السبت، 29 أبريل 2023

أحاديث من القلب

 سبعة أرواح الله (35)

بقلم : فخرى كرم

روح الله يعطي الحياة للإنسان كما يعطي الماء الحياة لكل كائن حي، ولقد استخدمت الصورة الرمزية للمياه عدة مرات في الكتاب المقدس، وفي إحدى هذه المرات قارن الرب مقارنة بليغة بين استقاء المياه من الينبوع والبئر

          «شعبي عمل شرين : تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم أباراً أباراً مشققة لا تضبط ماء » ( أر ۲ : ۱۳ )

الينبوع والبئر كانا من وسائل استقاء الماء في أرض إسرائيل القديمة، وكان الفرق بينهما كبيراً ، فالينبوع هو مياه جارية (حية) تنفجر من عمق الأرض بشكل تلقائي وبدون مجهود من الإنسان . وعادة تكون مياه الينبوع نقية لأنها تنبع من أعماق سحيقة في باطن الأرض، أما البئر فهي حفرة عميقة يصنعها الإنسان في الأرض لكي تتخزن فيها مياه الأمطار في موسم الأمطار، أى أن مياه البئر كانت مياه راكدة وليست جارية، مما يجعلها معرضة للتلوث بكافة أنواعه، كما أنها كانت مياه موسمية وليست دائمة، فكانت البئر تمتلىء في موسم الأمطار ثم تجف مع بداية الصيف وحتى موسم الأمطار التالي، وأردأ أنواع الآبار هو الآبار ذات الجدران المشققة لأنها لا تستطيع الاحتفاظ بالمياه لفترات طويلة بل سرعان ما تتسرب منها وتضيع.

أنا ... ينبوع المياه الحية !!

وفي هذا الجزء من سفر أرميا يشير الرب إلى نفسه باعتباره مصدر المياه المتدفقة باستمرار الشبع وارتواء شعبه، لكن لدهشتنا الشديدة نجد الشعب يتحول عن الرب ويبحث لنفسه عن مصادر أخرى للارتواء، يشير إليها الرب هنا باعتبارها آباراً مشققة لا تحتفظ بالمياه، فالإنسان منذ القديم يسعى وراء شهوات الجسد ظنا منه أنها تعطيه ارتواء وسعادة ، فالمال والجنس والسلطة كانوا ومازالوا آلهة أخرى يسجد لها الإنسان ويخدمها لعلها تعطيه لحظات من المتعة والراحة، وفي سبيله لهذا يترك الإله الحقيقي وحده الذي يملك فعلا الارتواء الحقيقي والمياه الحية، ودائما يكتشف الإنسان - عادة بعد فوات الأوان - أن هذه الآلهة الغريبة ليست سوى آباراً مشققة لا تضبط ماء ، ولنا في هذه التشبيهات تعاليم مفيدة:

أوجه المقارنة

= بين الداخلي والخارجي : روح الرب يسكن في أعماق المؤمن، وبالتالي يكون ارتواء المؤمن داخلي عميق غير خاضع لأية ظروف خارجية ولا تؤثر فيه العوامل المضادة، مما يجعل المؤمن سيداً للظروف وليس عبدا لها، لأنه حتى عندما تتكالب عليه الضيقات وتكثر همومه يجد «في داخله » تعزيات الرب تلذذ نفسه (مز 94 : 19 ) .

    أما الارتواء الذي يلوح به العالم للإنسان فهو من مصادر خارجية، يظن الإنسان أنه إذا حصل على هذا أو ذاك فسيصبح سعيداً. لذلك تجده يضع حياته كلها في سعي متواصل للحصول علي مصادر السعادة هذه، وسرعان ما يجد نفسه عبدا ممتلك لا يملك من أمر نفسه شيئا بعدما قيدته شهوات العالم بقيودها التي لا ترحم، والإنسان دائما عبد لمن يعطيه السعادة، وهكذا يصير الإنسان عبدا للظروف الخارجية.

= بين الدائم والمؤقت : روح الرب دائم الوجود في قلب المؤمن وتعاملاته تستمر في الليل والنهار، في الصحة والمرض، في القوة والضعف، بل حتى في أوقات السقوط لا يتخلى عنه بل يبكته حتى يعيده إلى صوابه، إن مياهه دائمة الجريان أو بحسب تعبير الكتاب « مياه حية» تنبع إلى حياة أبدية (يو 4: 14). 

أما أفراح العالم فإلى لحظة (أي 20 : 5 ) عندما يحصل عليها الإنسان يحاول أن يحتفظ بها لأطول وقت ممكن لكنه يكتشف أنها تتسرب من بين أصابعه ولا تترك في يده إلا الريح، قلب الإنسان المشقق لا يستطيع أن يحتفظ بفرح العالم إلا للحظات يعقبها الفراغ والجفاف مرة أخرى.

= بين السهل والصعب : فيض الروح ينبع في قلب المؤمن بدون تدخل من الذات الإنسانية، لأنه مؤسس على محبة الله ونعمته المجانية، أما أفراح العالم فهي تستهلك طاقة الإنسان كلها للحصول عليها ومحاولة الاحتفاظ بها.

= بين النقي والملوث : تعزيات الروح دائما نقية وطاهرة ومملوءة أثماراً صالحة، أما أفراح العالم فدائماً معرضة للتلويث والتعكير، مملوءة أنانية وطمع ونجاسة.

لقد كان الرب محق إذا عندما طلب من السموات أن تبهت وتقشعر وتتحير جداً لأن شعب الرب ترك الداخلي إلى الخارجي وترك الدائم إلى المؤقت وترك السهل إلي الصعب وترك النقى إلى الملوث !! ما أردأ قلب الإنسان وما أغباه!! أخي، ما هو مصدر ارتوائك؟ الرب أم العالم!!! (يتبع).

أحاديث من القلب

 سبعة أرواح الله (34)

بقلم : فخرى كرم
روح الله هو معطى الحياة الذي به نحيا ونتحرك ونوجد، والكتاب يستخدم صورة «المياه» لكي ينقل لنا أن الروح هو مصدر الحياة ليس للإنسان فقط بل لكل الخليقة أيضا.
في البدء
عندما كانت الأرض خربة وخالية يغطيها الغمر وتغطى الغمر ظلمة، رأينا روح الحياة يرف على هذا الخراب ويبعث فيه الحياة، إنه الروح الذي يحمل مشيئة الله بالحياة إلى هذه الأرض الحرية، ومع رفرفة الروح توالت أوامر الإقامة والإحياء تصل إلى كل ركن من أركان الخليقة، انقشعت الظلمة وبدأ النور يشرق، انحسر الغمر وبدأت الأرض تثمر، وامتلأت الأرض الخربة بكائنات جميلة من كل نوع، وتزينت السماء المظلمة بأنوار من كل صنف، أنوار لليل وأنوار للنهار، ولا غرابة فحيثما يحل روح الحياة يتحول القفر إلى جنة والظلام إلى نور والخراب إلى عمار والموت إلى حياة.
.. وبالخطية الموت !!
لكن هذه الصورة الجميلة لم تستمر طويلا، فعندما دخلت الخطية إلى العالم فصلت الإنسان عن الله مصدر الحياة، وفتحت الباب لدخول أرواح الخراب والموت إلى العالم، أرواح مضادة في عملها لروح الله معطي الحياة، أرواح تنزع الحياة من روح الإنسان وتسبب موتها ، أرواح تنزع الرطوبة من نفس الإنسان وتنشر الجفاف في أوصاله، تستهلك طاقته وتكدر صفوه، تظلم سماءه وتيبس أرضه، تجعله يعيش في قلق وانزعاج كل يوم حتى تنزل به إلى هاوية الموت الأبدي، أرواح كل مهمتها أن تسرق وتذبح وتهلك، أرواح تعمل تحت رئاسة من هو قتال للناس من البدء.
هذه الأرواح تتعدد أسماؤها لكن عملها واحد وهو سلب الحياة من كيان الإنسان، مثل روح الخوف الذي يكتنف الإنسان فيسلبه أمانه ويقيد خطوته، وروح الحزن الذي يدمر المشاعر ويحطم القلب، وأرواح الغضب والغيرة والحسد والطمع التي تخرب علاقة الإنسان مع الآخرين وتزرع بينهم الصراعات والحروب والخصومات، وأرواح الهوى والشهوة والنجاسة التي تفسد كرامة الإنسان وتحط به إلى مستوى الحيوانات غير العاقلة، وغيرها كثير من الأرواح التي لا نستطيع حصرها وكلها تقاوم عمل روح الحياة وتحاول الرجوع بالخليقة إلى وضع الخراب الأول.
محاولات فردية
في كل العصور القديمة كان هناك أفراد يستشعرون هذا الموت المحيط بهم من كل جانب ويشعرون بالعطش الشديد إلى روح المياه معطي الحياة، وكان لهم الإدراك الروحي الكافي والقدرة على السعي لشق هذه الظلمة المحيطة رجوعاً إلى الله، وكان الروح المبارك يتجاوب مع هذه المحاولات بلمسات وإعلانات متفرقة على مدار التاريخ البشري، وكانت هذه الإعلانات بمثابة قطرات ماء منعشة في وسط صحراء قاحلة، عاشت على هذه القطرات أجيال كثيرة واستعانت بها على مقاومة أرواح الموت المحيطة بها في كل مكان، لكن هذه المحاولات ظلت محاولات فردية ونادرة على مدار التاريخ الإنساني الغارق في ظلمته الروحية، وظلت هذه الإعلانات مرتبطة بوجود أفراد أمناء يطلبون الله لأنفسهم ولشعوبهم، وبموت هؤلاء الأمناء كان الإعلان ينطفىء وتعود الظلمة تكتنف كل شيء، لأن طريق الأقداس لم يكن قد فتح بعد، وروح المياه لا يمكن أن ينسكب بشكل عام ومعلن على هذه الأرض العاصية إلا بعد إتمام الفداء.
أنا عطشان !!
وفي ملء الزمان أتى الفادى المبارك الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة، وعندئذ أحاطته جحافل الجحيم، وبدأت الرطوبة تتسرب من كيانه الروحي ويزحف الجفاف إلى قلبه الجريح، حتى إنه قال بروح النبوة «يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي» وأيضأ «يبس حلقي، كلت عيناي من انتظار إلهي» (مز 22 : 15 ، 69 : 3 ). هذه اليبوسة هي التعبير المجازي المعبر عن آلام المسيح الشديدة في لحظات الصليب، كان ينبغي أن يعبر نفس أرضنا ويحمل نفس ذنبنا ويلقي نفس قصاصنا ، حتى إن الإحساس الوحيد الذي جاهر به الرب على الصليب لم يكن إحساسه بالألم أو الحزن أو الظلم بل العطش!! لقد عطش لكي نرتوي نحن، يبست قوته لكي تتفجر ينابيع القوة في كياننا نحن، لقد اجتاز مواضع جفافنا وموتنا لكي يرفعنا إلى موضع حياته ومجده ، له كل المجد والسجود إلى الأبد.
أخي، هل لك نصيب في هذا الارتواء الإلهي ؟ يتبع .

H