سبعة أرواح الله (35)
بقلم : فخرى كرم
روح الله يعطي الحياة للإنسان كما يعطي الماء الحياة لكل كائن حي، ولقد استخدمت الصورة الرمزية للمياه عدة مرات في الكتاب المقدس، وفي إحدى هذه المرات قارن الرب مقارنة بليغة بين استقاء المياه من الينبوع والبئر
«شعبي عمل شرين : تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم أباراً أباراً مشققة لا تضبط ماء » ( أر ۲ : ۱۳ )
الينبوع والبئر كانا من وسائل استقاء الماء في أرض إسرائيل القديمة، وكان الفرق بينهما كبيراً ، فالينبوع هو مياه جارية (حية) تنفجر من عمق الأرض بشكل تلقائي وبدون مجهود من الإنسان . وعادة تكون مياه الينبوع نقية لأنها تنبع من أعماق سحيقة في باطن الأرض، أما البئر فهي حفرة عميقة يصنعها الإنسان في الأرض لكي تتخزن فيها مياه الأمطار في موسم الأمطار، أى أن مياه البئر كانت مياه راكدة وليست جارية، مما يجعلها معرضة للتلوث بكافة أنواعه، كما أنها كانت مياه موسمية وليست دائمة، فكانت البئر تمتلىء في موسم الأمطار ثم تجف مع بداية الصيف وحتى موسم الأمطار التالي، وأردأ أنواع الآبار هو الآبار ذات الجدران المشققة لأنها لا تستطيع الاحتفاظ بالمياه لفترات طويلة بل سرعان ما تتسرب منها وتضيع.
أنا ... ينبوع المياه الحية !!
وفي هذا الجزء من سفر أرميا يشير الرب إلى نفسه باعتباره مصدر المياه المتدفقة باستمرار الشبع وارتواء شعبه، لكن لدهشتنا الشديدة نجد الشعب يتحول عن الرب ويبحث لنفسه عن مصادر أخرى للارتواء، يشير إليها الرب هنا باعتبارها آباراً مشققة لا تحتفظ بالمياه، فالإنسان منذ القديم يسعى وراء شهوات الجسد ظنا منه أنها تعطيه ارتواء وسعادة ، فالمال والجنس والسلطة كانوا ومازالوا آلهة أخرى يسجد لها الإنسان ويخدمها لعلها تعطيه لحظات من المتعة والراحة، وفي سبيله لهذا يترك الإله الحقيقي وحده الذي يملك فعلا الارتواء الحقيقي والمياه الحية، ودائما يكتشف الإنسان - عادة بعد فوات الأوان - أن هذه الآلهة الغريبة ليست سوى آباراً مشققة لا تضبط ماء ، ولنا في هذه التشبيهات تعاليم مفيدة:
أوجه المقارنة
= بين الداخلي والخارجي : روح الرب يسكن في أعماق المؤمن، وبالتالي يكون ارتواء المؤمن داخلي عميق غير خاضع لأية ظروف خارجية ولا تؤثر فيه العوامل المضادة، مما يجعل المؤمن سيداً للظروف وليس عبدا لها، لأنه حتى عندما تتكالب عليه الضيقات وتكثر همومه يجد «في داخله » تعزيات الرب تلذذ نفسه (مز 94 : 19 ) .
أما الارتواء الذي يلوح به العالم للإنسان فهو من مصادر خارجية، يظن الإنسان أنه إذا حصل على هذا أو ذاك فسيصبح سعيداً. لذلك تجده يضع حياته كلها في سعي متواصل للحصول علي مصادر السعادة هذه، وسرعان ما يجد نفسه عبدا ممتلك لا يملك من أمر نفسه شيئا بعدما قيدته شهوات العالم بقيودها التي لا ترحم، والإنسان دائما عبد لمن يعطيه السعادة، وهكذا يصير الإنسان عبدا للظروف الخارجية.
= بين الدائم والمؤقت : روح الرب دائم الوجود في قلب المؤمن وتعاملاته تستمر في الليل والنهار، في الصحة والمرض، في القوة والضعف، بل حتى في أوقات السقوط لا يتخلى عنه بل يبكته حتى يعيده إلى صوابه، إن مياهه دائمة الجريان أو بحسب تعبير الكتاب « مياه حية» تنبع إلى حياة أبدية (يو 4: 14).
أما أفراح العالم فإلى لحظة (أي 20 : 5 ) عندما يحصل عليها الإنسان يحاول أن يحتفظ بها لأطول وقت ممكن لكنه يكتشف أنها تتسرب من بين أصابعه ولا تترك في يده إلا الريح، قلب الإنسان المشقق لا يستطيع أن يحتفظ بفرح العالم إلا للحظات يعقبها الفراغ والجفاف مرة أخرى.
= بين السهل والصعب : فيض الروح ينبع في قلب المؤمن بدون تدخل من الذات الإنسانية، لأنه مؤسس على محبة الله ونعمته المجانية، أما أفراح العالم فهي تستهلك طاقة الإنسان كلها للحصول عليها ومحاولة الاحتفاظ بها.
= بين النقي والملوث : تعزيات الروح دائما نقية وطاهرة ومملوءة أثماراً صالحة، أما أفراح العالم فدائماً معرضة للتلويث والتعكير، مملوءة أنانية وطمع ونجاسة.
لقد كان الرب محق إذا عندما طلب من السموات أن تبهت وتقشعر وتتحير جداً لأن شعب الرب ترك الداخلي إلى الخارجي وترك الدائم إلى المؤقت وترك السهل إلي الصعب وترك النقى إلى الملوث !! ما أردأ قلب الإنسان وما أغباه!! أخي، ما هو مصدر ارتوائك؟ الرب أم العالم!!! (يتبع).