الأربعاء، 1 مارس 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (2)
بقلم : فخرى كرم
قبل أن نخوض في مواد الموعظة على الجبل لابد أن نتوقف قليلاً لنعقد مقارنة سريعة بينها وبين الناموس القديم، فهناك أوجه للشبه وهناك أوجه أخرى للاختلاف، من جهة التشابه نجد أن كلاهما قُدم في بداية عهد جديد لشعب الله، الناموس أعطاه الله لموسى على الجبل بعد الخروج من مصر وفي بداية مسيرة الشعب للدخول إلى أرض الموعد، وموعظة الجبل أعطاها يسوع على الجبل لتلاميذه في بداية خدمته ودعوته الشعب للدخول إلى ملكوت الله، كلٌ منهما كان يرسم منهجاً لمرحلة جديدة قادمة في حياة شعب الله، وكلٌ منهم كان يشرح ارادة الله التي يريد تحقيقها في شعبه.
  لكن من جهة المضمون هناك اختلاف كبير بين ناموس جبل سيناء وموعظة جبل الجليل، كان الناموس يوصي الشعب كيف يسلكون كشعب الله بين الشعوب الأخرى، كيف يكونون شعباً مقدساً يحبون الرب إلههم ويلتصقون به فلا يرتكبون الخطايا الشائعة في الشعوب المحيطة بهم، لا يقتلون ولا يسرقون ولا يزنون ولا يشهدون بالزور ولا يشتهون ما للآخرين، كان الهدف هو صناعة شعب أرضي أرقى أخلاقياً من الأمم الأخرى يكونون إعلاناً لسائر الشعوب وبرهاناً أن يهوه هو الإله الحقيقي وأن الصلاح والبر والاستقامة هم طريق الحياة المثمرة وليس الشر والعنف والنجاسة، ولو عاش الشعب بحسب الناموس لكان نوراً لسائر الشعوب وقدوة صالحة تقود كل الأرض لمعرفة الإله الحقيقي وحده، وكان وعد الرب للشعب إن حافظ على وصايا الناموس أن يباركهم بكل البركات الأرضية من زيادة وإثمار في النسل والصحة وخيرات الأرض.
لكن تاريخ الشعب القديم يؤكد فشل الشعب في معظم الفترات في حفظ الوصايا أو تتميم مشيئة الله التي قصدها من إعطاء الناموس، لم يستطع الشعب أن يعلن عن الرب إلهه اعلاناً صحيحاً، لم يحبوا الرب إلههم ولم يلتصقوا به فتسربت إليهم نفس خطايا الشعوب الوثنية المحيطة بهم، أفرغوا وصايا الناموس من مضمونها الطاهر واحتفظوا بالقشور الخارجية فقط، استخدموا قشور الوصايا في ادعاء القداسة الوهمية والاستعلاء على الشعوب الأخرى ووصفهم بالكلاب بينما هم يسلكون في الخفاء نفس مسلكهم الخاطئ، وكانت النتيجة أن الرب سحب حضوره من وسطهم وسمح بتشتيتهم بين الشعوب الوثنية معلناً غضبه من فشلهم في تحقيق مشيئته الصالحة لهم.
في المقابل عندما نستمع لوصايا الرب في موعظة الجبل نجد اختلافاً جوهرياً في المضمون والهدف، فالمستوى الأخلاقي الذي يطالب به الرب في موعظته يفوق بكثير المستوى الموجود في الناموس، الرب لا يطالب بمجرد أخلاقيات متميزة لكنه يطالب تابعيه بأن يكونوا متمثلين بالآب السماوي!! المقياس الأخلاقي في موعظة الجبل لم يعد يتوقف عند عدم ارتكاب الشرور لكنه يسمو إلى فعل الصلاح المشابه للصلاح الإلهي ذاته، لم تعد المقارنة معقودة مع أخلاقيات الشعوب المحيطة بل مع صفات الآب السماوي نفسه!!

ولا شك أن هذا المستوى الأرفع للسلوك لا يمكننا الوصول إليه إلا بسكنى الروح القدس الذي كان يسوع مزمعاً أن يسكبه على تابعيه، وبالتالي لم يكن هدف الموعظة على الجبل هو صناعة شعب أرضي متميز ببركات أرضية بل خلق شعب سماوي له اتصال وارتباط روحي حقيقي بالآب السماوي، شعب يستطيع أن يقدِّس اسم الله ويُقيم ملكوته ويصنع مشيئته كما في السماء كذلك على الأرض!! وللحديث بقية (يتبع)