الخميس، 29 ديسمبر 2011

فكر الإخلاء
«فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان في صورة
الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه» (في2: 5-7)
أروع ما في حدث ميلاد ربنا يسوع المسيح ليست الملابسات والظروف التي أحاطت به بل الفكر الذي كان في شخصه الكريم والذي تجسَّد في ميلاده، هذا الفكر الذي يمكننا أن نسميه «فكر الإخلاء»، والإخلاء كما نفهم من الشاهد المتقدم هو «التنازل الطوعي عن الحقوق لصالح الآخرين»، فربنا كان في صورة الله منذ الأزل، وهذه المكانة لها حقوق واجبة مثل أن يكون مرتفعاً عن بقية الخليقة وأن يُحاط بالتسبيح والتمجيد الدائم من الملائكة وأن يُخدم من كل الخليقة، ولكننا نرى في حدث الميلاد أن ربنا اختار طوعاً أن يتخلى عن هذه الحقوق ويقبل أن يتنازل ويُوضع قليلاً عن الملائكة، وفي المزود يختلط بخلائقه ليس فقط البشرية بل والحيوانية، وفي كل حياته يعيش يَخدِم ولا يُخدَم، وأن تكفّ من حوله أبواق التسبيح ويُسمح بأن تحيط به  أبواق الشكاية والتجريح!!
لم يتنازل ربنا عن مركزه كابن الله المساوي لله في الجوهر، حاشا!! فربنا المبارك ظل محتفظاً بهذا المقام السماوي الرفيع حتى وهو يجول بيننا على الأرض في صورة العبد (يو3: 13) لقد تنازل ربنا فقط عن الأمجاد والحقوق التي تحيط بهذا المركز، وهذا التنازل لم يكن مطلقاً بل مؤقتاً وإلى حين تتميم مشيئة الله من نحونا نحن البشر، وفي نهاية مهمته طلب من الآب أن يُعيد له «المجد» الذي كان له قبل كون العالم (يو17: 5) لم يطلب أن يستعيد «المقام»، حاشا، بل فقط «المجد» المحيط بهذا المقام!!
 ومشيئة الله التي أراد ربنا أن يتممها هي أن يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد (عب2: 10) وتتميم هذه المشيئة كان يستلزم أن يأتي ربنا في ثياب بشريتنا ويسير بيننا ويحمل خطايانا في جسده على الخشبة، ولم يكن ممكناً أن يتم هذا وهو مُحاط بأمجاد لاهوته، لذلك اختار ربنا يتنازل مؤقتاً عن حقه الأصيل في المجد لكي يمنحنا الفداء والخلاص والحياة الأبدية، لقد تنازل ربنا باختياره عن حقوقه لكي يمنحنا حقوقاً لم تكن لنا بالمرة، وتخلّى بإرادته عن أمجاد مقامه السرمدي ليعطينا أمجاداً لا نستحقها على الإطلاق!!
إن هذا الفكر الذي تجسَّد بكماله في ميلاد ربنا يسوع المسيح نراه يلمع بشكل جزئي في حياة الكثيرين من رجال الله على مر العصور، نراه في إبراهيم الذي اختار أن يسكن الخيام في أرضه الموعودة، ونراه في موسى الذي تنازل عن كل أمجاد وخزائن مصر، وفي يوسف الذي قَبِل أن يُعامل كعبد وكمذنب وهو ليس كذلك، وفي المعمدان الذي اختار أن ينقص ويتوارى لكي يزيد المسيح ويُستعلن، وبولس الذي تنازل طوعاً عن حقوقه الرسولية لكي لا يضع عائقاً لإنجيل المسيح...، ويعوزنا الوقت لكي نسرد كل هؤلاء الذين حملوا قبساً ضئيلاً من «فكر الإخلاء» فصنع الله بهم أعمالاً عظيمة وتمم بهم مشيئته على الأرض.
والرسول يطالبنا أن نفتح كياننا ليكون فينا هذا الفكر الذي كان في المسيح يسوع، أي «فكر الإخلاء»، أن يكون عندنا الاستعداد للتخلي عن بعض حقوقنا لبعض الوقت لأجل منفعة الآخرين، ألا يفكر كل واحد في ما لنفسه فقط بل في ما هو للآخرين أيضاً، ولاشك أن هذا الفكر غريب عن طبيعة البشر التي تسعى لامتلاك الحقوق وليس للتنازل عنها،  ولا شك أن الحياة بهذا الفكر في مجتمعنا المعاصر ستكون حياة غريبة وصعبة، ولكن كلما اقتربنا من هذا الفكر وقبلناه كلما اقتربنا من جوهر الميلاد وفهمناه وكلما صرنا أكثر استعداداً لخدمة الرب وتتميم مشيئته على الأرض!! وكل عام وأنتم بخير.

الأربعاء، 21 ديسمبر 2011



ملء بركة يوم الخمسين (1) 
بقلم : أندرو موري
« فحدث أن بولس جـاء إلى أفسس ، فإذ وجد تلاميذ قال لهم : هل قبلتم الروح القدس لما أمنتم ؟» (أع19: 1،2)
كان هذا بعد حوالي عشرين عاماً من انسكاب الروح القدس في يوم الخمسين ، في أثناء رحلة الرسول بولس أتى إلى أفسس ووجد في الكنيسة هناك بعض التلاميذ الذين لاحظ نقصاً في إيمانهم واختبارهم ، فسألهم : « هل قبلتم الروح القدس لما أمنتم ؟» وكانت إجابتهم أنهم لم يسمعوا عن الروح القدس !! لقد قبلوا معمودية يوحنا التي هي معمودية التوبة وآمنوا بشخص المسيح كالمخلص المزمع أن يأتي ، أما حقيقة انسكاب الروح القدس وعمله في حياة المؤمنين فكانوا لا يعرفون عنها شيئاً ، عندئذ أخذهم الرسول وبدأ يعلِّمهم عن الإنجيل الكامل للرب يسوع الذي أتى فعلاُ ومات وقام وارتفع للمجد وأخذ موعد الروح من الآب وأرسله إلى العالم  حتى أن كل يؤمن به يقبل أيضاً الروح القدس .
عند سماعهم هذه الأخبار المفرحة قبلوها بالإيمان واعتمدوا على أسم هذا المُخلِّص العظيم ، ربنا يسوع المسيح ، الذي يعمَّد تلاميذه بالروح القدس ، وعندئذ صلى بولس لأجلهم ووضع يديه عليهم فقبلوا الروح القدس وصاروا شركاء في ذات بركة يوم الخمسين وصاروا يتكلمون بألسنة أخرى .

 نوعان من الحياة

أريد أن أقول لكل أبناء الله الأعزاء أن هناك نوعين من الحياة المسيحية : الأولى نختبر فيها بعضاً من أعمال الروح القدس ، تماماً كما كان يحدث مع كثيرين في العهد القديم ، لكن نظل لا نقبله كروح الخمسين الذي أتي ليقيم في داخل قلوبنا إقامة دائمة ويمارس سلطانه الكامل على الحياة ،  أما النوع الثاني فهي الحياة التي تقبل حضور الروح الدائم وسلطانه الكامل على الحياة وتتمتع عملياً بملء فرح وبركة يوم الخمسين ، وهذه الحياة لن نعيشها إلا إذا أدركنا تماماً الفرق بين هذين النوعين من الحياة و فهمنا أن الحياة الثانية هي فقط مشيئة الله لكل واحد من أبنائه ، وأتينا بخجل وانسحاق أمام إلهنا واعترفنا بكل الخطايا التي تركناها تنمو في حياتنا ، و طلبنا انسكاب الروح في داخلنا بنفس بركة يوم الخمسين ، ليس لي غرض من كلامي الآتي إلا أن أدفع اخوتي المؤمنين لاختبار هذه الحياة الفائضة المباركة ، دعونا نضع هذا نصب أعيننا ونحن نتقدم لفهم الدروس التي نتعلمها من موقف كنيسة أفسس :

لابد من قبول الروح القدس

أول درس نتعلمه من هذه الحادثة هو : أن هناك فرقاً بين الإيمان وقبول الروح القدس ، لقد سألهم الرسول « هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم »؟! أي أن الرسول كان يخاطبهم كمؤمنين لكن الإيمان لم يكن كافياً لكي يعيشوا الحياة المسيحية الصحيحة ، فلكي نحيا الحياة المسيحية بحق ينبغي أن نتأكد من قبولنا لسكنى الروح داخلنا ، لقد كان التلاميذ مؤمنين حقيقيين أثناء سيرهم مع الرب فترة وجوده على الأرض ومع ذلك أوصاهم الرب ألا يبرحوا من أورشليم حتى ينالوا الروح القدس الذي سيرسله لهم من السماء ، والرسول بولس نفسـه حين رأى الرب في مجده على أبواب دمشق تجددت حياته بقوة هذه الرؤية وصار مؤمنـاً حقيقياً لكن هذا الإيمان لم يكن كافياً لتتميم قصد الله في حياته ، كان ينبغي أن يذهب حنانيا ويضع يديه عليه لكي يقبل الروح القدس ، عندئذ فقط صار قادراً على الشهادة للرب .

مستويان لعمل الروح

كل هذه الحقائق تعلِّمنا أن هناك مستويين يتعامل فيهما الروح القدس معنا : في المستوى الأول وهو المستوى المبدئي يتحرك الروح «على » حياتنا لكن دون أن يسـود بعد « في » أعماقنا ، في هذا المستوى يقودنا الروح للإيمان ويعمل عمل التجديد في داخلنا ويحفِّزنا  للسعي نحو كل ما هو حسن ومقدس ، لكن في المستوى الثاني الأعلى يسود الروح في أعماقنا عندما نقبله كشخص يسكن فينا دائما ونعطيه السيادة في داخلنا  ليعمل فينا لكي نريد ولكي نعمل إرادة الله ، وهذا المستوى هو النموذج الكامل للحياة المسيحية .
ذهب فيلبس و بشّر في السامرة وكثيرون قبلوا الإيمان واعتمدوا على أسم الرب يسوع وصار فرح عظيم في تلك المدينة ، وعندما سمع التلاميذ هذه الأخبار أرسلوا بطرس ويوحنا الذين لما نزلا السامرة صليا لأجل هؤلاء المؤمنين لكي يقبلوا الروح القدس ، وهذا يؤكد أن هذه العطية مختلفة تماماً عن العمل الأول للروح الذي قادهم للإيمان والتجديد والفرح في الرب يسوع المخلص ، كان هذا عملاً على مستوى أعلى : الآن ينسكب الروح من السمـاء من عند الرب المُمجَّد ذاته ويملأ أعماقهم بحضوره ويمارس سلطانه في تقديس كل حياتهم ، لو لم يختبر السامريون هذا الاختبار الثاني لظلوا فعلياً مؤمنين بالمسيح لكنهم مؤمنون ضعفاء غير قادرين على تتميم مشيئة الله ، تماماً كما نرى في أيامنا هذه كثيرين يؤمنون بالرب لكن حياتهم ضعيفة خالية من قوة وبركة يوم الخمسين ، وللحديث بقية .



ملء بركة يوم الخمسين (2)
أندرو موري

          إن المهمة العظمى لخدام الإنجيل هو أن يقودوا المؤمنين لقبول شخص الروح القدس. ألم يكن الهدف الأعظم للرب يسوع _ بعدما علّم تلاميذه ودرّبهم لمدة ثلاث سنين _ أن يقودهم إلى النقطة التي ينتظروا فيها موعد الآب وقبول الروح القدس المُرسل من السماء ؟ ألم يكن هذا هو الغرض الرئيسي لبطرس في يوم الخمسين ؟ ألم يؤكد لسامعيه الذين نُخسوا في قلوبهم أنهم بعدما يتوبوا ويعتمدوا لأجل غفران الخطايا ينبغي عندئذ أن يقبلوا الروح القدس (أع2: 38) ؟ ألم يكن هذا هو قصد الرسول بولس عندما سأل المؤمنين في رسائله إذا كانوا يعلموا أنهم « هيكل للروح لقدس » (1كو6: 19) ؟ أو عندما ذكّرهم أنهم ينبغي أن يمتلئوا بالروح (أف 5: 18) ؟ نعم ، إن الاحتياج الأعظم للحياة المسيحية هو قبول الروح القدس ، وبعد قبوله أن نعيش بتوافق مع حقيقة وجوه بداخلنا ، خادم الإنجيل ينبغي ألا يكرز فقط عن الروح القدس من حين إلى آخر ولا حتى معظم الوقت بل ينبغي أن يوجّه كل مجهوده للتعليم بأنه لا يمكن أن تكون هناك عبادة حقيقية إلا من خلال العمل الداخلي المتواصل للروح القدس .

إظهار النقص

         لكي نقود المؤمنين لقبوا شخص الروح القدس ينبغي أن نُظهر لهم النقص الشديد الموجود في حياتهم ، كان هذا هو الدافع خلف سؤال الرسول « هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم »؟ فكما أن العطاشى فقط هم الذين يطلبون الماء والمرضى فقط هم الذين يذهبون إلى الطبيب هكذا فقط المؤمنين الذين تهيئوا بمعرفة مدى النقص و الخطأ الموجود في حياتهم هم الذين يطلبون ملء بركة يوم الخمسين .
طالما ظل المؤمنون يعتقدون أن الشيء الوحيد الذي ينقص حياتهم هو المزيد من الأمانة أو بعض القوة أو قدر إضافي من الاهتمام لكي تصير حياتهم على ما يرام فلن تجد الكرازة ببركة يوم الخمسين اهتماماً لديهم !! فقط عندما يكتشفون أنهم لا يقفون على أرضية سليمة تجاه شخص الروح القدس وأنهم لم يختبروا إلا عمله المبدئي ولم يتذوقوا بعد مجد حلوله داخلهم بسلطانه الكامل عندئذ ينفتح أمامهم طريقاً لشيء أعظم وتنشأ رغبة لاختبار أعمق ، ولكي يتم هذا الاكتشاف ينبغي أن هذا السـؤال يُوجّه لكل واحد بشكل شخصي جداً  « هل قبلت الروح القدس لما أمنت » ؟ ومتى كانت الإجابة إحساس عميق بالأسف والنفي عندئذ لا تكون النهضة بعد بعيدة !!
                         الحاجة إلى المعونة
          المؤمنون قد يكونون في حاجة إلى المعونة لكي يقبلوا هذه البركة بالإيمان ، في سفر أعمال الرسل نقرأ دائماً عن وضع الأيدي والصلاة ، حتى بولس الذي كان تجديده بتدخل مباشر من الرب كان ينبغي أن يقبل الروح من خلال وضع الأيدي والصلاة من جانب حنانيا (أع11: 17) هذا يُظهر أنه ينبغي أن يوجد بين الخدام والمؤمنين عموماً سلطان الروح الذي يجعلهم القناة التي يسري فيها الإيمان والتشجيع للآخرين ، المؤمنون الضعفاء ينبغي أن يجدوا المعونة لقبول هذه البركة لأنفسهم ، أما هؤلاء الذين يمتلكون هذه البركة ويحملونها للآخرين فينبغي أن يدركوا ويفهموا اعتمادهم المطلق على الرب وانتظار كل البركة منه .عطية الروح القدس أُعطيت من الله نفسه ، وكل انسكاب جديد للروح يأتي من فوق ، لذلك ينبغي أن يكون هناك تعامل شخصي مستمر مع الله ، ينبغي أن يكون كلٌ من الخادم الذي يستخدمه الله لنقل البركة والمؤمنين الذين يستقبلوها في شركة لصيقة بالله ، لأن كل عطية صالحة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار ، الإيمان بهذا الحق هو الذي يعطينا الجرأة لكي نتوقع بثقة وسرور امتلاك بركة يوم الخمسين بكل ملئها ونؤمن أن من حقنا أن نحيا تحت ظل قيادة الروح المستمرة لحياتنا .
        المناداة بهذه البركة وقبولها سيعيد للمسيحية القوة الأولى ليوم الخمسين ، في يوم الخمسين كان التكلم بألسنة أخرى والتنبؤ نتائج للملء بالروح القدس ، وهنا في أفسس وبعد عشرين عاماً حدثت نفس المعجزة كعلامة ظاهرة وعربون لكل مواهب الروح المجيدة الأخرى ، من هنا نستطيع أن نؤمن أنه إذا عادت الكرازة بقبول الروح القدس والامتلاء به وقبلت الكنيسة هذه الكرازة فإن الحياة المباركة لكنيسة يوم الخمسين ستعود بكل قوتها الأولى.
       في أيامنا هذه هناك ازدياد في إدراك مدى نقص القوة في كنيسة الرب ، رغم الزيادة في وسائط النعمة إلا أننا لا نجد قوة الخلاص ظاهرة في حياة المؤمنين ولا سلطان التغيير موجود في كرازة الخدام ، ولا الانتصار موجود في صراع الكنيسة ضد عدم الإيمان والشر المنتشر في العالم ، فقط عندما نؤمن ببركة يوم الخمسين وأن من حقنا التمتع بكل ملئها وقوتها يمكننا عندئذ أن نعود نجد قوتنا الأولى ونقوم بعملنا الأول ، وللحديث بقية




 

 


الثلاثاء، 20 ديسمبر 2011


انتظر الرب
" أما منتظروا الرب فيجددون قوة "   ( أش 40 : 31 )
لو كنت على فراش الموت و طلبوا مني أن أقول رسالة أخيرة لكل المؤمنين في كل العالم و أن تكون الرسالة في كلمتين فقط ، عندئذ سأقول : " انتظروا الرب " .
حيثما توجهت أقابل مرتدين من كل الطوائف المسيحية و من كل فئات المؤمنين ، ألافا من المرتدين ، إخوة كانت لهم بدايات حسنة و شركة روحية مع الله لكنهم تراجعوا إلى الوراء و أصابهم الجمود و البرودة ، إن قلبي يتمزق حزنا عندما أفكر في كيف نحزن شخص الروح القدس بهذا الارتداد ، و كيف نجرح قلب يسوع المحب بفتور محبتنا ؟!
و لو سألنا هؤلاء المرتدين عن السبب وراء انحدارهم إلى هذا الوضع السيئ فسنسمع منهم عن آلاف الأسباب المختلفة للارتداد ، لكن الحقيقة أن هناك سببا واحدا رئيسيا يقف وراء كل هذه الأسباب : إنهم لم ينتظروا الرب .
لو انتظروا أمام الرب عندما شن إبليس هجومه الشرس و زعزع إيمانهم و أفقدهم محبتهم الأولى ، لجددوا قوتهم و استعادوا إيمانهم و محبتهم و ارتفعوا فوق أجنحة النسور و تغلبوا على هذا الهجوم الشرس ، و استطاعوا اختراق صفوف الأعداء بلا خوف ، بل اخترقوا تلك المشاكل بلا وجل .
ماذا يعني انتظار الرب ؟
انتظار الرب لا يعني تلك الصلاة التي تتلوها حال استيقاظك من النوم في الصباح ،  أو قبلما تدلف على فراشك في المساء . انتظار الرب هو تلك الصلاة التي تصل إلى عرش النعمة و تلقي القبول و تعود إليك محملة بالبركات ، هو الصلاة التي تقرع و تظل تقرع حتى ينهض صاحب البيت و يعطيك سؤل قلبك .
انتظار الرب هو الاقتراب إلى الله ، القرع على أبواب السماء ، التمسك بالوعود ، التحاجج مع القدير ، نسيان الذات و التحول عن كل اهتمامات الجسد ، التشبث بوعد الله حتى يتحقق . هذا الموقف الداخلي المنتظر للرب يجعل كل كنوز السماء في متناول يد الإنسان الذي ينتظر الرب ، و يجعله مؤمنا ثابتا ينتصر حين ينكسر الآخرون و يثبت حين يرتدون . في بوتقة انتظار الرب تكتسب النفس حكمة الله و قوته حتى يتعجب منها الجميع ، هذه النفس التي انتظرت الرب و صبرت له سوف تثبت أمامه في وقت الامتحان حينما يجزع الآخرون و يهرعون هنا و هناك طلبا للمعونة من هذا الإنسان أو ذاك .
أنظر إلى ما قاله المرنم عن اختباره الشخصي : " انتظارا انتظرت الرب فمال إلـى و سمع صراخي و أصعدني من جب الهلاك من طين الحمأة و أقام على صخرة رجلي ، ثبت خطواتي و جعل في فمي ترنيمة جديدة تسبيحه لإلهنا ، كثيرون يرون و يخافون و يتوكلون على الرب " ( مز 40 : 1 ـ 3 ) .
طريق النصرة
زرت إحدى الكنائس الضعيفة التي يبدو أن كل شئ فيها يسير إلى الوراء !! و رأيت الكثيرين باردين و غير متحمسين ، لكن كانت هناك أخت واحدة يشع نور السعادة من وجهها و تخرج تسبيحه جميلة من فمها  ، و أخبرتني هذه الأخت كيف أنها عندما نظرت إلى الآخرين و هم يتساقطون من حولها و رأت عدم المبالاة تستشري بين الجماعة ، شعرت باليأس و الإحباط وفقدت حماسها و كادت رجلها تزل ، لكنها ذهبت إلى الله و جلست أمامه حتى اقترب منها و فتح عينيها لترى الهوة التي كادت تسقط فيها ، و هناك تعلمت أن واجبها الأول و الأخير هو أن تتبع يسوع لا أن تنظر إلى الآخرين ، أن تسير أمام إلهها بقلب كامل ، و أن تشق طريقها إليه وسط كل الارتداد المحيط بها .
عندئذ اعترفت بما أراها الله ، اعترفت أنها كانت على وشك الانضمام لجماعة المرتدين بسبب أنها نظرت إليهم بدلا من أن تنظر إلى يسوع ، اعترفت بهذا و انكسرت أمام الله و جددت عهودها حتى ملأ الفرح قلبها ، ووضع الله مخافته في داخلها و ملأها بمجد محضره .
و أكدت لي أنها مازالت ترتعد كلما تذكرت الخطر الذي كانت معرضة له ، و أن سبب نصرتها الوحيد هو انتظارها أمام الله أوقاتا طويلة في سكون الليل ، و هي الآن تمتلئ بثقة الرجاء و يقين الإيمان أن يقيم الله وسط هذه الجماعة عينها عشرة آلاف جندي للمسيح !!
يقول داود : " إنما لله انتظري يا نفسي لأن من قبله رجائي " ( مز 62 : 5 ) .
و مرة أخرى يقول " انتظرتك يا رب انتظرت نفسيو بكلامه رجوت ، نفسي تنتظر الرب أكثر من المراقبين الصبح أكثر من المراقبين الصبح " ( مز 130 : 5 ، 6 ) و في موضع آخر يرسل لك عزيزي القارئ هذه النصيحة : " انتظر الرب ، ليتشدد و ليتشجع قلبك و انتظر الرب " ( مز 27 : 14 ) .
إن سر الانتصار يكمن في موقف النفس تجاه الله ، النفس التي تنتظر الله و تصبر له ترتبط دائما بالنجاح ، لا يمكن أن تفشل أبدا . قد تبدو للبعض لأول وهلة أنك فاشل ، لكن في نهاية الوقت سيرون أنك كنت ناجحا طوال الوقت لأنك كنت في انتظار أمام الله ، و كان الله يصنع منك ـ رغم كل المظاهر المحيطة ـ رجلا ناجحا .
وضع يسوع طريق النصرة في هذه الكلمات " أما أنت فمتى صليت فأدخل إلى مخدعك و أغلق بابك و صل إلى أبيك الذي في الخفاء ، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية " ( مت 6 : 6 ) .
انتظر الرب يا أخي ، و اعلم أن الفشل الروحي يبدأ من المخدع المهجور و انتظر الرب حتى تمتلئ بحكمته و تكتسي بقوته و تشتعل بنيران مجيئه .
        


أهمية الانتظار

" و فيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا   موعد الآب "
( أع 1 : 4 )
        أمر يسوع تلاميذه أن ينتظروا في أورشليم حتى ينالوا ملء الروح القدس ، و لا شك أن هذا الانتظار كان ثقيلا على نفوسهم و لكنه كان ضروريا كما هو ضروري لنا اليوم ، فالانتظار أمام الله لأجل ملء الروح يصنع فينا أمرين :
                                        1ـ التفريغ
        الانتظار يفرغنا حتى يمكن أن نمتلئ !! قليلون هم الذين ينتظرون حتى يتفرغون و لذلك قليلون هم الذين يمتلئون بالروح ، إن نفوسنا مملوءة بأمور كثيرة لا تليق بشخص الروح القدس ، و ينبغي أن نتفرغ من هذه الأمور حتى نصبح مهيئين لقبول الملء و الانتظار هو المناخ المناسب لحدوث هذا التفريغ ، لقد اجتمع التلاميذ معا و انتظروا أمام الله و صلـــوا و فحصوا قلوبهم ، و نسوا خوفهم من الحكام الغاضبين الذين قتلوا سيدهم ، نسوا غيرتهم المرة و طموحهم الأناني و خلافاتهم الصبيانية ، و تفرغوا تماما من محبة الذات و الشعور بالبر الذاتي و الثقة الباطلة في النفس ، و صارت قلوبهم متحدة مثل قلب رجــل واحـد ، و قدموا طلبة واحدة تعبر عن جوعهم الشديد لحضور الله ، و عندئذ فقط انسكب عليهم حضور الله .
        لقد أتى إليه الله ، أتي بالقوة و النار ، أتى ليطهرهم و ينظفهم و يقدسهم ليسكن في قلوبهم ، أتى ليمنحهم صلابة في مواجهة أعدائهم ، أتى ليجعلهم متضعين في قلب الانتصار ، صبورين في وسط التجارب ، ثابتين في مواجهة الاضطهادات ، فرحين في وحدتهم و تخلي الناس عنهم ، و غير خائفين في مواجهة الموت .
        سكنى الروح فيهم جعلهم حكماء في ربح النفوس و ملأهم بروح سيدهم ، حتى أنهم قلبوا المسكونة رأسا على عقب ، و رغم ذلك نراهم لم يأخذوا مجدا لأنفسهم بل أعطوا كل المجد لمن يستحقه ، لشخص الله له المجد .
        و نحن أيضا تحت التزام أن نمتلئ بالروح القدس ( أف 5 : 18 ) و لو لم نمتلئ في التو و اللحظة فلا ينبغي أن نظن أن هذه البركة ليست لنا ، و لا نسمح لعدم الإيمان أن يملأنا باتضاع كاذب يجعلنا نرضى بوضعنا الراهن و نعقد أيادينا و نكف عن الصراخ إلى الله ، إن الله يسمح لنا بالانتظار لكي نصرخ إليه أكثر كثيرا و نفتش الكتب بحثا عن مزيد من النـور و الحق ، و نفحص قلوبنا و نخضع نفوسنا و نأخذ جانب الله ضد ذواتنا الرديئة و ضد إبليـس و أعماله فينا ، و لا نخور من الانتظار حتى نغتصب ملكوت السموات اغتصابا . و الله يسمح لنا بالانتظار أيضا لأجل :
2ـ زيادة إيماننا
الله يحب أن نتقدم إليه بجرأة الإيمان و نلج في طلبنا حتى يستجيب ، ومثلما غضب أليشع من يوآش ملك إسرائيل عندما ضرب السهام ثلاث مرات ووقف بينما كان ينبغي أن يضرب خمس أو ست مرات ( 2 مل 13 : 19 ) هكذا يغضب الله إذا وجد إيماننا ضعيفا يكف عن الطلب بسرعة و ييأس بسهولة و يتحول بعيدا و يمضي بدون أن ينال البركة التي طلبها ، و يشبع بسرعة بأقل قدر من التعزية بينما الله يريد أن يطينا المعزي نفسه !!
المرأة الفينيقية التي أتت إلى يسوع لكي يشفي ابنتها هي مثل للإيمان الــذي ينمـو و يتقوى كلما تأنى الله في الاستجابة وسمح له بالانتظار ، و هي تخجل معظم المؤمنين بجرأتها و إصرارها و ثبات إيمانها ، لم ترحل بدون أن تنال بدون أن تنال البركة التي طلبتها رغم أن يسوع في البداية لم يجبها بكلمة ، و كثيرا ما يفعل معنا اليوم ، نصلي و لا نجد إجابة ، الله صامت !!     
و عندما ألحت المرأة في طلبها وجدنا يسوع يصدها بقوله إنه لم يأت لأمثالها بل لخراف بيت إسرائيل الضالة ، و مثل هذه الكلمات القاسية تكون كافية لتجعل مؤمني هذه الأيام يشتكون على الله و يجدفون عليه !! لكن الأمر لم يكن هكذا مع هذه المرأة ، لقد ارتقى إيمانها فوق هذه العقبة و استمرت في لجاجتها !!
و أخيرا يبدو لنا أن يسوع يضع ملحا على جرح نفسها بقوله : " ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين و يطرح للكلاب " !! و عندئذ وصل إيمانها و تمسكها بالرب إلى ذروته فقالت : " نعم يا سيد ، و الكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها "  لقد قبلت أن تأخذ مكان الكلاب و تقبل نصيب الكلاب ، و كان هذا اعترافا منها بحالتها و حالة شعبها الأدبية المتردية .
و عندما زاد إيمانها و تنقى حتى وصل إلى ذروته وجدنا يسوع يجيبها إلى طلبها : " يا امرأة عظيم إيمانك ، ليكن لك كما تريدين " ( مت 15 : 28 ) .
لقد أراد يسوع أن يباركها منذ البداية و لكنه سمح لها بالانتظار لكي يتقوى إيمانهــا و يستخرج منها اعترافا بحالة قلبها ، و هكذا الرب يريد أن يملأنا اليوم و لكنه قد يسمح بالانتظار لكي يفرغنا و يزيد إيماننا . 

          
الله معنا

"هوذا العذراء تحبل و تلد ابنا و يدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا "
( مت 1 : 23 )
الله دائما يتصرف بما يتفق مع صفاته ، حيثما يوجد و كيفما يعمل لن تجد فيه تغييرا و لا ظل دوران ، إلا أن عدم محدوديته اللامتناهية تجعله دائما أبد من كل معرفتنا و إدراكنا ، فمعرفته المطلقة و حكمته الكاملة تجعله يتصرف بمنطق ابعد من حدود منطقنا البشري ، و لأجل هذا السبب لا نستطيع أن نتنبأ بأعمال الله مسبقا ، فهو دائما يدهشنا عندما يتحرك !! مهما كان اتساع أفق توقعاتنا فإن الله عندما يتحرك تجاهنا لابد أن يصيبنا بالذهول من قدرته على تخطي كل توقعاتنا ، مما يجعل العقل ينحني بخشوع معترفا بمحدوديته المعيبة و يجعل النفس تنسبي في إعجاب بغنى الله الذي لا يستقصى .
        لذلك فإن أحد الصفات التي تلازم أي علاقة حقيقية مع الله هي الاندهاش المستمر !! دائما نكتشف أن الله أعظم مما نتصور و أكثر مجدا مما اعتقدنا !!
        لكن نستدرك ، فنقول أنه بمقياس آخر نستطيع أن نتنبأ بأعمال الله لأنه ـ كما قلنا ـ يعمل دائما بما يتفق مع صفاته ، و لأننا نعلم مثلا أن الله محبة لذلك يمكننا أن نتنبأ بيقين أن المحبة ستكون جوهر كل عمل من أعماله ، سواء في خلاص خاطئ تائب أو في تأديب مؤمن غير تائب !! و بالمثل نستطيع أن نتأكد أنه سيكون دائما عادلا و أمينا و رحيما و حقا .
ألم نسال أنفسنا كثيرا عن كيف كان الله سيتصرف لو كان في مكاننا ؟! ألم نجرب أحيانا بأن الله لا يشعر بالصعوبة التي نشعر نحن بها عندما نحاول أن نحيا بالصواب في مثل هذا العالم الشرير ؟! لكننا لسنا في حاجة لأن نسال عن كيف سيتصرف الله لو كان في مكاننا لأنه فعلا كان في مكاننا !! إنه سر التقوى أن الله ظهر في الجسد ، لقد سمي عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا !!
عندما عاش يسوع على الأرض كان إنسانا يتصرف مثل الله ، و بنفس الدرجة كان إلها يتصرف مثل الإنسان !! كان يسوع هو الله الذي يتصرف بما يتفق مع صفاته في ارض الإنسان و من خلال إنسان !! إننا نعلم كيف يتصرف الله في السماء لأننا رأيناه يتصرف على الأرض !! و هذا ما قاله يسوع نفسه : " الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب " ( يو 14 : 9 ) .
                    
و الآن أيضا " الله معنا "
و إن كان الله قد عاش بيننا في ايام تجسد المسيح فإن هذا لم ينته بصعود الرب إلى السماء ، بل هو مازال يعيش معنا إلى اليوم من خلال حلوله في المؤمنين ، و حيثما يسكن في المؤمنين تجده يتصرف مع صفاته ، تماما كما فعل في ايام تجسده ، و هذه ليست أوهاما بل حقا يظهر كل يوم في حياة المؤمنين الحقيقيين .
        حقيقة أن الله بكل أقانيمه يسكن في طبيعة المؤمن الجديدة هي حقيقة مؤكدة وواضحة في الكتاب المقدس ، فقد قيل عن الآب و الابن " أجاب يسوع و قال له إن أحبني أحد يحفظ كلامي و يحبه أبي و غليه نأتي و عنده نصنع منزلا " ( يو 14 : 23 ) و عن أقنوم الروح القدس يقول : " روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه و لا يعرفه و أما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم و يكون فيكم " ( يو 14 : 17 ) .
كل ما هو الله في طبيعته نراه في المسيح يسوع ، هذا هو الإيمان الراسخ للكنيسة منذ أيام الرسل و حتى الآن ، في أيام بدعة آريوس قاد الله آباء الكنيسة لكي يجمعوا تعاليم العهد الجديد في هذا الموضوع و يلخصوها في قانون للإيمان يقبله جميع المؤمنين كحق نهائي ، و قالوا في هذا القانون " نؤمن و نعترف بأن ربنا يسوع المسيح ابن الله هو إله و إنسان ، إله من نفس جوهر أبيه ، مولود منه قبل كل الدهور ، و إنسان من نفس جوهر أمه ، مولود منها في العالم ، إلها كاملا و إنسانا كاملا ، و كما أن نفس الإنسان و جسده هما إنسان واحد هكذا الله و الإنسان هما مسيح واحد " .
و المسيح في قلب المؤمن الآن سيعمل نفس ما عمله في الجليل و اليهودية ، سلطانه الآن هو نفس سلطانه آنذاك ، كان قدوسا ، بارا ، عطوفا ، وديعا و متواضعا ، و هو لم يتغير من وقتها و حتى الآن ، إنه ما زال نفسه حيثما وجد ، سواء كان عن يمين الله أو في قلب أصغر تلميذ حقيقي له على الأرض ، كان صدوقا ، محبا ، مصليا ، رقيقا ، عابدا ، باذلا لنفسه عندما كان يسير " بين الناس " ، أليس طبيعيا أن نتوقع منه نفس السلوك عندما يسير الآن " في الناس " !!
لماذا إذا يتصرف المؤمنون أحيانا بأسلوب مغاير لأسلوب المسيح ؟! البعض يقولون انه إذا فشل مؤمن في إظهار صفات المسيح الجميلة في حياته فهذا دليل على أنه مخادع و هو ليس مؤنا حقيقيا على الإطلاق ، لكن الأمور ليست بهذه البساطة ، فالحقيقة أنه بينما يسكن المسيح في طبيعة المؤمن الجديدة إلا أنه يلقى مقاومة من طبيعة المؤمن القديمة ، و الكتاب يعلمنا في ( رو 6 ـ 8 ) طريق الانتصار على هذه المقاومة ، لو منحنا يسوع سلطانا كاملا على حياتنا فسوف يحيا فينا تماما كما عاش قديما في اليهودية ، و يكون بالحق الله معنا !! 

الرب فى الوسط

" و أقول لكم أيضا إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شئ يطلبانه فإنه يكون لهما ... لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم "
  ( مت 18 : 19 ، 20 )
        ما أعظم الدرس الموجود في هذه الآيات الثمينة ، فالرب يريد أن يعلمنا أن الوحدة بين المؤمنين باسمه تصنع مكانا لحضوره في هذه الأرض ، الاتحاد المشار إليه بكلمتي " اتفق " و " اجتمع " يخلق مكانا لسكنى الله في هذا العالم ( أف 2 : 22 ) و بسبب هذه الحقيقة تكون الوحدة بين المؤمنين هي أهم عامل في بنيان كنيسة المسيح .
        كان كسر الإنسان للوحدة التي بينه و بين الله و بينه و بين البشر رفقائه هي الخطوة الأولى في ابتعاده عن الله ، و لذلك تكون الوحدة مع الله و مع المؤمنين هي الخطوة الأولى أيضا في طريق العودة الحقيقية لله .
طوبى لصانعي السلام
        إن صانعي السلام مطوبون ( مت 5 : 9 ) هل تعرف لماذا ؟ لأن من يصنع سلاما بين الإخوة يصنع مكانا لسكنى الله في وسطهم !! و من الناحية الأخرى يقول الكتاب إن زارع الخصومات بين الإخوة هو مكرهة نفس الرب ( أم 6 : 19 ) هل تعرف السبب ؟ لأن من صنع خصومة بين الإخوة يدمر مسكن الله على الأرض و يخرج الرب خارجا !!  لذلك يأمرنا الرسول بولس بأن نلاحظ الذين يصنعون الشقاقات و العثرات بيننا و نعرض عنهــم ( يو 16 : 17 ) .
        أن تصنع سلاما بين الإخوة و تأتي بالرب إلى الوسط فهذا هو أعظم عمل يمكن لإنسان أن يصنعه ، و أن تزرع بينهم خصومة و تدمر هيكل الله فهذا هو أشر عمل يمكن أن يصنعه إنسان أو شيطان . و إذا كانت السماء هي كل مكان يسكن فيه الله و إذا كانت الجحيم هي كل مكان لا يسكن فيه الله ، فإننا نستطيع القول أن الاتحاد بين المؤمنين يصنع سماء و الانقسام يخلق جحيما .
                             هناك أمر بالبركة
        عندما كان الرب على الأرض بالجسد لم يكن له أين يسند رأسه ، لكن من حين لآخر كان أحدهم يفتح له بيته و يدعوه للإقامة فيه ، و إن كان صاحب البيت يقصد أن يسدي للرب خدمة إلا أنه في الواقع المستفيد الأول ، لأن الرب لا يدخل مكان إلا و يملؤه بالبركة ، لأن أمامه دائما شبع سرور و في يمينه نعم إلا الأبد .
        و بالمثل في يومنا هذا لا يجد الرب لنفسه مكانا لسكناه بالروح ، لكن إذا وجدت جماعة صغيرة تتحد باسمه و تدعوه بنفس واحدة للسكنى في وسطهم فهم يسدون له خدمة عظيمة إذ يهيئون له موطئ قدم في هذا العالم الهالك ، و من الناحية الأخرى سيكونون هم أول المستفيدين من حضوره ، إذ ستغمرهم البركات مثل الدهن الطيب على الرأس النازل على اللحية إلى طرف الثياب ، مثل ندى حرمون النازل على جبل صهيون ، لأنه حيثما سكن الإخوة معا فهناك أمر الرب بالبركة ، حياة إلى الأبد ( مز 133 ) .
المسيح و ليست الذات
        و مع ذلك فإن اتحاد المؤمنين معا بنفس واحدة ليس عملا سهلا ، فالأمر يحتاج إلى جهاد لكي نحفظ وحدانية الروح برباط السلام ( أف 4 : 3 ) هل تعرف لماذا ؟ لأن الذات الموجودة في كل واحد من المؤمنين تريد أن تكون هي الظاهرة و المسيطرة على الاجتماع ، الذات تحت دائما أن تكون " في الوسط " . في مكان الرب نفسه ، تريد أن تحوز الاهتمام و تفرض نفسها على الجماعة ، و لذلك عندما توجد الذات في فرد أو أكثر من جماعة المؤمنين المجتمعين معا فلابد أن يكون هناك صراع و تشويش و انقسام ، الكل يسعى للسيطرة و لفرض فكره على الجماعة ، و هكذا لا يمكن أن يكون الرب في الوسط لأننا غير مجتمعين باسمه بل باسم أنفسنا ، إن الاجتماع باسم الرب يعني أن نجتمع لحسابه ، لمجده ، لتتميم مشيئته و الخضوع لفكره ، و لكن إذا تركنا الذات تسودنا فإنها تحول الاجتماع لحسابها ، لمجدها ، لتتميم مشيئتها و الخضوع لفكرها .
        إن الذات هي " ضد المسيح " في وسط المؤمنين ، و الله لا يسكن حيث تسكن الذات ، و عندما يتكلم الرب عن اثنين أو ثلاثة مجتمعين باسمه فهذا ليس أمرا هينا ، إنه يعني اثنين أو ثلاثة قرروا التخلي عن ذواتهم لحساب الرب ، اثنين أو ثلاثة أنكروا أنفسهم لكي يستطيعوا أن يكونوا بنفس واحدة ، اثنين أو ثلاثة جاهدوا حتى يحفظوا وحدانية الروح بينهم ، اثنين أو ثلاثة تعلموا أن لا يجتمعوا لحساب ذواتهم بل لحساب الرب وحده ، باسمه و لمجده وحده ، هؤلاء الاثنان أو الثلاثة فقط هم مكان سكنى الله على الأرض ، طوبى لهم لأنهم سيتمتعون ببركته و يكونون سبب بركة للعالم أجمع .


عبيـــد المحبة
" يعقوب عبد الله و الرب يسوع المسيح " ( يع 1 : 1 )
" يهوذا عبد يسوع المسيح " ( يه 1 )
" سمعان بطرس عبد يسوع المسيح " ( 2 بط 1 : 1 )
" بولس و تيموثاوس عبدا يسوع المسيح " ( في 1 : 1 )
        هكذا كتب يعقوب و يهو1ا و بطرس و بولس بجرأة و افتخار رغم أنهم عاشوا في عصر كان يعتبر العبودية و الخدمة وصمة عار في جبين الإنسان ، لكن هذا العصر بقيمة المزيفة و أمجاده الباطلة كان يضمحل و يموت ، و عبيد المسيح أولئك كانوا يقفون على أعتاب عصر تصبح فيه الخدمة و العبودية علامة مميزة لأبناء الله تمنحهم المجد و الكرامة .
        لأنها في الواقع ليست عبودية القهر و الاستبداد بل هي عبودية اختيارية ، عبودية المحبة !! كانت العبودية هي الاختيار الإرادي لبولس و بطرس و يهوذا و يعقوب ، لقد امتلكهم يسوع بمحبته ، لقد جلسوا طويلا عند أقدام أعظم عبد للمحبة عرفه التاريخ ، ذاك الذي أتى لا ليخدم بل ليخدم و ليبذل نفسه فدية عن كثيرين ، لقد رأوه و هو يبذل نفسه للمساكين و المتعبين و ثقيلي الأحمال ، رأوه يعطي حياته للفاسدين و الخطاة و غير الشاكرين ، لقد رأوا حياته المباركة تنسكب لأجل الجميع بدافع المحبة ، و لقد انكسرت قلوبهم و انسحقت أمام محبته العظيمة تلك ، و منذ ذلك الحين فصاعدا وجدوا أنفسهم عبيدا لمحبته ، لم يعودوا أحرارا لكي يذهبوا أو يجيئوا كما يرغبون بل فقط كما يرغب هو ، لأن ربط المحبة ربطتهم .
        و هذا الرباط أصبح بالنسبة لهم الحرية الكاملة !! أصبح فرحهم الوحيد أن يفعلوا ما يحسن في عينيه ، حريتهم كانت كاملة و كلما فعلوا مرضاته ثبتوا أكثر في الحرية ، لأن الحر فقط هو من يستطيع أن يفعل دائما ما يسعده ن و عبد المحبة لا يسعده إلا أن يفعل مرضاة سيده ، هذا هو فرحه و إكليل ابتهاجه .
        عبد المحبة يضع نفسه بالكامل في خدمة سيده ، عن كله عيون تراقب سيده ، و كله آذان تصغي لسيده ، ذهنه متيقظ و يداه جاهزتان و قدماه سريعتان في تتميم مشيئة سيده ، سعادته الوحيدة هي أن يجلس عند قدمي السيد و يتطلع إلى وجهه المحبوب ، أن يصغي إلى صوته و يسوع ليؤدي المهمة التي كلفه بها ، أن يشاركه آلامه و أحزانه ، أن ينتظر على بابه ، أن يحافظ على مجده ، أن يعظم اسمه و يمجد شخصه ، و إذا لزم الأمر أن يموت لأجله و هو يعتبر كل هذا كمال الحرية . " لأن نيري هين و حملي خفيف " ( مت 11 : 28 ) إن نيره هو نير المحبة و هو هين لأن المحبة تجعله هينا ، و حمله هو خدمة المحبة و هو خفيف أن المحبة تجعله خفيفا ، بالنسبة للآخرين قد يبدو النير غير محتمل و الحمل ثقيلا ، لكن بالنسبة لهؤلاء الذين دخلوا إلى أعماق السيد فهم يعتبرون نيره علامة للحرية و حمله أجنحة للنفس تحلق بها في الآفاق الرحيبة .
        عبد المحبة لا يخاف من سيده لأن المحبة تطرد الخوف إلى خارج ، إن لسان حاله " ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت .. هوذا يقتلني ، لا انتظر شيئا " إن سروره في مشيئة سيده ، و لا يمكن أن يكون هناك خوف في مثل هذه العلاقة .
        عبيد المحبة يتممون مشيئة الله كما في السماء كذلك على الأرض ، لأنه ماذا تستطيع الملائكة أن تفعله أكثر من أن تخدم الله بمثل هذه المحبة الملتهبة ؟!
                                    ضرورة الإعلان
        إذا سألت كيف يمكن أن تصير عبدا للمحبة أجيبك : لابد أن يعلن الله ذاته لك ، لو كانت محبتك له الآن فقيرة جدا و خالية من القوة فذلك لأنك لا تعرفه ، لم تقترب منه بالدرجة الكافية لترى جماله .
        بالنسبة لأهل العالم قد يبدو الرب غير جميل لأنهم لم يطلبوا أن يروه ، دعه يريك نفسه لكي تحبه ، لقد رأى بولس مجده حتى عميت عيناه من ال  ياء ، و بقية التلاميذ عاشوا معه و ساروا بجواره ، لقد أحبوه لأنهم عرفوه جيدا ، و لهذا استطاعوا أن يتخذوا القرار بأن يصيروا له عبيدا ، تماما مثل موسى الذي اختار " أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية ، حاسبا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة " ( عب 11 : 25 ، 26 )
        عندما يعلن الرب ذاته لك ستعلم كم هو عظيم ، و كيف أنه يتنازل كثيرا جدا عندما يطلب منا محبة قلوبنا الفقيرة ، و سيكون عليك عندئذ أن تختار بين أن تضع حياتك بين يديه أو تضعها في أي مكان آخر ، و الاختيار ينبغي أن يكون كاملا و نهائيا و بكل حرية .
        و عندما تصير عبدا للمحبة ينبغي أن تتعلم كيف تنتظر السيد : لو صمت ... انتظر ، لو تكلم ... استمع ، لو أمر ... اعمل ، إن مشيئته مدونة في كلمته .. فتش الكتب ، الهج فيها نهارا و ليلا ، خبئ كلمته في قلبك ، لا تنسها ..
        خذ وقتا كافيا لطلب وجهه ، هل يمكن أن يكون هناك عبد مشغول لدرجة أنه لا يجد وقتا لكي يعرف مشيئة سيده ؟! كلا بكل تأكيد ، ينبغي أن تأخذ الوقت ، أن توجد الوقت ، أن تصنع الوقت لطلب الرب ، و هو سيوجد لك و سوف يعلن نفسه لك ، و عندئذ ستعرف معنى عبودية المحلة .

    الذين يحبون أنفسهم جدا
          مئة وعشرون ألفا من المديانيين قاموا لمحاربة إسرائيل فهب لصد الهجوم اثنــان و ثلاثون ألف إسرائيلي ( قض 6 ، 7 ) لكن الله رأى أنه إذا هزم الإسرائيلي  الواحد أربعة مديانيين فسيكون هذا مدعاة للافتخار بالذات و نسيان الله ، و سيقول الواحد منهم " يدي خلصتني " ، كما كان الرب يعلم أن هناك الكثير من ذوي القلوب المرتجفة و الركب المخلعة يتحينون الفرصة لكي يهربوا من الحرب ، لذلك قال لجدعون " ناد في آذان الشعب قائلا من كان خائفا و مرتعدا فليرجع " فرجع من الشعب اثنان و عشرون ألفا و بقي عشرة آلاف .
        ومرة أخرى رأى الرب أنه إذا هزم الإسرائيلي الواحد اثني عشر مديانيا فسيكون هذا أكثر مدعاة للافتخار و نسيان الله ، لذلك قال لجدعون " انزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك ... كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده ، و كذا كل من حثا على ركبتيه للشرب ، و كان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاث مئة رجل .. فقال الرب لجدعون بالثلاث مئة الرجل الذين ولغوا أخلصكم و أدفع المديانيين ليدك ، و أما سائر الشعب فليذهبوا كل واحد إلى مكانه .
        هؤلاء الثلاث مئة هم الذين يستطيع الله أن يستخدمهم ، ليس فقط أنهم شجعان لكن بالأحرى لأنتهم يعرفون كيف ينكرون أنفسهم ، لم ينبطحوا على وجوههم لينهلوا من الماء كما يشاءون لأنهم تعلموا أن يضبطوا أنفسهم في كل شئ و يكبحوا جماح شهواتهم عندما يكونون في وقت حر و جهاد ، لذلك وقفوا بعيون مفتوحة على العدو و بيد تمسك بالسلاح و باليد الأخرى اغترفوا القليل من الماء ليرووا ظمأهم . رغم أنهم كانوا عطشى مثل كل الباقين ، و رغم أن النهر كان يجري عند أقدامهم غزيرا .
        بقية الرجال لم يكونوا من ضمن الخائفين من الحرب لكنهم يريدون أن يشربوا الكثير من الماء قبل الذهاب للحرب ، و رغم أن العدو يتقدم نحوهم نراهم يتركون السلاح و ينبطحون أرضا و ينزلون برؤوسهم إلى النهر لكي يبتلعوا أكبر قدر ممكن من المياه ، أنهم يحبون أنفسهم حتى في وقت الحرب ، لذلك أرسلهم الله إلى منازلهم شأنهم شأن بقية الخائفين ، و اكتفى بالثلاث مئة رجل و خاض بهم الحرب ضد كل جيش المديانيين و انتصر . حيث لا مجال للافتخار بقوة الإنسان و حيث ينبغي أن يعود كل المجد لله .
        هناك في صفوف المؤمنين بعض الخائفين الذين لا يحتملون أي نوع من المقاومة أو الاضطهاد ، و يتجنبون خوض أية معركة روحية لأجل المسيح . و يتراجعون سريعا إلى الصفوف الخلفية و يكتفون بالجلوس في منازلهم و مراقبة الأحداث عن بعد ، لكن هناك أيضا غير خائفين بل لعلهم يرغبون في خوض أية معركة من أجل المسيح ، تجدهم يرنمون و يصلون دائما بصوت عال غير مبالين بالمقاومين ، و تراهم يجاهرون بشهادتهم عن المسيح أمام الجميع ، و لكنهم رغم هذا غير نافعين للسيد ، و لا يمكن أن يستخدمهم لإتمام عمله !! لماذا ؟ لأنهم يحبون أنفسهم جدا !! عندما يريدون شيئا فلابد أن يحصلوا عليه مهما كلفهم هذا من خسائر روحية ، لم يتعلموا أن ينكروا أنفسهم و يقمعوا مشيئات الجسد في وقت الحرب .
        أعرف كثيرين يعلمون أن تناول طعام دسم قبل الذهاب إلى الاجتماع يسحب الدم من الرأس إلى المعدة مما يصيب الإنسان بالتخمة و عدم التركيز و الانتباه و يحرم النفس من إدراك الأمور الروحية العميقة و الجهاد في الصلاة و يمنع الخادم من خدمة النفوس باهتمام و تركيز ، و رغم كل هذا هم يحبون الطعام جدا لذلك يتناولون طعامهم الدسم المعتاد قبل الذهاب إلى الاجتماع ضاربين عرض الحائط بكل ما يعرفونه من محاذير و بكل ما وراءهم من مسئوليات ، و هكذا يحزن روح الله و يفارق خدمتهم ، ليس لأنهم ضعفاء جبناء بل فقط لأنهم يحبون أنفسهم جدا .
        و أعرف كثيرين لا يسهرون أبدا في صلوات طويلة أمام الرب من أجل حياتهـــم و خدمتهم و النفوس المحيطة بهم ، ليس لأنهم ضعفاء صحيا بل فقط لأنهم يحبون النوم جدا ، لذلك لا يستطيعون أن يجبروا أنفسهم على السهر و الصلاة !! هل تذكرون الرب و هو يصلي و يصارع في بستان جثسيماني ؟ لقد تركه التلاميذ وحيدا في جهاده و ناموا !! كم كان هذا قاسيا على نفس الرب حتى قال لهم " أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة ؟! " و نفس هذا العتاب يقوله الرب اليوم لكل المؤمنين  الذين لا يسهرون معه لأنهم يحبون أنفسهم جدا !!
        و نحن نعرف كثيرين لا يصومون أبدا ليس لأنهم ضعفاء بل لأنهم يحبون أنفسهم جدا لدرجة أنهم لا يستطيعون أن يمنعوها من الطعام الذي تشتهيه !! لكننا نقرأ عن دانيال أنه صام ثلاثة أسابيع لم يتناول طعاما شهيا ، و عكف على الصلاة كل الوقت المتاح له لكي يعرف مشيئة الله تجاه شعبه ، و نقرأ عن موسى و إيليا و الرب يسوع أنهم صاموا حتى أربعين يوما من أجل عمل الله العظيم في حياتهم ، إذا كنا نريد أن نكون نافعين للسيد فلا يكفي عندئذ أن نكون شجعان بل ينبغي أن نتعلم كيف ننكر أنفسنا في وقت الجهاد . و أن نقمع الجسد و نستعبده لكي نتمم مشيئة الله على أكمل وجه .

        الصليب القديم و الجديد
        بصورة تدريجية غير معلنة نشأ في الوقت الأخير صليب جديد في أوساط المؤمنين !! إنه يشبه الصليب القديم لكنه مختلف عنه تماما ، الشبه بينهما سطحي أما الاختلاف فجذري .
        من هذا الصليب الجديد انبثقت فلسفة جديدة للحياة المسيحية ، و من هذه الفلسفة الجديدة نشأت نظم جديدة ، نظم في العبادة و الخدمة و الكرازة ، هذه النظم الجديدة قد تستخدم لغة الكنيسة الأولى ن لكن محتواها مختلف تماما !!
        الصليب القديم لم يكن يهادن العالم و الجسد ، كان الصليب هو نهاية المطاف للإنسان العتيق المتكبر ، كان ينفذ حكم الموت في جسد الخطية ، أما الصليب الجديد فهو يسمح للإنسان العتيق بالحياة !! الصليب الجديد ليس مضادا لطبيعة الإنسان ، إنه يحاول أن يسايرها و يتجاوب معها ، إنه يسمح للدوافع القديمة بأن تحيا و لكن بصورة " أرقى " !!  إذا كان الإنسان العتيق يريد أن يعيش لأجل سعادته فالصليب الجديد لا يمانع في هذا لكنه يقدم له وسائل للسعادة أكثر رقيا و سموا !! فبدلا من أن يتجرع كؤوس الخمر و يشاهد الأفلام القبيحة و يغني الأغاني المبتذلة ، يدعوه الصليب الجديد إلى أن يشترك في فريق الترنيم بالكنيســة و مشاهدة الأفلام الدينية و الاشتراك في حملات الكرازة !! مازال الهدف هو المتعة الذاتية و إن كانت الوسائل قد أصبحت أرقى مستوى و أكثر عقلانية !!
        الصليب الجديد شجع على تقديم المسيحية بشكل جديد تماما ، الخدام لم يعودوا يطلبون من الناس رفضهم للحياة القديمة و التوبة عنها ، إنهم لا يقدمون اختلافا بل توافقا مع حياة العالم ، يريدون أن يجتذبوا اهتمام الناس بإظهار أن المسيحية لا تطلب منهم رفض متع العالم ، بل إنها تقدم لهم نفس المتع لكن بصورة أرقى ، نفس " السلعة " التي يقدمها العالم للخاطئ لكي يسعى إليه الناس أصبحنا نظهر أن الإنجيل أيضا يقدمها ، مع الأخذ فـــي الاعتبار أن " المنتج " الديني لا شك أفضل من نظيره الذي يقدمه العالم !!
        الصليب الجديد لا يصلب جسد الخطية بل يحاول إعادة توجيهه ، إنه يقوده على وسائل أنظف و أرقى للحياة مع الحفاظ على محبته لذاته ، إنه يقول لمن يريد\ أن يحافظ على ذاته ، " تعال إلى المسيح لكي يبارك لك في ذاتك " و لمن يريد أن يفتخر بنفسه يقوم " تعـال و افتخر في الرب " و لطالب الإثارة و متعة المغامرة يقول " تعال و اكتشف متعة إتباع المسيح "!! إن المسيحية أصبحت تساير رغبات الإنسان لكي تكون مقبولة منه . قد يكون هناك قدر من الإخلاص وراء هذه الفلسفة ، لكن هذا الإخلاص لا يمنع من كونها فلسفة باطلة عمياء ، لأنها لا ترى المعني الحقيقي للصليب .
                            
                       الصليب القديم يحكم على الإنسان العتيق بالموت
الصليب القديم رمز للموت ، يضع نهاية حازمة للإنسان العتيق ، الإنسان في العصر الروماني عندما كان يحمل صليبه و يذهب لتنفيذ الحكم كان يودع أهله لأنه لن يعود ثانية أبدا ، فالصليب لا يتفاهم مع أحد و لا يعدل من أحد و لا يبقي على أحد ّّ إن حكمه بالموت نهائي ، إنه لا يحاول أن يتلطف مع صاحبه أو يكسب رضاه ، إنه يضرب بشدة و بعنف و عندما ينتهي من عمله يكون الإنسان أيضا قد انتهى .
        الإنسان العتيق تحت حكم الموت ، ليس هناك استئناف للحكم و لا توجد وسيلة للهرب منه ، الله لا يمكن أن يترك الإنسان العتيق يعيش مهما بدت أعماله للعين البشريـــة جميلة و بريئة ، الله يخلص الإنسان بأن يميته ثم يقيمه ثانية في جدة الحياة .
        الكرازة التي تسير بالتوازي بين طرق الله و طرق الإنسان كرازة باطلة في نظر الله و مؤذية لنفوس سامعيها ، الإيمان بالمسيح لا يتوازى مع حياة العالم بل يتقاطع معها !! بقبولنا للمسيح نحن لا نرفع حياتنا القديمة إلى مستوى أرقى ، بل إننا نضعها بالكامل على الصليب و نحكم عليها بالموت ، إن حبة الحنطة ينبغي أن تسقط في الأرض و تموت .   
        الكارزون بالإنجيل ينبغي ألا يعتقدوا أن الكلام المعسول يمكن أن يصنع تآلفا بين المسيح و العالم ، إننا لسنا " دبلوماسيين " بل خداما للإنجيل ، و رسالتنا  هي إعلان الصليب.
        الله يمنح حياة ، و لكنها ليست نفس الحياة القديمة بعد التعديل و التحسين ، بل الحياة التي يمنحها الله هي حياة من موت ، الحياة تقف دائما في الجانب الآخر من الصليب ، من يريد أن يصل غليها ينبغي أن يجتاز الصليب أولا ، ينبغي أن ينكر نفسه و يقبل حكم الله عليه ،  ينبغي أن يتوب و يرفض خطاياه و ذاته الخاطئة ، و يقر باستحقاقها للموت .
الحياة من الموت
        ينبغي أن ننظر بثقة و ببساطة الإيمان للمخلص المقام و منه سننال الحياة و القداسـة و القوة ، الصليب الذي أنهى الحياة الأرضية ليسوع ينبغي أن يضع نهاية لحياة الخطية فينا ، و القوة التي أقامت يسوع من بين الأموات تقيمنا الآن إلى حياة جديدة في المسيح .
        و لمن يعترض على هذا الحق أو يعتبره تزمتا و نظرة ضيقة للصليب دعني أقول : إن الله قد ختم هذا الحق بختم رضاه منذ أيام بولس و حتى الآن ، هذا هو محتوى الكرازة التي منحت الحياة و القوة للعالم عبر القرون ، كل المصلحين و رجال النهضات كرزوا بهذا الحق الخاص الحاضر بالصليب ووضع الروح القدس ختم رضا الله على هذه الكرازة بآياتـه و عجائبه و قواته التي صنعها معهم ، دعونا نكرز بالصليب القديم لكي نعود نختبر تلك البركة القديمة . 

أقسام الأرض السفلى
" و أما أنه صعد فما هو إلا أنه نزل أيضا أولا إلى أقسام الأرض السفلى ، الذي نزل هو الذي صعد أيضا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل "
 ( أف 4 : 9  10 )
          ما ابعد المسافة بين " أقسام الأرض السفلى " و " فوق جميع السموات " !! بين أعماق ما وصل إليه الإنسان من خطية و ظلمة و موت و ما وصل إليه ابن الإنسان من مجد و قوة و سلطان ، هذه المساقة الشاسعة قطعها سيدي عندما نزل إلى أقسام الأرض السفلى بالصليب ثم قام ليصعد فوق جميع السموات ، مكرسا لنا بجسده طريقا حديثا يصل بنا من عمق خطايانا إلى قمة المجد في السموات !!
        كان نزول يسوع إلى أعماق الموت و اللعنة ضرورة حتمية لكي يرتفع إلى مركزه رئيسا  و مخلصا للإنسان في سقوطه نزل إلى أعماق سفلى من الظلمة و الموت ، و على من يريد أن يفدي الإنسان أن ينزل إليه في تلك الأعماق عينها ، و يدفع هناك من حياته ثمن خطية الإنسان و ثمن عودته إلى الله .
        حياة الإنسان على الأرض لها أقسام مختلفة للعمق ، منها الحياة الظاهرة التي تبدو لعيون الآخرين ، و تلك الحياة يحرص الإنسان أن يظهر فيها أفضل ما عنده من سلوكيات ، و هناك تحت هذه الحياة يوجد قسم الحياة الباطنة التي لا يراها إلا صاحبها و يحرص إلا يراها غيره ، و هي منطقة أفكار القلب و تصوراته الخفية و التي تدور كلها حول الذات مملوءة أنانية و شهوة و حسدا ، و تحت هذه الحياة الباطنة توجد أقسام سفلى غارقة في الظلمات لا يراها أحد و لا حتى صاحبها !!  لا يراها إلا الله ، و هي روح الإنسان المائتة بالخطية و المملوءة رفضا لله ، هذه الروح قيدها إبليس بالخطية و أغلق عليها سجنا تحت قصاص من الله ، و من خلال تحكم إبليس في تلك الأعماق السفلى في الإنسان أصبح رئيسا و إلها للعالم كله .
        و هكذا أصبح الإنسان يسلك في الظاهر مسلكا جميلا و تلتمع في ذهنه أفكار تبدو مشرقة بينما روحه ترسف في مرارة المر ، فظل الجميع ت خوفا من الموت ـ تحت العبودية .
        كل الأنبياء و المصلحين و المفكرين تعاملوا مع الأقسام السطحية للإنسان ، و حاولوا أن يعدلوا من مسلكه و يحسنوا من أفكاره ، أما الأقسام السفلى الموغلة في الظلمة و الموت فقد ظلت بعيدة عن متناول أي إنسان ، لأنه لا يوجد من يراها ، و إذا رآها أحد فلا يوجد من يدفع ثمن تحريرها لأن الكل شركاء في المديونية ، إذ الجميع زاغوا و فسدوا معا . 
        حتى جاء يسوع إلى العالم ليخلص ما قد هلك ، أحب الإنسان بكل مناطق حياته و تعامل مع الأرض بكل أقسامها ، تلك التي يراها الإنسان و يفهمها و تلك التي لا يراها و لا يفهمها ، تعامل مع سلوك الإنسان فقدم لنا أعظم تعليم عن السلوك في العظة على الجبل ، و تعامل مع خفايا الذات الباطنة فكان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان ، و لكنه لم يتوقف هنا بل رأيناه ينزل إلى أعماق الإنسان المملوءة عظام أموات و كل نجاسة ، فرأينا الأرواح النجسة تفك قيودها عن الإنسان و تخرج صارخة ، و تنحل ربط المرض و الضعف عن أرواح الناس و أجسادهم ، و عرف الإنسان مدى خطيته و فساده وحاجته للميلاد الجديد .
        و كان دخوله إلى تلك الأعماق دخولا إلى المنطقة المحرمة ، إلى مغاليق الهاوية التي ظلت كل الدهور مغلقة في وجه أي نور ، كان دخولا إلى جحر الأفعى و مركز سيادة إبليس على العالم ، لذلك كان طبيعيا أن يواجه يسوع كل ثورة الجحيم ضده ، و بسلطان إبليس على أرواح الناس حرك أعماقهم لتقاوم الرب و تحاربه بشراسة فتجمعت ثورة هذه الأعماق و تجسدت في الصليب عندما سمروا يديه و رجليه .
        و قد كان الثمن مزدوجا ، كان عليه أن يدفع لله ثمن خطية الإنسان حتى يرضي عدالته ، و كان عليه أن يقبل مقاومة قوات الجحيم لعمله ، و لقد دفع سيدي الثمن المزدوج كاملا ، احتمل الصليب مستهينا بالخزي فجلس في يمين عرش الله ، و احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه ( عب 12 : 2 ، 3 ) حتى تناثرت دماؤه على جدران السجن الداخلي الموجود في قلب كل إنسان و تخضبت روح الإنسان بدماء الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن خرافه.
        و لم تستطع كل قوى إبليس أن تمسك يسوع في القبر ، لأن سلطان إبليس على الإنسان ـ سلطان الموت ـ ليس سلطانا مطلقا بل مرتبطا بوجود الخطية في الإنسان ، و لأن يسوع ليس فيه خطية لذلك لم يكن ممكنا أن يمسك من الموت ( أع 2 : 24 ) لذلك قام ناقضا أوجاع الموت معلنا انتصاره على كل قوات الجحيم التي قيدت أرواح الناس و أذلتهـــم ، و فاتحا أعماق الإنسان لكي تنطلق روحه و تتمتع بالشركة مع الله ، ثم صعد على العلاء ، لكي يعد لنا مكانا أبديا في بيت الآب .
        لقد نزل لأجلنا و صعد لأجلنا ، نزل إلى أقسام الأرض السفلى ليدفع هناك ثمن تحريرنا ثم صعد فوق جميع السموات كسابق لأجلنا ليصنع لنا مكانا في رضا الله و مجده .
        عزيزي القارئ : لا أستطيع أن أهنئك بعيد القيامة إلا  إذا كنت قد قمت مع المسيح فعلا ، و لا يمكن أن تكون " بخير " في كل عام إلا إذا كانت روحك قد تحررت من أسر الخطية و تمتعت بالغفران و أصبح لها مكان في السماويات ، هل نزل يسوع بنوره إلى أقسامك السفلى و فك قيود روحك ؟ هل رش دمه الثمين على روحك المذنبة و أعطاك صك الغفران ؟ هل بنوره رأيت نورا فخرجت إلى حرية أبناء الله و دخلت في شركة حقيقية مع الله ، هل أستطيع أن أقول لك : كل سنة و أنت طيب ؟! 

لئلا نفقد الحق

" لذلك يجب أن ننتبه أكثر إلى ما سمعنا لئلا نفوته ( نفقده ) " 
  ( عب 2 : 1 )
        إن الحق الذي يخلص النفس لا نجمعه كما نجمع الأصداف من على رمال الشاطئ ، لكننا نحصل عليه كما نستخرج الذهب و الفضة من باطن الأرض ، بعد بحث شاق و حفـر و تنقيب ، و في هذا يقول سليمان " إن دعوت المعرفة و رفعت صوتك إلى الفهم ، إن طلبتها كالفضة و بحثت عنها كالكنوز ، فحينئذ تفهم مخافة الرب و تجد معرفــة الله " ( أم 2 : 3 ـ 5 ) .
 الإنسان الذي يريد أن يستخرج الحق يلزمه أن يستخدم كل طاقاته ، يحتاج إلى صلاة كثيرة و امتحان للنفس و إنكار للذات ، ينبغي أن يصغي جيدا في داخل نفسه لصوت الله ، يحتاج إلى اليقظة و الانتباه لئلا يسقط في الخطية أو في النسيان ، ينبغي أن يتأمل ليلا و نهارا في حق الله الذي حصل عليه .
الحصول على الحق الذي يخلص النفس ليس أمرا سهلا ، رجال الله المملوءون بحق الله ، الذين يسيرون كما يحق للحق الإلهي ، لم يصيروا هكذا بدون مجهود ، بل لقد بحثوا و نقبوا عن الحق ، لقد أحبوا الحق و اشتاقوا إليه أكثر من اشتياقهم لخبز أجسادهم ، لقد خسروا الكثير لأجله ، و عندما تعثروا و سقطوا لم ينطرحوا بل قاموا مرة أخرى و استأنفوا بحثهم عن الحق ، و عندما هزموا في جولة لم يستسلموا لليأس لكنهم بأكثر اهتمام و انتباه و تركيز جددوا مجهوداتهم للوصول إلى الحق .
لم يحسبوا حياتهم ثمينة عندهم حتى يعرفوا الحق ، إن حقوقهم و راحتهم و صيتهـم و كل ما يقدمه العالم حسبوه نفاية في سعيهم إلى الحق ، و عندما وصلوا إلى المرحلة التي أصبح فيها الحق هو أهم شئ في حياتهم عندئذ فقط وجدوا الحق !! الحق الذي يخلص النفس و يريح القلب و يجيب عن أسئلة الذهن ، الحق الذي يمنح شركة مع الله و فرحا لا ينطق به و سلاما لا ينزع .
                              الحق يمكن أن يفقد
لكن كما أننا نتكلف مجهودا لكي نجد الحق كذلك نحتاج على الانتباه لكي نحتفظ به ، إذا لم نحافظ على الحق فإنه يتسرب من بين أيدينا ، يقول الكتاب " اقتن الحق و لاتبعه " ( أم 23 : 22 ) و الحق عادة يفقد قليلا قليلا ، كما يتسرب الماء المرتشح نقطة نقطة ، إننا لا نفقد الحق كله مرة واحدة بل تدريجيا .
        هوذا أخ كان مرة مملوء بالحق القائل " أحبوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم " فأحب أعداءه و صلى لأجلهم ، و لكن قليلا قليلا أهمل هذا الحق فتسرب الحق من بين يديه ، و بدل المحبة و الصلاة لأجل أعدائه أصبح حادا و فظا .
        و أخ آخر كان كثيرا ما يعطي من أمواله للفقراء و لانتشار الإنجيل ، كانت له الثقة في الله لأجل تسديد احتياجاته ، و كان ممتلئا بالحق حتى إن كل خوف زايله ، كان مؤمنا بأنه إذا طلب أولا ملكوت الله و بره فكل الأشياء الأخرى ستزاد له ( مت 6 : 33 ) ، فخدم الله بسرور و بكل قلبه ، كان مرحا و غير مهتم كالعصفور الذي يدفن رأسه الدقيق تحت جناحه الصغير و ينام ، رغم أنه لا يعلم من أين سيأتيه طعام الإفطار إلا أنه يثق في الإله العظيم الذي يفتح يديه فيشبع كل حي و يعطيه طعامه في حينه ( مز 145 : 15 , 16 ) .
        لكن قليلا قليلا ترك حق الاعتماد على رعاية الله و أبوته يتسرب من بين يديه ، و فقد حكمة العطاء ، و هو الآن بخيل و طماع و قلق بشأن الغد .
        و هناك أيضا إنسان آخر كان ذات مرة دائم الصلاة ، أحب الصلاة بكل قلبه ، كانت الصلاة هي عملية التنفس ذاتها لحياته ، لكن قليلا قليلا نسي الحق الذي يقول : " ينبغي أن يصلى كل حين و لا يمل " ( لو 18 : 1 ) و الصلاة الآن عمل بارد و ميت بالنسبة له .
        و آخر كان يذهب إلى كل اجتماع يمكن أن يجده ، و لكنه بدأ يهمل الحق الذي يقول " غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة بل واعظين بعضنا بعضا " ( عب 10 : 25 ) و هو الآن يفضل الذهاب إلى الحديقة أو ناد عن الذهاب إلى اجتماع روحي .
        و شخص آخر كان حاذيا رجليه باستعداد إنجيل السلام ، وحيثما كان يقابل أي شخص كان يتكلم معه عن أخبار الله السارة ، لكن شيئا فشيئا بدا يعطي مجالا لكلام السفاهة و الهزل الذي لا يليق ( اف 5 : 4 ) و في النهاية نسي تماما كلمات ربنا المبارك " أقول لكم إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابا يوم الدين " ( مت 12 : 36 ) و لم يعد يتذكر قول الكتاب : " ليكن كلامكم كل حين بنعمة مصلحا بملح " ( كو 4 : 6 ) و هكذا صار الآن قادرا على الكلام بحماس في كل موضوع ماعدا الموضوعات الروحية ، و شهادته القديمة العميقة الملتهبة التي طالما قرعت قلوب الناس و أيقظت غير المكترثين و شجعت القلوب الخائرة و قدمت المعونة للقديسين المجاهدين ، لم يعد متبقيا منها الآن إلا بعض الجمل القليلة التي فقدت معناها بالنسبة له هو شخصيا ، و بالتالي فقدت تأثيرها على الآخرين . 

ماذا يفعل هؤلاء
        ينبغي أن يتذكروا من أين سقطوا و يتوبوا و يعملوا الأعمال الأولى من جديد ، ينبغي أن يبحثوا عن الحق مرة أخرى كما يبحث الناس عن الذهب و ينقبون عن الكنوز المخفية , و سوف يجدون الحق مرة أخرى لأن الله يجازي الذين يطلبونه ( عب 11 : 6 ) .
        قد يكون عملا شاقا ، و لكن هكذا البحث عن الذهب عمل شاق ، و قد يكون عملا بطيئا و لكن هكذا يكون البحث عن الجواهر المخفية ، لكنه على كل حال عمل مضمون النتائج لأن الرب يقول : " كل من يسال يأخذ ، و من يطلب يجد ، و من يقرع يفتح له " ( لو 11 : 10 ) كما أنه عمل ضروري لأن مصير نفسك الأبدي يتوقف عليه .