الأربعاء، 4 نوفمبر 2020

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (45)

بقلم : فخرى كرم

 

«ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين..» (مت6: 16-18)

نفهم من كلمة الله أن الصوم هو ممارسة تلقائية عفوية يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن التذلل أمام الله والاحتياج الشديد لغفرانه ونعمته وارشاده. ولأن الصوم ينبغي أن يكون تلقائياً نابعاً من الحالة القلبية والظروف الخاصة بكل انسان لذلك لم يفرض الناموس ضمن فرائضه الكثيرة أية أيام محددة للصوم أو طريقة خاصة تُتبع فيه. يوم واحد ذكره الناموس ينبغي أن يتذلل فيه الشعب كله هو يوم الكفارة العظيم، لأن في هذا اليوم كان رئيس الكهنة يدخل إلى الأقداس طالباً غفراناً للشعب عن خطايا سنة ماضية وملتمساً نعمة جديدة لسنة قادمة  (لا16: 29) ورغم أن شريعة يوم الكفارة لم تذكر الصوم صراحةً إلا أن الشعب كان يصوم عن الطعام في هذا اليوم تعبيراً عن تذللهم أمام الله، وهذا هو «الصوم» الذي يذكره لوقا الطبيب في (أع27: 9) ويذكره مُعرّفاً بحرفي التعريف «الـ» لأنه الصوم الوحيد المحدد التوقيت الذي يعرفه كل يهودي. ولكن بعيداً عن هذا اليوم الواحد نجد صفحات العهد القديم تمتلئ بأصوام كثيرة تذلل بها رجال الله القديسون طلباً لحضور الله في ظروفهم التي اجتازوا فيها، لم يكن لهذه الأصوام أي اسلوب ثابت بل كانت عفوية في كيفيتها ومدتها بحسب نوعية وإلحاح الظروف التي أحاطت بكل منهم.

وفي العهد الجديد لم يغير الرب أي شيء تجاه الصوم، لم يفرض على كنيسته أية أوقات أو أشكال محددة للصوم، لذلك نجده يقول «متى صمت..»، مازال الرب يريد أن يكون الصوم ممارسة عفوية نلجأ إليها تعبيراً عن اتضاعنا أمام الله ورغبة في مزيد من نعمته وإرشاده لحياتنا، فرأيناه (له المجد) يصوم عن الطعام أربعين يوماً ليتهيأ لمواجهة إبليس في تجربة الجبل (مت4: 2) وسمعناه يوصي تلاميذه بالصوم لمواجهة نوعية معينة من أرواح الشر (مت17: 21) وفي سفر الأعمال وجدنا التلاميذ يصومون كثيراً أثناء خدمتهم وقبل الدخول لأي مجال جديد في الارسالية (أع 13: 2، 3)

لكن الغريب والمدهش حقاً هو أن الإنسان استطاع أن يحول الممارسة التي من المفترض أن تعبر عن الاتضاع والتذلل إلى ممارسة تعلن عن التفاخر والتميز!! فعندما أتى ربنا إلى خاصته وعاش وسط شعبه الأرضي وجد أن القادة الدينيين قد وضعوا ترتيباً للصوم وحددوا له أياماً في الإسبوع وأمعنوا في حفظ هذه الأصوام لإعلان قداستهم وتميزهم عن بقية الشعب، حتى أن الفريسي الذي صعد إلى الهيكل ليصلي واتته الجرأة ليرفع رأسه أمام الله ويفتخر بأنه ليس مثل باقي الناس الخطاة لأنه يصوم مرتين في الإسبوع (لو18: 12) بل حتى تلاميذ يوحنا المعمدان فرضوا على أنفسهم أصواماً كثيرة وكانوا يعيّرون تلاميذ الرب بأنهم لا يصومون مثلهم، حتى تقدموا يوماً إلى الرب متفاخرين وقائلين «لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيراً وأما تلاميذك فلا يصومون» (مت9: 14) عجباً!! كيف استطاع القلب الإنساني المخادع أن يحول الممارسة المعبرة عن الاتضاع والانكسار، والتي من المفترض أن تتم في الخفاء بتذلل أمام الله وحده، إلى مادة علانية للتفاخر والتمييز بين الفرقاء؟!

في هذا الجزء من موعظة الجبل لا ينفي الرب احتياجنا في العهد الجديد للصوم، لكنه يحذرنا بشدة من الانجراف وراء رغبتنا الذاتية في لفت الإنتباه والتعالي على الأخرين من خلال اعلان صومنا للناس، لأن هذا الصوم العلني سيكون هو والعدم سواء!! وللحديث بقية (يتبع)