الجمعة، 25 نوفمبر 2022

أحاديث من القلب

سبعة أرواح الله (24)

بقلم : فخرى كرم

بعدما رأينا الصورة الرمزية الأولى للروح القدس ألا وهي صورة الحمامة، وعرفنا أنها كانت مناسبة للتعبير عن روح الوداعة التي اصطبغت بها حياة رب المجد وخدمته وسط الناس، ننتقل اليوم للحديث عن صورة رمزية ثانية للروح القدس شاء أن يعلن نفسه بها في مرحلة أخرى من مراحل تعامله مع الإنسان، ألا وهي صورة

النار

رغم أن يوحنا المعمدان هو الذي رأى الروح ينزل على المسيح في هيئة جسمية مثل حمامة لكنه عندما تنبأ عن طبيعة عمل الروح الذي سيرسله المسيح ليعمل في وسط كنيسته قال إنه سيكون مقترناً بالنار ( لو 3 : 16 ) وبالفعل عندما حضر يوم الخمسين وجدنا الروح القدس يعلن عن حضوره في وسط الكنيسة بهيئة جسمية كألسنة منقسمة من نار استقرت على كل واحد منهم ( أع 2 : 3 ) مما يشير إلى أن السمة الغالبة لعمل الروح القدس في الكنيسة ستختلف عن السمة الغالبة لعمله في حياة الرب له المجد، فإذا كانت الحمامة تشير إلى الوداعة فإن النار في الكتاب المقدس تشير دائما إلى

القداسة

اقترنت النار بقداسة الله في أكثر من موضع، فعندما اشتعلت النار في العليقة صار الموضع مقدساً (خر 3 : 5 ) وعندما تجلى الرب على جبل سيناء بنار صار الجبل مقدسا (خر ۲۳:۱۹) ... إلخ.

لكن ما هي القداسة؟ هي «الصلاح المؤثر»!! «الصلاح» وحده هو أن يكون الشخص مملوءأ من الخير وخالياً من الشر، أما «الصلاح المؤثر» فهو أن يكون امتلاؤه من الخير وخلوه من الشر مؤثراً في الآخرين حتى أنه يجذب لنفسه الخير ويظهره ويدين الشر ويفضحه، إذا اقترن الصلاح الشخصي بهذا السلطان الخارجي نسميه « قداسة». .

أن تكون محبا فهذا صلاح أما أن تكون محبتك ذات سلطان حتى تفضح البغضة الموجودة في المحيطين بك وتدينها فهذه هي القداسة، أن لا تجد الخطية مكانا لها في قلبك فهذا صلاح، أما أن لا تجد لها مكاناً في الوسط المحيط بك لأن طهارة قلبك تفضحها أولا بأول فهذه هي القداسة!!

بين النار والقداسة

إن ما تفعله النار في الأشياء تفعله القداسة في الأشخاص، النار تمتحن الأشياء التي توضع فيها فتزگی وتنقي المعادن النفيسة وتفضح تفاهة المعادن الرخيصة وتحرق الخشب والعشب والقش وتحيلها رماداً ، الأشياء لا تبقى كما هي قبل وبعد اجتيازها للنار، وأنت لا تستطيع أن تبقى كما أنت قبل وبعد تعرضك لقداسة الله، أشياء سوف تتغير وأخرى ستنتهي وأخرى ستظهر ويزداد لمعانها !!

إذا أراد موسى أن يقترب من البقعة المقدسة فلابد أن يخلع نعليه، لابد أن يتخلص من الأجزاء الملامسة لهذه الأرض الملعونة، وإذا تواجد إشعياء في محضر «القدوس » فحالا تظهر الأجزاء النجسة في حياته وتحرقها جمرة من على المذبح، ومن يريد أن يصعد إلى جبل الرب ويقوم في موضع «قدسه » لابد أن يكون طاهر اليدين ونقى القلب (مز 24 : 3 ، 4 ) لا يمكنك أن تتعامل مع قداسة الله وأنت تتستر على شر أو تخفــي إثما في القلـب (مز 66 : 18 ) إن قداسة الله - مثل النار - تمتحن كل شيء فتجتذب الخير وتظهره وتنقيه وتفضح الشر وتدينه وتعريه.

بين الوداعة والقداسة

نستطيع الآن أن نرى أن روح الوداعة يبدو - ظاهرياً - مغايراً تماما لروح القداسة، فروح الوداعة يعطى للإنسان الفرصة لكي يظهر ما بداخله ويعبر عن مكنونات قلبه دون خوف، أما روح القداسة فيدين الشر وهو كامن في الأعماق ولا يمنحه فرصة للبقاء.

الوداعة لا تقتحم الإنسان بل تشجعه لكي يعبر بحرية عن إرادته، أما القداسة - إن تواجدت في محضرها - فهي تمتحن إرادتك الخفية وتظهرها إلى النور دون أن تملك لها دفعاً .

لكن الحقيقة أنه لا تناقض البتة بين اظهارات الروح الواحد، فكل من أوجه تعامله مع الإنسان هام وحتمي ولا غنى عنه، وهو في حكمته اختار أن يتعامل مع الإنسان بالوداعة أولا من خلال حياة رب المجد وخدمته لكي يعطى للإنسان الفرصة ليفهم ويختار بإرادته أن يتوب ويرجع إلى الله، لكن لا يظن أحد أن تعامل الوداعة يمكن أن يستمر إلى الأبد، فلابد أن يواجه الإنسان يوما قداسة الله وعندئذ لن تكون هناك فرصة بعد بل قضاء سريع، وللحديث بقية.

 

  

السبت، 12 نوفمبر 2022

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله ( 23 )

بقلم : فخرى كرم

تكلمنا عن روح الوداعة التي تعطي لكل ذي حق حقه، وقلنا إن لها ثلاثة اتجاهات: اتجاه الله واتجاه الآخرين واتجاه النفس، ورأيناها تتحرك في اتجاه الله فتعطيه حقه كاملا في الطاعة والخضوع، وتتحرك في اتجاه الإنسان فتعطيه حقه كاملا في الاختيار والتعبير، ولم يبق لنا إلا أن نتكلم بإيجاز عن الاتجاه الثالث ألا وهو اتجاه النفس، فروح الوداعة عندما تمتلك نفس ما تعطيها حقها كاملا غير منقوص، فإذا اجتهدت النفس فمن حقها أن تكافأ وإذا زرعت فمن حقها أن تفرح بالحصاد وإذا انتصرت فمن حقها أن تفتخر بالانتصار، الإنسان الوديع يدرك حقوق نفسه ويمارسها دون أن يشعر بأية غضاضة في ذلك، ويخطىء من يظن أن الوداعة تعطى لله حقه على حساب حق النفس، أو أنها تمنح الآخرين حقوقهم وتبخس النفس حقها ، كلا، فالله الوديع هو أيضا عادل ولا يكيل بمكيالين، ولذلك قال الرب له المجد «أعطوا تعطوا ، کيلا جيداً ملبداً مهزوزاً فائضا يعطون في أحضانكم، لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يكال لكم» (لو 6 : 38 ) أي أن النفس التي تعلمت أن تعطى للآخرين حقوقهم لابد أن يمنحها الله حقوقها وبذات المكيال.

ولقد رأينا روح الوداعة في حياة الرب تمنح للنفس حقها كما منحت لله وللآخرين حقوقهم، فمن أشهر التعبيرات التي تصادفنا في أحاديث الرب تعبير:

أنا هو !!

تكلم الرب كثيراً عن نفسه وأعطاها حقها كاملا أمام الناس، ورغم أن كلام الإنسان عن نفسه عادة ما يثير الاستنكار في نفوس السامعين إلا أننا نندهش عندما نجد كلام الرب عن نفسه لا يثير بداخلنا هذا الإحساس بل على العكس نجد فيه شبعاً وارتواء، ما هو السبب؟ السبب هو أن الرب ينطق بالحق عن نفسه، فهو لا يمدح نفسه بما ليس فيه ولا يدعي قدرة ليست له ولا وضعاً لا يستحقه، كما أن الدافع وراء كلامه عن نفسه هو خير السامعين وليس مجد ذاته لأنه مجداً من الناس لم يقبل ، روح الوداعة التي كان الرب يتكلم بها عن نفسه هي التي منحتنا القبول والإيمان بهذه الكلمات.

الوداعة في مقياس الإنسان هي أن يتكلم عن نفسه بالسوء ويسعى للتقليل من شأنها والتحقير من قدراتها ، لكن العجيب أنك قد تستمع لشخص يقلل جدا من شأن نفسه ورغم ذلك تشعر بالنفور من كلماته، لماذا ؟ لأن خلف الكلمات التي تقلل من شأن الذات تكمن روح تهدف من وراء هذه الكلمات عينها لتمجيد الذات وإضفاء صفة التواضع عليها !! هذه الوداعة مزيفة، والله لا يريدنا أن نتكلم بالسوء عن أنفسنا ولا أن نتكلم عنها بزهو بل أن نتكلم عنها - إذا لزم الأمر - ما هو حق في نظر الله.

 

أنا أفضل !!

اضطرت الظروف الرسول بولس في بعض الأحيان أن يتكلم عن نفسه ( 1كو 15 : 10      ، 2كو 11 ، 12 )  فنجده يعدد لنا الكثير من مجهوداته واحتماله وتعبه في سبيل الخدمة، حتى نجده يعقد مقارنة بينه وبين الآخرين فيقول «أنا أفضل» ( 2كو 11 : 23 ) ومع ذلك لا نشعر بأي انزعاج من كلامه لأنه يقول الحق عن نفسه ( 2كو 12 : 6 ) والدافع من وراء كلامه ليس أن يأخذ مجدا من الناس بل أن يحمى الكنيسة التي تعب في تأسيسها من تشكيك المشككين في ارساليته ( 2كو 11 : 2 ، 3 ) الوداعة التي في بولس لم تمنعه من الكلام عن نفسه لكنها حفظت كلامه في نطاق الحق.

التنازل عن الحق

                إذا كانت الوداعة تعطى للنفس حقها إلا أن النفس قد تختار إرادياً أن تتنازل عن هذا الحق لإنجاز عمل ما أو تتميم مشيئة الله، مع بقاء الإدراك الكامل لهذه الحقوق وقدرة النفس أن تستعيدها في أي وقت، مثلما كان لبولس سلطان أن لا يشتغل بيديه بل يعيش من الإنجيل، وسلطان أن يجول بأخت زوجة مثل باقي الرسل، لكنه اختار أن لا يمارس هذا السلطان لكي لا يجعل عائقا لإنجيل المسيح ( 1كو 9 : 12 ) . وفي الليلة الأخيرة نرى الرب يقوم عن العشاء ويغسل أرجل تلاميذه آخذاً مركز الخادم رغم إدراكه الداخلي لمركزه الحقيقي ( يو 13 : 3 )  وبعدما غسل أرجلهم قال لهم «أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأني أنا كذلك» ( يو 13 : 13 ) . لقد قام بعمل الخادم وهو مدرك تماما لمركزه كالسيد، وهذا هو الفرق بين «صغر النفس» و «وداعة النفس »!! فمن يعاني من «صغر النفس» قد يضع نفسه في مركز منخفض بسبب إحساس داخلي بأنه قليل الشأن، أما من يمتلك « وداعة النفس » فهو يضع نفسه في ذات المركز المنخفض لكن مع احتفاظه بإدراكه الداخلي بمركزه الحقيقي الذي له من الله، ويكون هذا التنازل إرادياً ومؤقتا ومحدوداً بأداء عمل ما أو تتميم مشيئة الله (يتبع).