الاثنين، 31 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (  22  )

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن الوداعة تعطى للإنسان حقوقه كاملة، وتكلمنا عن الحقوق الخاصة التي تحق لفئات معينة من الناس، واليوم نبدأ الحديث عن الحقوق العامة التي تحق لكل الناس: الكبير والصغير، الغني والفقير، الرجل والمرأة، فالحقوق العامة هي الحقوق التي يحصل عليها الإنسان لمجرد كونه إنسانة، وأول هذه الحقوق العامة هو:

حق الاختيار

خلق الله الإنسان ذا إرادة حرة، وحرية الإرادة تمنح الإنسان امتيازاً وتضع عليه التزاماً، أما الامتياز فهو حقه في الاختيار الحر لطريقه في الحياة وطبيعة مسلكه فيها ، فالإنسان الحر لا يجب أن تجبره على شيء ما وإلا تكون قد حطمت أهم مميزاته كإنسان عاقل ونزلت به إلى مستوى البهائم التي تساق ، الإنسان الحر يجب أن تعرض أمامه الاختيارات المتاحة وتظهر له عواقب كل منها ثم تتركه يختار ما يشاء، سواء كان اختياره هذا هو الصواب من وجهة نظرك أم الخطأ، فهذا هو حقه الأصيل في حرية الاختيار، وأما الالتزام فهو التزامه بحصاد كل ما زرعه وقبول نتائج اختياره أيا كانت.

والله يحب أن يعطى للإنسان حقه كاملا في الاختيار، لا يفرض عليه أمرأ حتى وإن كان صوابا ولا يجبره على عمل مهما كان حقا، ورغم أنه القادر على كل شيء والحق المطلق المستحق للطاعة إلا أنه يتعامل مع الإنسان بالوداعة، يضع أمامه الاختيارات ويتركه يختار طريقه بحرية، اسمعه وهو يقول لشعبه القديم «أشهد عليكم اليوم السماء والأرض، قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك»(تث 30 : 19 )

الاستبداد

وعكس الوداعة في هذا المجال هو الاستبداد ، أي إرغام الإنسان على قبول فكر أو سلوك طريق ضد إرادته ورغم مشيئته، والاستبداد كثير ومتنوع و منتشر حولنا في كل مكان بينما الوداعة جوهرة نادرة الوجود ، والاستبداد قد يكون نفسياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو فكرياً، فكل إنسان يمتلك سلطة ما - نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو فكرية - يميل إلى استخدام سلطته في إجبار تابعيه على اعتناق فكره ومسايرة إرادته وتتميم مشيئته، فالسلطة من شأنها أن تصيب الإنسان بالغرور حتى إنه يمتلىء تماما بذاته ويكتفى جداً بفكره ويعتقد أنه وحده يعرف الصواب لذلك لا تجد لديه أذن تسمع فكر الآخرين أو تحترم وجهة نظرهم، إذا تكلم تجده ينتظر من سامعيه الخضوع والمصادقة على فكره ، وإذا لاحظ أن أحدهم لا يريد أن يستمع إليه أو يصادق على أقواله اشتعل بداخله الغضب والرفض ضد هذا الإنسان!! كم هو عجيب أن الإنسان يسلب أخاه الإنسان حقه في الاختيار رغم تفاهة المعرفة الإنسانية و محدوديتها ونسبيتها بينما يظل الله يحفظ للإنسان حرية اختياره رغم كمال معرفته - تبارك اسمه - وامتلاكه للحق المطلق.

تعلموا مني.. لأني وديع !!

 لم يشهد التاريخ كله معلماً امتلأ بروح الوداعة مثل شخص الرب يسوع له المجد، فرغم امتلاكه للحق الكامل إلا أنه لم يفرض فكره قط على الآخرين، بل أعطى دائما لسامعيه حقهم الكامل في أن يسمعوه أو ينصرفوا عنه (يو 6 : 66 ، 67 ) . وهذا هو معنى نيره الهين وحمله الخفيف، فهو المعلم الوحيد الذي لا يعلمك إلا إذا أردت أنت أن تتعلم، ولا يتكلم إلا إذا أردت أن تسمع، إنه لا يقتحمك ولا يفرض فكره عليك، إذا أردت ألا تستمع إليه لن يغضب منك ويقاومك بل سيعطيك حقك الكامل في اختيار الفكر الذي تستمع إليه حتى وإن كان فكراً مضاداً له!! لا يمكنك أبدا أن تجد واحداً من تلاميذه في كل العصور اعتنق فكره عن خوف أو اضطرار، كل من تتلمذ عند قدميه واعتنق فكره فعل هذا بمحض اختياره الحر، هل رأيت قط معلماً مثل هذا ؟! إنه المعلم الوحيد الذي قال هذه العبارة العجيبة.:

من له أذنان للسمع فليسمع

لقد كرر الرب هذه العبارة كثيرة في تعاليمه وبعد كل رسالة من رسائله إلى الكنائس في سفر الرؤيا ، ماذا يقصد الرب بأذن للسمع؟ إنه يقصد الاستعداد الداخلى للاستماع لفكر الله والرغبة في التعلم، وهذه الأذن ليست عند كل الناس، فكثيرون فقدوا الاستعداد الداخلى للتعلم والإصغاء لفكر الله بسبب امتلائهم بأفكارهم الخاصة واكتفائهم بحالتهم الراهنة حتى لم تعد عندهم مساحة لاستقبال فكر جديد ، لمثل هؤلاء لا يوجه الرب تعاليمه بل هو يتكلم لفئة أخرى مازالت تشعر بعدم الاكتفاء وتريد أن تستمع لفكر الله وتخضع له، أي أنه - له المجد - لا يفرض فكره على الجميع بل يقدمه فقط لمن اختاروا بمحض إرادتهم أن يستمعوا إليه، إنه حقا المعلم الوحيد الوديع ومتواضع القلب، وللحديث بقية

 

 

الأربعاء، 26 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 سبعة أرواح الله (21)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن روح الوداعة تجاه الإنسان تمنحه حقوقه كاملة، وأول هذه الحقوق هو حقه في الاختيار، واليوم نضيف أن من حقوق الإنسان أيضا:

حق التعبير

       الإنسان السوى ليس هو القادر فقط أن يختار بل هو القادر أيضا أن يعبر عن هذا الاختيار، فقد يختار الإنسان موقفا ما ولكنه يعجز عن المجاهرة بهذا الموقف لسبب أو لآخر، وهذا يؤدي إلى ازدواج في الشخصية: من الداخل يعتنق الإنسان موقفا ومن الخارج يظهر موقف آخر، وأن يجاهر الإنسان بموقف مخالف لما يعتقده داخليا هو ما يسميه الكتاب:

الرياء

يستشري هذا الداء في المجتمعات المقيدة للحريات، وكان هذا الداء موجوداً بكثرة في المجتمع اليهودي في أيام تجسد الرب له المجد، بدأ في القادة ثم انتشر إلى كل المجتمع مثلما تنتشر الخميرة لتخمر العجين كله، رغبة في الاستعلاء على الشعب كان الكتبة والفريسيون يخفون اختطاف ودعارة بداخلهم ويظهرون برأ وتقوى، وخوفا من القادة ورغبة في رضاهم كان الشعب يخفي غضباً ورفضأ ويظهر حبأ وخضوعأ، وخوفا من بطش السلطة الرومانية كان المجتمع اليهودي كله يكتم ذلا وهوانا ويظهر طاعة وولاء!! كان الكل يرائي لأن أحدا لم يكن يمتلك الشجاعة ليعبر عن حقيقة موقفه، ولقد حذر الرب تلاميذه من سريان هذه الروح إليهم ( لو 12 : 12 ) ، فهو الوحيد الذي داس روح الرياء في حياته وعاش يماثل ظاهره باطنه ، وقاد تلاميذه إلى نفس الحياة .

روح الوداعة

وإذا كان القائد المزيف يفرح عندما يرائيه الناس ويظهرون له عكس ما يبطنون إلا أن روح الوداعة التي تجسدت في شخص الرب يسوع له المجد كانت ترفض هذا الرياء وتشجع الإنسان لكي يعبر عما بداخله أيا كان، فالشخص الوديع هو الذي تشعر في محضره بأنك قادر على التعبير عما بداخلك بدون خوف، هو الشخص الذي تسلك معه كما أنت في الحقيقة بدون مواربة إنه الشخص الذي يعطيك الإحساس بالأمان وبأنه يقبلك كما أنت وبأنه لا يقيم نفسه ديانا لما في أعماقك، الشخص الوديع يصمت كثيراً لكي تتكلم أنت، ويتراجع أحيانا لكي تتقدم أنت!!

النور الذي ينير كل إنسان طالما ظل موقف الإنسان الداخلى خفية غير معلن يكون من المستحيل التعامل معه أو علاجه أو حتى إدانته، لذلك كان أحد جوانب إرسالية الرب إلى العالم هو أن ينير خفايا الإنسان ويشجعه على إظهار مواقفه الداخلية، وهذا ما قاله سمعان الشيخ بروح النبوة عن إرسالية الرب: «لتعلن أفكار من قلوب كثيرة» (لو ۲: ۳۵) أفكار ومواقف كثيرة ظلت مكتومة في القلوب لسنوات طويلة كان الرب مزمعاً أن يخرجها للنور ويعلن عنها ، ولقد فعل هذا بروح الوداعة التي تدفع من يتعامل معها لإظهار مكنونات قلبه. كان بداخل القادة الدينيين موقف مضاد لصاحب الكرم (مت 21 : 33 ) كانوا يأخذون ثمر الكرم لحسابهم وهو من حق الله وحده ، ولكن هذا الموقف المضاد لله كان مدفوناً تحت كم هائل من المظاهر الخارجية الخادعة، مظاهر التدين والتقوى والورع، وكانت إحدى مهام الرب له المجد هو إظهار حقيقة موقفهم من الله وإعلان أفكار البغضة الكامنة في قلوبهم، ومسلكه الوديع هو الذي شجعهم لكي يجاهروا ببغضتهم له، فقد كان مثل «النعجة الصامتة أمام جازيها »، وصمت النعجة يشجع جازيها لكي يمضى في عمله حتى النهاية!! لقد كان الرب بالنسبة لهم « علامة تقاوم» على حد قول سمعان الشيخ ( لو 2 : 34 ) أي أنه كان هدفاً تخرج عليه كل المقاومة الكامنة في قلب الإنسان تجاه الله!! وعندما ظهرت هذه المقاومة ومضت في طريقها حتى كملت في الصليب أصبح من الممكن التعامل معها وإدانتها، ولم تتأخر الدينونة كثيرة!!

وداعة الرب أعطت الفرصة لبطرس لكي ينكر، وليهوذا لكي يخون، وللتلاميذ لكي يهربوا ، دون أن يخشى أحد منهم لوماً أو عقابا !! اسمعه وهو يقول ليهوذا بوداعة «ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة» ( يو 13 : 27 ) الرب يدفعه لكي يعبر عن الخيانة الموجودة بداخله بأكثر سرعة!! فطالما ظلت الخيانة كامنة في قلب يهوذا وتتحرك ببطء في الخفاء لم يكن من الممكن إدانتها ، فقط عندما ظهرت في العلن أمكن وضعها تحت الدينونة، ولم تتأخر الدينونة كثيراً !!

       دعني أنحنى بإجلال أمام روح الوداعة التي تتجسد فيك يا سيدي، فهي التي منحتني الفرصة لكي أظهر مكنونات قلبي أمامك دون خوف، وداعتك يا سيدي حررتني من عبودية الخوف وحفظتني من السقوط في فخ الرياء!! (

الجمعة، 21 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (20)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن الوداعة هي أن نعطى لكل واحد ذي حق حقه، ولقد رأيناها تتحرك في اتجاه الله عندما قدم الرب يسوع للأب حقه الكامل في السجود والخضوع والطاعة، سواء في الخفاء في مواجهة إبليس أو أثناء خدمته العلانية في وسط الناس، واليوم نبدأ الحديث عن الاتجاه الثاني للوداعة ألا وهو اتجاهها للإنسان، فالشخص الوديع هو الذي يعطى للناس حقوقهم كاملة كما يعطى لله حقه كاملا، ويخطىء من يظن أن حق الله يتعارض مع حق الإنسان، أو أننا لكي نعطى الله حقوقه ينبغي أن ندوس حقوق الآخرين، حاشا، فالوداعة لا تتجزأ !!

وإن قلنا أن حق الله هو الخضوع والسجود والطاعة الكاملة فما هي حقوق الإنسان؟ في الواقع إن هناك حقوقاً خاصة لفئات خاصة من الناس وهناك حقوق عامة لكل إنسان، وستبدأ الحديث عن:

الحقوق الخاصة

هناك سلطان اجتماعي مثل سلطان الأبوين، وسلطان ديني لأصحاب المراكز القيادية في الجماعة الدينية، وسلطان مدني للرؤساء والحكام، وينبغي على المؤمن أن يعطى لأصحاب هذه السلطات الاحترام والخضوع اللائقين، وفي هذا يقول بولس بوضوح «أعطوا الجميع حقوقهم : الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف من له الخوف والإكرام لمن له الإكرام» (رو 13 : 7 ) ويقول بطرس «اخضعوا لكل ترتيب بشرى من أجل الرب ، إن كان للملك... أو للولاة... أكرموا الجميع، أحبوا الإخوة ، خافوا الله، أكرموا الملك» (۱بط 2 : 13 ـ 17 ) وما هذا إلا تطبيق للمبدأ الشهير الذي قرره الرب نفسه عندما قال «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (مر 12 : 17 ) .

وفي كل حياة الرب يسوع نراه يعطى لأصحاب الحقوق الخاصة حقوقهم، ففي صباه رأيناه يخضع لسلطة أبويه (لو 2 : 51 ) وأثناء خدمته رأيناه يخضع للسلطة المدنية ويعلم تلاميذه أن يخضعوا لها رغم عدم اقتناعه بمشروعية الضرائب التي تجمعها (مت 17 : 24 ـ 27 ) وفي نهاية حياته الكريمة وجدناه يقف أمام بيلاطس ويقول له «لم يكن لك على سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق » (يو 19 : 11 ) لقد خضع يسوع لسلطان بيلاطس وحكمه الظالم ليس عن خوف أو اضطرار بل « من أجل الرب» على حد قول بطرس، أي من أجل أن الرب هو الذي أعطى لبيلاطس السلطان أن يكون في منصبه هذا ويصدر حكمه هذا ، ونفس الحق تكلم عنه بولس: «ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله» (رو 13 : 1 ، 2 )

وبولس كان تلميذا ليسوع في وداعته، ولذلك رأيناه يعتذر أمام رئيس الكهنة عن كلماته القاسية، لأنه مكتوب: «رئيس شعبك لا تقل فيه سوء » (أع 23 : 5 ) فرغم علم بولس أن هذا الرئيس لا يحكم بحسب فكر الله إلا أن وجوده في منصبه الديني هذا كان مسموحاً به من الله، ولذلك حق له التوقير والاحترام!! نقول هذا لمن يظن أن اقترابه من الله يعطيه الحق أن يحتقر الرياسات ويتخطاها ويقاومها، ليس هذا فكر المسيح الوديع الذي أعطى الإنسان حقه تماما كما أعطى لله حقه.

الخضوع للسلطان وليس الخضوع للفكر

لابد أن نفهم أن الخضوع للسلطان شيء والخضوع للفكر شيء آخر تماما، فالكتاب لا يطالبنا بالخضوع لفكر القادة متى كان مخالفاً لفكر الله بل يطالبنا فقط بالخضوع لسلطانهم، وغنى عن البيان أن الرب لم يخضع لفكر بيلاطس لكنه خضع لسلطانه في إصدار حكم الصلب، والتلاميذ لم يخضعوا قط لفكر رؤساء الكهنة لأنه ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس، لكنهم في نفس الوقت لم يقاوموا أحكام السجن التي صدرت ضدهم، وبولس لم يخضع لحظة واحدة لفكر القادة ولم يحاول ارضاءهم، وعندما حكموا عليه بالسجن والموت خضع لسلطانهم وأسلم نفسه للسجن والموت دون أن يغير هذا من فكره الذي ظل يكرز به حتى وهو في السجن، فالحكام يستطيعون أن يلقوا بولس في السجن الداخلي ويضبطوا رجليه في المقطرة، ولكنهم لا يستطيعون أن يمنعوه من الصلاة والتسبيح!! فجسد بولس خاضع لسلطان الحاكم لكن قلبه وعقله خاضعان لسلطان الله، ولا يوجد سلطان على الأرض يستطيع أن يمنع خضوع قلب المؤمن لله، وعصور الاستشهاد تشهد عن ذلك.

أما الخضوع لفكر القادة - مهما كان خاطئا - بهدف اتقاء شرهم أو كسب رضائهم فهذا من أعمال روح «المداهنة» وليست روح «الوداعة»، والفرق بينهما الفرق بين الجحيم والسماء!!

ينبغي أن نفهم جيدا الفرق بين الخضوع للسلطان والخضوع للفكر، لأن البعض في أوساطنا الروحية يظن أن الخضوع للرياسات يعني الطاعة لفكرهم حتى وإن كان مغايراً لفكر الله، لكن الحقيقــــة أننا ينبغي أن نستأسر كل فكرنا لطاعة المســــيح وحـــــده ( 2كو 10 : 1 )  وللحديث بقية.

 

الخميس، 13 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (19)

بقلم : فخرى كرم

تحدثنا عن روح الوداعة التي ملأت الرب يسوع في علاقته بالآب، وقد رأيناها منذ تمثلت في هيئة حمامة تحل عليه في المعمودية وحتى الموت موت الصليب، ولقد تجلت هذه الروح أولاً في البرية وكانت هي مفتاح نصرة الرب في التجربة المثلثة لإبليس، ثم رأيناها في أرض الإنسان بعدما نزل الرب من جبل التجربة إلى أرض الخدمة العملية والعلنية، حيث وجدناه يخضع لمشيئة الآب ويطيعها طاعة مبدئية شاملة وفق الساعة ورغم المقاومة وحتى الموت، وقبل أن نترك هذه الجزئية لابد أن نلاحظ درسا ثمينة للغاية، درس نتعلمه من ترتيب الأحداث في حياة ربنا المبارك، درسا يقول إن

النصرة تبدأ في الخفاء

معركة الرب مع إبليس بدأت بمصارعة شخصية في البرية، حيث لا يوجد سوى الله والنفس وإبليس، وفي هذه المصارعة شحذ إبليس كل قواه وإغرائه وسلطانه وجمعهم في ثلاث تجارب، رأيناه يستغل الاحتياج الطبيعي للجسد لكي يحول انتباه الرب إلى نفسه، ورأيناه يستغل أقدس الأماكن بل وكلمات الوحي المقدسة لكي يغرى الرب بمجد الذات، ثم رأينا قدرته على أن يجمع أمام الرب كل ممالك العالم ومجدهن في لحظة من الزمان.

وفي هذه المصارعة الشخصية يسهل على النفس أن تخطىء ولو بالفكر، وأن تتجاوب مع التجربة ولو بمشاعرها، لأنه في البرية لا يوجد رقيب من الناس يمكنه أن يرصد الخطأ ويدينه أو يلاحظ الصواب ويمتدحه، في البرية يبدو أن الخطأ بلا عقاب والصواب بلا مجازاة، في البرية لا يوجد سوى الله وحده يراقب، لذلك لا ينتصر في هذه المصارعة إلا من أحب الله وحده واشتهى رضاه فقط، لا ينتصر سوى من امتلأ بروح الوداعة التي تشتاق أن تعطى الله كل المجد والطاعة، وبدون مقابل!!

خلاصة القول إن الصراع الشخصي في البرية كان مكثفاً وشاملا، أما بعد النزول إلى الخدمة وسط الشعب صارت التجربة مفصلة أكثر، لم تختلف في جوهرها عن التجربة في البرية فإبليس ليس لديه تجارب أخرى يجرب بها الإنسان، إنه نفس الجوهر لكن بدلا من أن تكون التجربة مكثفة أمام النفس «في لحظة من الزمان» صارت مفككة وموزعة على العديد من المواقف اليومية المتكررة والمتنوعة.

فإذا كان الرب قد تعرض في البرية مرة واحدة وبشكل مكثف لتجربة الاهتمام بالاحتياج الشخصي فإنه تعرض عشرات المرات في كل يوم لتجربة أن يعطى لجسده راحة أو يهتم قليلا بحياته وأن يكف ولو للحظة عن بذل نفسه لكل الناس، حتى انتهره بطرس لكي لا يسلم نفسه للموت عن العالم، لكن إذا كان الرب قد انتصر على هذه التجربة عندما أتته من إبليس ذاته بشكل مكثف وصريح ومباشر فمن الطبيعي أن يستعلن انتصاره على هذه التجربة ذاتها عندما تأتيه في كل يوم من خلال أدوات إنسانية متعددة.

وإذا كان الرب قد رفض أن يأخذ مجداً لنفسه وهو واقف على جناح الهيكل فمن المنطقي أن يفشل الناس في خداعه بكلمات التملق والمداهنة المسمومة، وليس غريبا على من رفض إغراء كل ممالك العالم ومجدهن أن يرفض أن يختطفه الناس ليجعلوه ملكا عليهم، إن انتصار الرب في مواجهته مع إبليس في الخفاء جعلت انتصاره العلني والعملي في أرض الإنسان ليس سوى تحصيل حاصل، لقد خرج الرب من البرية إلى الحياة العملية غالباً ولكي يغلب!!

... ونفس الترتيب في حياتنا !!

 الأمور تسير في حياة كل واحد منا بنفس الترتيب، فمعركتنا تبدأ دائما بشكل شخصي وفي الخفاء، حيث يتواجه القلب مع إبليس الذي في سلطانه أن يكثف التجربة أمام النفس و يركزها في لحظة من الزمان، ويوجهها إلى نقاط الضعف المحددة التي يعرفها فينا، وهناك في الخفاء حيث لا يرانا أحد لكي يمتدحنا يكون الامتحان الحقيقي لولاء النفس ومحبتها لله، وإذا استطاعت النفس أن تنتصر على التجربة في صورتها الشخصية المكثفة هذه فإن انتصارها على تفاصيل التجربة في صورتها العملية في أرض الواقع يكون محسوسأ بشكل كبير ومن قبيل تحصيل حاصل.

والعكس أيضأ صحيح للأسف، فالفشل أمام التجربة في الخفاء والسقوط الدفين للقلب أمام الإغراء لابد أن يظهرا في سقوط علني أمام التجارب اليومية في الحياة العملية، إن من انتصر يوما أمام عيني الله فقط ولأجل الله فقط لابد أن يأتي اليوم حين يعلن الله انتصاره أمام عيون كل الناس، ومن سقط أمام عيني الله وحده لابد أن يرى الجميع سقوطه عاجلا أم آجلا!

أخي العزيز ، هل أنت منتصر في الخفاء ؟! (يتبع)

 

الخميس، 6 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (18)

بقلم : فخرى كرم

              « أطاع حتى الموت موت الصليب » (في 2 : 8 )

قلنا عن طاعة يسوع للأب إنها طاعة مبدئية شاملة وفق الساعة ورغم المقاومة، واليوم نقول عن هذه الطاعة الفريدة إنها ..

طاعة حتى الموت

كلمة «حتى» تفيد أقصى مدى تصل إليه الطاعة، ولكل واحد منا « حتى » الخاصة به !! فكل منا يستطيع أن يطيع « حتى » يصل الأمر إلى شيء ما محبب للنفس، وعندئذ لا يستطيع الإنسان أن يطيع أكثر وتتوقف مسيرة الطاعة في حياته ويبدأ يعيش على ذكرى الماضي.

لكل منا أموره المحبوبة التي لا يجوز الاقتراب منها ولا يستطيع التنازل عنها، وعادة ما تكون هذه الأمور هي نهايات الطاعة في حياتنا وعندها تتوقف مسيرة الخضوع، فهذا الأخ أطاع «حتى» تعلق الأمر بأمواله، وذاك أطاع «حتى» مست صحته، وثالث أطاع «حتى» تهدد سلامه الاجتماعي، ورابع أطاع « حتى» جرحت كبرياؤه، ولاشك أن إبليس كان يراهن على أن طاعة يسوع لابد أن تستمر «حتى» تصطدم بعقبة ما ثم تنتهي، ولذلك نراه يضع في طريق الرب عقبات وخسائر متدرجة في شدتها وقسوتها لكي يوقف مسيرة طاعته لمشيئة الأب.

أول عقبة صادفت الرب منذ أول عظة ألقاها في مجمع الناصرة كانت فقدان رضا أهل مدينته، وما أقسى فقدان رضا الأهل على نفس الإنسان!! ما أقسى أن يفقد الإنسان كرامته في مدينته ووسط أهله، ولكن يسوع اجتاز هذه العقبة وترك آسفاً المدينة التي تربي بها وعاش فيها أيام صباه الأولى وشبابه المبكر ، وبدأ يتجول من مدينة إلى أخرى كالغريب الذي ليس له أين يسند رأسه.

بعد ذلك بدأ إبليس يلوح له بخسارة كرامته وسمعته الحسنة لدى الشعب وذلك عندما بدأ الكتبة والفريسيون بما لهم من سلطان على أذهان الناس يروجون الشائعات حول شخص الرب وينسبون قواته إلى بعلزبول رئيس الشياطين، قاصدين تدميره نفسياً واجتماعياً لكي تتوقف طاعته عند هذا الحد وتتوقف معها مقاصد الله، لكن سيدي اجتاز - بنفس نازفة - وسط حقدهم وأكاذيبهم و مضى مكملا خدمته.

وعندئذ بدأ يهدده بفقدان مصداقيته لدى أقرب الناس إليه، شكوك المعمدان وخيانة يهوذا وإنكار بطرس وهروب التلاميذ، أراد أن يقول له إن كل حياته وخدمته قد مضت بدون أية قيمة، فليس فقط الشعب والقادة قد انقلبوا ضده بل حتى القلة الذين صدقوه قد انصرفوا كل واحد إلى خاصته وتركوه وحده، وما أقسى الإحساس بالفشل والوحدة، وما أقسى شعور الإنسان بأن حياته قد مضت بلا جدوى!! وماذا يبقى للإنسان بعد فقدانه لأهله وسمعته وأقرب أصدقائه ؟ ماذا يبقى له لكي يستمر يسلك طريق الطاعة الوعر هذا ؟!! لكن سيدي اجتاز هذه العقبة أيضأ ومضى وسط مشاعر الجحود والنكران والهجر والخيانة مصمماً أن يشرب الكأس حتى آخر قطرة.

لقد تجرد سيدي من كل شيء ولم تبق له سوى حياته ذاتها، وهنا بدأ إبليس يلوح له بخسارة هذه الحياة أيضا، أخذ يهدده بالموت، ليس فقط الموت بل

موت الصليب

موت الصليب يعنى الموت المصحوب بالعار والرفض والهوان والمذلة والألم المروع والإهانة والتشهير، فقد يموت الإنسان ويظل يحتفظ بذكرى طيبة في أذهان الناس، لكن إبليس كان يهدد يسوع بفقدان الحياة المصحوب بفقدان أية ذكرى طيبة في أذهان الناس، كان يهدده بأن يظل في أذهان الناس محسوباً في عداد الأثمة (إش 53 : 12 ) . لكن العجيب أن روح الوداعة الذي ملأ سيدي لم يتراجع عن الطاعة حتى أمام هذه النوعية من الموت، كان على استعداد أن يخسر كل شيء لكي يتمم مشيئة الأب، لم يخر أمام قسوة وظلم وظلمة هذا المصير الرهيب الذي يلوح في الأفق، وهكذا اجتاز وسط مشهد المحاكمة والصليب دون أن يفتح فاه ، مسلماً نفسه ليد صالبيه وهو في الحقيقة مسلمها لمشيئة أبيه، لقد انتصرت طاعته واستمرت حتى الموت موت الصليب، لقد قدم يسوع كل ما يملكه على مذبح طاعته للأب، لم يدخر شيئا ولم يؤخر عطاء، وهذه الطاعة الكاملة الممزوجة بالمحبة الكاملة هي التي صعدت بخور طيباً أمام الآب، وهي التي اشترت لنا الغفران والفداء الذي نتمتع به اليوم.

دعني أنحني بامتنان أمام طاعتك الكاملة يا سيدي وأنا أسأل نفسي في خجل: «حتى» ماذا أستطيع أن أطيع مشيئتك في حياتي ؟؟

الأربعاء، 5 أكتوبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (17)

بقلم : فخرى كرم

تكلمنا عن طاعة الرب يسوع للآب في أرض الإنسان، وقلنا إنها كانت طاعة شاملة مبدئية وكانت منضبطة تماما وفق ساعة الآب وتوقيته، واليوم نضيف أن هذه الطاعة الكاملة الفريدة كانت أيضأ ..

طاعة رغم المقاومة

طاعة الله في وسط العالم لابد أن تلقى مقاومة عنيفة لا يعرفها إلا من عرف معنى الطاعة الحقيقية لله، فالناس بالطبيعة لا تحب من يختلف عنهم، وأرواحهم تقاوم - ولو بشكل خفي غير ظاهر - كل من يستشعرون اختلافه عنهم، في البداية قد يحاولون استمالته ليعود إلى التوافق مع شكلهم وأسلوبهم المعتاد ، وإذا لم تنجح هذه المحاولة يبدأون سعيهم لتدميره وعزله. والنفس عادة لا تستطيع أن تحتمل هذه المقاومة لفترات طويلة، لأن الإنسان بطبعه يحب أن يكون مقبولا من المجتمع المحيط به ويأتنس بقرب الناس ومحبتهم، والمقاومة المتمثلة في الاستمالة أو النبذ عادة ما تؤتي ثمارها سريعا ويكف الإنسان عن سلوكه المغاير ويعود إلى موافقة الجماعة والسير في ركابها.

فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي ، يستمد سلامه وأمنه من الوجود في جماعة مترابطة متآزرة تساند بعضها البعض ، جماعة تتشابه في سلوكياتها وأفكارها بشكل عام، وشرعية أي سلوك في هذه الجماعة مستمد من شيوعه وقبول الناس له وتعارفهم عليه أكثر مما يستمد من موقف الله منه، وأيضا عدم مشروعية أي سلوك تكون ناتجة عن عدم شيوعه وتعارف الناس عليه حتى وإن كان الله مصادقاً عليه!! لهذا السبب كان الأنبياء دائماً معرضين للانتقاد والرفض بل وللاضطهاد والقتل لاسيما من أهل بيتهم ووطنهم (مت 13 : 57 ) لأن أهل البيت والوطن هم أكثر الناس رغبة في الاتحاد في شكل وأسلوب واحد، وبروز شخص ذي فكر مغاير وسلوك مخالف يصنع بينهم انقساما ويشق صفوفهم، لذلك إما أن يكف عن اتجاهه المخالف ويعود لركب الجماعة وإما أن يزول من المشهد تماما لكي يعود للجماعة سلامها.

والقادة الدينيون بالذات يتعاملون مع شعوبهم بحسب نظرية « القطيع »، أي أن مصالحهم تعتمد على بقاء الشعب في جهالته وسيره في ركب واحــد بدون اعتـــراض أو تســاؤل (حز 34 : 1 ـ 6 ) وبروز أي فكر ديني مستنير يصنع اضطرابا في صفوف « القطيع » ويضر كثيراًبمصالح القادة، ولذلك كانت أيدي القادة الدينيين ملوثة دائماً بدماء الأنبياء كما قال لهم السيد له المجد (مت 23 : 31 ، 37 ) .

الروح الغريبة !!

والمجتمع اليهودي الذي كان ينعم بالهدوء الظاهري تشوش واضطرب كثيرا عندما بدأ الرب له المجد خدمته، تعاليمه وسلوكه شقت الصفوف وأظهرت فسادا كثيراً كان مدفوناً ومخفياً في حياة الشعب وقادته، ومن ثم هاج المجتمع وتموج بين مؤيد ومعارض ومتسائل ومتشكك، وعلى الفور تحركت أرواح القادة لتقاوم هذه الروح الغريبة التي أقضت مضاجعهم و عكرت صفو حياتهم وهددتهم في سلطانهم ومصالحهم.

ولقد اتخذت هذه المقاومة الاتجاهات المعهودة، فبدأت بالاستمالة والمداهنة، فنقرأ كثيرا عن الولائم التي كانت تقدم للرب ليس بهدف الترحيب له بل لاصطياد الأخطاء له، ووصلت محاولة الاستمالة إلى حد الامساك به لجعله ملكا عليهم، ولكن الرب في طاعته الكاملة للآب لم تؤثر فيه هذه الولائم والترحيب المزيف، بل كان في كل وليمة يصر على كشف زيف مضيفيه وسوء قصدهم (لو ۷: 44 - 46) وعندما علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف عنهم إلى الجبل وحده (يو 6 : 15 ) لقد استطاعت روح الوداعة والطاعة بداخله أن تقاوم اغراء الحصول على رضا الناس، وفضل أن يمكث « وحده » في « الجبل » على أن يسكن وسط شعب لا يخضع لفكر الله!!

ولما لم تفلح الاستمالة تحركت أرواح القادة ضد الرب في محاولة لتدميره وعزله عن بقية الشعب بل وقطعه من أرض الأحياء إن أمكن!! وتحرك « الرعاة » بالكذب والخداع في وسط « قطيعهم » بهدف تشويه صورة الرب ووصمه بأشنع الصفات في محاولة لجعل الشعب ينبذه ويسلمه للموت!!

أمام هذه المقاومة الجارفة كان المتوقع من أي روح إنسانية أن تخور وتخاف من الرفض والقطع وتعود تسترضي الناس وتهادنهم، لكن روح الوداعة والطاعة التي ملأت الرب لم تضعف أمام هذه المقاومة العنيفة بل ظلت على خضوعها للآب قابلة من يديه الكأس التي سمحت بها قداسته وعدله، حقا سيول الهاوية لم تطفيء هذه الطاعة الفريدة!! وللحديث بقية