس اسم الله ويُقيم ملكوته ويصنع مشيئته كما في السماء كذلك على الأرض!! وللحديث بقية (يتبع)

السبت، 28 يناير 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (1)
بقلم : فخرى كرم
أعظم موعظة سمعتها آذان البشر في كل أجيالهم، لم يستطع مرور السنين أن يقلِّل من قيمتها ولا تعاقب الحضارات أن يضعف من تأثيرها، قيلت بكلمات بسيطة لشعب الجليل البسطاء لكن أعظم العقول تعلَّمت ومازلت تتعلم منها، نطق بها سيدي على مدارج «قرن حطين» الجبلية الجرداء لكنها نُقشت بالذهب في قصور أعظم الملوك على مدار التاريخ، بل بالأحرى نُقشت بالروح في قلوب ملايين البشر الذين وجدوا فيها خلاصاً لحياتهم ونوراً لسبيلهم.
كان يسوع قد بدأ خدمته في منطقة الجليل بدعوة الشعب للتوبة وقبول «ملكوت السماوات» (مت4: 17) وهذه الخدمة المؤيدة بأعمال الشفاء والرحمة اجتذبت الجموع حوله وأثارت بداخلهم تساؤلات عن ماهية ملكوت السماوات، ما هي طبيعة هذا الملكوت الذي يتكلم عنه يسوع ومن هم رعاياه؟! على أي أسس يُبنى هذا الملكوت وما هي القوانين السائدة فيه؟! من هو الملك في هذا الملكوت وكيف يمكن التواصل معه وارضاؤه؟!
لما وجد يسوع الجموع تتزايد جداً حوله وتترك كل مشغولياتها وتتبعه، ولما قرأ هذه الحيرة والتساؤلات في عيونهم، صعد إلى الجبل وجلس كعادة المعلمين في ذلك الزمان، وبدأ يجيب بكلمات بسيطة وواضحة عن كل تساؤلات قد تعتمل في قلوب الباحثين عن ملكوت السماوات، انسكبت النعمة على شفتيه وخرجت الكلمات من فمه كالنور الذي يقشع ظلام الجهل وينير سبيل البر والفرح والسلام، وكالبلسم الذي يشفي القلوب الحزينة ويداوي النفوس الجريحة، وكسيف ماضٍ ذي حدين يحارب قوى الشر والضلال والفريسية.
على غير المتوقع لم يتكلم يسوع عن أمور خارقة ستميز ملكوت السماوات ولا عن قوى شفاء معجزية أو معاملات إلهية فائقة للطبيعة، بل أتت كلماته بسيطة وعملية تمس الواقع اليومي الذي تعيشه الناس، تكلم عن سلوكيات نمارسها يومياً في علاقتنا مع الله ومع الآخرين، تكلم عن مشاعر إنسانية ومواقف حياتية نختبرها في كل يوم، لم يتكلم يسوع عن ملكوت سينزل علينا من فوق بل عن ملكوت يبدأ من أرض الإنسان ويصعد إلى فوق، ملكوت يبدأ ببذار حية تنغرس في قلب الإنسان وتنمو بقوة الروح القدس حتى تلمس قلب الله!!
وبعدما تكلم الرب بهذه الكلمات في بداية خدمته عاش لمدة ثلاث سنين يمارس أمام الجموع ما قاله لهم في موعظة الجبل، كانت حياته العملية وسلوكه بمثابة الشرح والتفسير لكلماته وتعاليمه، كانت حياته تؤكد أن ملكوت الله حقيقة قابلة للتنفيذ وواقع يمكننا أن نعيشه، فيسوع ليس من هذا النوعية من الوعاظ الذين ينطقون بكلمات فخمة لا سبيل لتنفيذها، ولا هو من هؤلاء المعلمين الذين يضعون على الناس أحمالاً عسرة الحمل ولا يريدون أن يحركوها بأصبعهم، بل هو المعلم الفريد على مدار التاريخ الذي عاش كل كلمة نطق بها وأطاع كل وصية قبل أن يوصي بها!!  

وبعدما أنهى يسوع خدمته على الأرض ارتفع على الصليب ليقدم ذبيحته نيابة عن هؤلاء الذين يريدون أن يدخلوا ملكوت السماوات، وليشتري لهم بدمائه امكانية سكنى الروح القدس في داخلهم ليعطيهم القدرة ليحيوا قوانين هذا الملكوت، وعندما انسكب الروح القدس في يوم الخمسين كالمياه على بذار موعظة الجبل المنغرسة في قلوب التلاميذ وجدناها تنمو وتزدهر، ورأى العالم كله ملكوت الله في داخل الكنيسة، رأى شعباً بسيطاً يعيشون مشيئة الله على الأرض ويصنعون إرادته، رأى قلوباً بشرية طبيعية تسمو لفوق لتلامس قلب الله!! ليت روح الله يعود ينسكب في قلوبنا على كلمات هذه الموعظة الخالدة لنعود نحياها بالحق في حياتنا اليومية (يتبع)

الجمعة، 6 يناير 2017

أحاديث من القلب

المُشرق من العلاء  
بقلم : فخرى كرم
«بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المُشرق من العلاء» (لو1: 78)
مصدر النور دائماً هو «العلاء» حيث محضر الله الذي عنده يسكن النور (دا2: 22) وهو الساكن في نور لا يُدنى منه (1تي6: 16) لا يوجد نور يصعد من الأرض بل فقط يشرق النور من العلاء، وتماماً كما تحيا الأرض بأشعة الشمس وتدب فيها الحياة هكذا يحدث معنا، عندما يشرق الله على حياتنا تستنير عيون أذهاننا وتدب الحياة في أرواحنا ونفوسنا وأجسادنا. النور الآتي من الله ليس شيئاً سلبياً بل هو الحياة عينها (يو1: 4، 5) طاقة حياة ايجابية تطرد طاقات الموت السلبية وتخلق فينا القوة والنماء، انه ينير كل انسان وكل الإنسان (يو1: 9)
الأرض ليست مصدراً للنور بل لابد أن تواجه الشمس لتحصل على النور، أما إذا استدارت الأرض بعيداً عن مواجهة الشمس تغرق في الظلام، وهكذا نحن نحصل على النور إذا تواجهنا مع الله ورفعنا عيوننا إلى العلاء (أش40: 26) أما إذا تحولت عيوننا وأرواحنا بعيداً عن محضر الله فلابد أن نتخبط في ظلمة أفكارنا وعتمة أرواحنا، لابد أن نتيقن أن الإنسان لا يمكنه أن يكون مصدراً للنور الحقيقي المانح الحياة لكنه فقط يستطيع أن يستقبل هذا النور الحي من الله المُشرق من العلاء.
إذا تتبعنا أوقات الحياة المشرقة في تاريخ شعب الله في العهد القديم والجديد سنجد دائماً أن هذه الأوقات كانت تبدأ بشعاع نور يصل من الله إلى قلب إنسان ما، ويعوزنا الوقت إذا تكلمنا عن النور الذي وصل لإبراهيم وقاده في طريق لا يعرفها إلى أرض لا يعرفها، أو الشمس التي أشرقت ليعقوب في فنوئيل عندما نظر الله وجهاً لوجه (تك32: 30، 31) أو النور الذي لمع لموسى في العليقة وجعل منه أعظم قائد للشعب القديم، أو النور الذي أبرق حول شاول الطرسوسي فأسقط قشوراً من عينيه وجعله رسولاً عظيماً يفتح عيون الشعوب ليرجعوا من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله (أع26: 18) ..الخ
لكن للأسف نفس التاريخ يخبرنا أن فترات الظلمة كانت أكثر من فترات النور في حياة شعب الله، وأن الأوقات التي أعطوا فيها لله القفا لا الوجه كانت أوقات شديدة الظلام يسودها الموت والخراب، التاريخ يفاجئنا بحقيقة مذهلة وهي أن الإنسان يحب الظلمة أكثر من النور (يو3: 19-21) دائماً الانسان يقاوم النور ويهرب من مواجهته ويحب أن يقبع في الظلام!! رغم كل أشعة النور التي أرسلها الله طوال العهد القديم إلا أن الشعب كان قبيل مجيء المسيح جالساً في الظلمة وظلال الموت!! ولا تسأل عن كيف استطاع الشعب أن يهرب من كل تأثيرات النور الذي وصل إليه ولا كيف استطاعوا تحويل النور في حياتهم إلى ظلام، فهذه قدرة مذهلة في الإنسان!! الإنسان قادر أن يتحايل على النور ويهرب منه لكي يعفي نفسه من المسئولية ويظل جالساً في ظلمته وظلال موته!!

قبيل ميلاد الرب يسوع تنبأ الروح القدس على لسان زكريا الكاهن بان الله سيعود في المسيح يشرق على الشعب الجالس في الظلمة، وأن هذا الإشراق سيكون الأكمل والأجمل في كل التاريخ البشري، وأن هذا الإشراق مؤسس فقط على رحمة الله ورأفته وليس على أي صلاح في الإنسان، فالشعب في ذاته لم يكن مستحقاً لأي نور جديد لأنه لم يكن أميناً على النور الذي أخذه قديماً، لكنها أحشاء رحمة إلهنا التي أرادت أن تشرق على البشرية بفجر جديد، فجر ميلاد النور الحقيقي شخص ربنا يسوع المسيح، وكل عام وأنتم بخير.