الخميس، 29 يونيو 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله ( 42 )

بقلم : فخرى كرم

 

قبل أن نختتم اليوم حديثنا عن روح الريح المبارك لابد أن نتكلم عن بعض الملاحظات والفروق العملية:

دعوة للتسليم ..

عندما يقودك الرب إلى طريق غامض الملامح وتضطر أن تخطو خطوات في الظلام فاعلم أن الرب يدعوك إلى اختبار الإيمان والتسليم، إنه اختبار رائع وعجيب ، عجيب لأنه مضاد لطبيعتنا البشرية، فنحن بحسب الطبيعة نحب أن نسير في الأمان ونمتلك زمام الأمور في أيدينا ونحدد بأنفسنا مستقبلنا ونختار مواضع أقدامنا، بالطبيعة نحب أن نتجنب المخاطر وأن يكون النور مسلطاً على كل جوانب الطريق لأننا نخشى المجهول، لو تُركنا لأنفسنا ما اخترنا أبداً الإيمان طريقاً!!

لذلك يلجأ الرب أحيانا لقيادتنا رغما عنا في طريق غامضة محفوفة بالمخاطر ويكتنفها الظلام والمجهول لكي نضطر إلى تعلم الإيمان والاتكال على شخصه والتسليم لقيادته، ورغم أن هذا الاختبار يكون عادة مؤلماً ومصحوباً بالحيرة والخوف إلا أنه السبيل الوحيد للتلامس مع الله والتيقن من وجوده الفعلي في حياتنا، وبدون هذا الاختبار يظل الله فكراًجميلاً يراود أذهاننا من حين لآخر لكنه بلا وجود فعلي مصيري في حياتنا، لكن عندما تضطرنا الريح أن نلقي بأنفسنا في الظلام حينئذ سنكتشف أن الأذرع الأبدية التي طالما سمعنا عنها إنما هي حقيقة مؤكدة!!

.. وليس للاستسلام !!

هناك فرق شاسع بين التسليم والاستسلام، فهناك أفراد سلبيون لا يحبون حمل مسئولية الاختيار ويلقون بالمسئولية على الأقدار التي تتحكم في مصائر البشر، يتركون أنفسهم لكل ريح تحملهم ويريحون أنفسهم من عناء السعي والاجتهاد ، يظنون أن الحياة الروحية هي مرادف لتغييب الذهن والتواكل، هذا استسلام وليس تسليما !!

المؤمن لا يستسلم للظروف بل هو يسعى بكل جد واجتهاد في الطريق الذي يراه صوابا، ويبذل كل جهده في التفكير وفهم الحقائق ويحمل مسئولية الاختيار، ولكن عندما - ورغم كل اجتهاده - يجد نفسه يواجه ريحاً أقوى منه تقوده لطريق لم يختره وبحسب مقاييس فهمه لا يقبله، ورغم كل محاولاته يجد نفسه مضطراً للسلوك في هذا الطريق ويكتشف أنه أصبح يواجه ظروف تعجز أمامها كل حكمته وتقصر دونها كل قوته، عندئذ فقط يبدأ التسليم بكامل وعيه وإدراكه للقوة الأعلى التي قادته لهذا الطريق ويتكل على الحكمة الأعظم من حكمته والذراع الأقوى من ذراعه لكي تقوده في هذا الطريق المجهول وتصل به إلى الخير الذي لا يراه بعينيه ولا يفهمه بذهنه لكنه يثق في وجوده لأنه يثق أن الرب صالح ومشيئته دائما هي الخير.

هذا هو التسليم، هو وصول الحكمة الإنسانية إلى مداها ثم التسليم للحكمة الإلهية في مواجهة ظروف أكبر من الحكمة الإنسانية، أما الاستسلام فهو عدم استخدام الحكمة الإنسانية إطلاقا وتفضيل الجهل والتواكل والسلبية وتغييب الذهن، التسليم يصنع قديسين وصلوا في حكمتهم الإنسانية إلى مداها ثم قادهم الرب إلى الحكمة الإلهية أيضا، أما الاستسلام فيصنع كيانات نكرة لا قيمة لها سواء في مجال الحكمة الإنسانية أو الإلهية!!

فرصة للارتقاء فوق الطبيعة

كثيرا ما يكون هدف روح الريح هو أن يحمل المؤمن لآفاق أرحب من حدود القوانين الطبيعية التي تسجن الإنسان بداخلها ، فعندما يتأخر حتى يموت لعازر فهو في الحقيقة يرفع إيماننا لمستوى الإقامة من الأموات، وعندما يدفعنا إلى الأتون المحمي سبعة أضعاف فلأنه يرتقي بنا للتعامل مع الإله القادر أن يبطل قوة النيران، وعندما يتركنا في وسط البحر الهائج يقدم لنا فرصة للسير فوق المياه !! في كل مرة يغلق الرب علينا تحت ظروف يبدو أنه لا رجاء فيها تكون الفرصة مواتية للارتقاء بإيماننا لآفاق أرحب وللسير فوق الظروف!!

.. وليس لكسر قوانين الطبيعة !!

لكن ينبغي ألا نظن أن المؤمن هو إنسان يسير دائماً ضد قوانين الطبيعة، كلا، المؤمن إنسان ملتزم يعرف جيدا القوانين التي وضعها الله لتحكم حياة البشر وهو أول من يحفظ هذه القوانين ويسير بحسبها، وهو يعلم جيدا أن كسر هذه القوانين يعرض الإنسان للعقاب الفوري،

لكن ما نقوله هو أنه أحيانا وفي حالات خاصة قد يقود الروح المؤمن للسير فوق ما هو طبيعي لا لكي يكون هذا قانونا فيما بعد بل لكي يعلن أنه إله الطبيعة الذي خلقها ووضع قوانينها وسيظل دائما فوقها، في هذا الوقت يختبر المؤمن السير فوق الطبيعة وبمجرد انتهاء هذا الوقت يعود المؤمن لحفظ قوانين الطبيعة والسلوك بموجبها، نقول هذا لئلا يظن أحد أن الحياة الروحية هي مرادف للفوضى أو مبرر للسلوك بلا قانون أو ضابط (يتبع).

السبت، 17 يونيو 2023

أحاديث من القلب

   

سبعة أرواح الله (41)

بقلم : فخرى كرم

رأينا عمل روح الريح في حياة بعض رجال الله في العهد القديم مثل إبراهيم ويوسف وإيليا وأيوب، واليوم نتتبع هذا العمل على صفحات العهد الجديد .

يوحنا المعمدان .. رجل لا تحركه الريح !!

قال رب المجد عن المعمدان إنه رجل ليس قصبة تحركها الريح، أي أنه لم يكن رجلا هشاً يسمح للظروف أن تقوده أو ينحني أمام التيار مهما كان عنيفاً، كان رجلا صلباً، نبياً بل وأعظم من نبي، لم يهتز  أمام شرور شعبه ولم ينحنى أمام جبروت هيرودس الماجن، كان يعلم أنه مرسل من الله ليعد الطريق أمام الرب ويعلن حمل الله للشعب اليهودي، كان يستشعر عظمة المسيح حتى حسب نفسه غير مستأهل لحمل حذائه، ولا شك أنه امتلأ بالثقة في أن عظمة المسيح لابد أن تستعلن بانتصار واضح على شرور الشعب وفجور الحاكم.

لم يتوقع يوحنا أن عظمة ابن الله ستستتر خلف وداعة ابن الإنسان، ابن الإنسان الذي لم يأت ليدين العالم بل ليخلص به العالم، لم يكن هذا الزمان زمان دينونة بل زمان نعمة، زمانا لكي يبصر العمى ويمشى العرج ويطهر البرص ويسمع الصم ويقوم الموتى ويبشر المساكين ، وهذا لا يعني أن الشرور ستمر بدون عقاب بل هناك يوم للدينونة عندما يقف الجميع صغارا وكباراً أمام العرش الأبيض العظيم لكي يدانوا بحسب ما هو مكتوب في الأسفار.

لذلك عندما سارت الأمور على نحو غير متوقع وألقي يوحنا في السجن بأمر من هيروديا الفاجرة، وبدا أن يسوع لا يفعل شيئا لتصحيح هذا الظلم، اهتزت نفس يوحنا واضطرب تفكيره وأرسل يسأل ما إذا كان يسوع هو الآتي أم ينتظروا آخر!!

لكن لابد أن نلاحظ هنا أن الرب لم يستاء من سؤال يوحنا بل أجاب عليه بكل رقة واحترام ثم التفت للجموع ومدح يوحنا بأعظم مديح، لماذا ؟ لأن الرب يعلم قسوة الريح المضادة على رجل لا تحركه الريح!! كلما كان المؤمن أمينا للرب ومحباً له كلما عانى أكثر إذا اضطر للخضوع لأحداث لا يعتقد أن فيها مجداً للرب أو تتميماً لمشيئته !! المؤمن الهش الذي اعتاد أن ينحني أمام أي ريح غريبة قد يجد من السهل أن يميل مع روح الرب عندما يقوده في طريق غامض ليس لأنه خاضع للرب بل لأنه سلبي اعتاد الانقياد لكل ريح، أما المؤمن الصلب الذي لم يعتاد الانحناء أمام الريح الغريبة فقد يجد معاناة في خضوعه لروح الريح عندما يقوده في اتجاه لا يفهمه ليس لأنه غير مؤمن بل لأنه لم يعتد الانحناء لما لا يفهم، ولا شك أنه سيخضع في النهاية عندما يتيقن من قيادة الرب له لكن بعد معاناة وحيرة، والرب يحترم هذه المعاناة لأنها دليل صلابة وأمانة ومحبة للرب، لهذا السبب لم يستاء الرب من حيرة المعمدان وسؤاله لأنه كان رجلا لا تحركه الريح... بسهولة!!

 

التلاميذ ... وعدم الفهم الاختيارى !!

في وقت الصليب وجدنا التلاميذ ينزعجون من الأحداث ويهربون كل في طريق، لم يفهموا ما حدث ولم يتوقعوه فلم يستطيعوا التعامل معه بشكل صحيح، لكن هل نستطيع أن نقول أن عدم فهمهم كان نتيجة لغموض إرادة الله؟ كلا، لأن الرب أعلن لهم كثيرا عن ضرورة تسليمه ليد الخطاة ليقتل وفي اليوم الثالث يقوم، أي أن إرادة الله كانت معلنة لهم من قبل، الحقيقة أن عدم الفهم كان نتيجة لعدم قبولهم لأقوال الرب، لم يريدوا أن يقبلوا فكرة الألم فلم يفهموا الكلام. إنه عدم فهم اختياري ناتج عن إرادة غير خاضعة!! إن الإنسان يفهم ما يريد أن يقبله ولا يفهم ما لا يريد أن يقبله!! وعدم فهمنا لمعاملات الله لا يرجع في أحيان كثيرة لغموض هذه المعاملات بل لعدم قبولنا لها !! لكن شكرا لله لأن وضع التلاميذ هذا لم يستمر طويلا.

التلاميذ .. والأمانة حتى الموت !!

لا شك أن حلول الروح القدس في يوم الخمسين جعل التلاميذ رجالا يتميزون بالإيمان والتسليم وسهولة الانقياد للروح، فكم ثارت ضدهم الأحداث بشكل غير متوقع ولكنهم ظلوا على إيمانهم، بل كلما كانت الريح أشد والغموض أكبر صعدت منهم رائحة أطيب وأجمل، فها بطرس ينام بعمق وسط الحراسة وأمام الموت، وها بولس وسيلا يصليان ويسبحان الله في السجن الداخلي، بل ها يوحنا الحبيب يصلي في الروح في يوم الرب رغم أن الريح العاتية ألقت به وحيداً في جزيرة نائية جرداء، إنها الأمانة حتى الموت!! مجداً للرب، لقد استطاع يسوع بحياته وموته وقيامته والروح القدس بحضوره المبارك أن يصنعا شعباً يطيع الرب ويقبل مشيئته مهما كانت غامضة وغير متوقعة، ليتنا نكون في عداد هذا الشعب المبارك!! يتبع.

 

 

أحاديث من القلب

  

سبعة أرواح الله (40)

بقلم : فخرى كرم

تكلمنا عن روح «الريح» المبارك الذي يقودنا أحيانا في طريق غامض لا نعرف على وجه اليقين دوافعه أو أهدافه، وقد لا نكتشف حقيقة مقاصده الصالحة إلا بعد نهاية الطريق، هذا إذا سرنا في الطريق بأمانة حتى نهايته رغم الغموض الذي يكتنفه!! ولقد رأينا مثلا لذلك في حياة إبراهيم، واليوم نلقي نظرات سريعة على كل من:

يوسف والأمانة الغالبة

          كل الأحداث التي مر بها يوسف بعد بلوغه السابعة عشرة تبدو غامضة ولا يمكن تفسيرها بسهولة في ضوء محبة الله ورعايته لأبنائه، بعد أن كانت حياته تسير بنعومة على سطح حياة هادئة مستقرة ينعم فيها بالمحبة والرعاية والتميز، هبت فجأة ريح عنيفة قلبت كل الأوضاع رأساً على عقب وبيع يوسف عبداً ، آذوا بالقيد رجليه وفي الحديد دخلت نفسه!! تحولت الراحة إلى تعب والنعومة إلى خشونة، ولم تهدأ الريح إلا بعد أن ألقت به في غياهب السجن بتهمة ظالمة ملفقة!!

كل عقل يتصدى لتبرير أو تفسير هذه الأحداث لابد أن يصاب بالحيرة والإحباط، فالشر يبدو غالباً والخير يبدو مهزوماً، إبليس يبدو سائداً والله يبدو غائباً، لكن هنا يظهر الإيمان ويتزکی وهنا تلمع الأمانة وتغلب ! فالتمسك بالله حين تبدو الأمور مفهومة ومنطقية أمر طبيعي ليس من الإيمان في شيء، أما التمسك بالله حين تبدو الأمور معاكسة وغامضة فهذا هو الإيمان بعينه!! وكما حُسب الإيمان لإبراهيم براً هكذا حُسبت الأمانة ليوسف انتصاراً.

وعندما حان وقت مجيء كلمة الله أرسل الملك فحله وأطلقه وأقامه سيداً على بيته ومتسلطاً على كل ملكه(مز 105 : 18 ـ 20 ) هنا فقط بدت مقاصد الله الصالحة للعيان» واستحقت إعجاب الناظرين وتقديرهم، لكن «الإيمان» كان يرى مقاصد الله صالحة حتى وهو بعد في ظلمة العبودية والسجن!!

أخي، على ماذا تعتمد في تقديرك وخضوعك لمعاملات الله معك؟ على «العيان» أم على «الإيمان» ؟!

أيوب و المنطق البشري

كانت حياة أيوب تسير بشكل مثالي يليق بإنسان كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر، ولكن فجأة هبت رياح على حياته بدت مضادة ومهلكة، ومحاولة تفسير هذه الرياح أدخلت أيوب في مجادلات واسعة مع أصدقائه، وكلها كانت عقيمة لم تتمخض عن رأي مريح أو فكر يهدىء من روعه ويبرد جراحه.

كان من الأفضل لأيوب أن يحني رأسه أمام حكمة الله حتى ولو لم يفهم تماما القصد من ورائها، لكنه لم يستطع أن يفعل هذا بشكل كامل، مما دفع الرب - بعد انتهاء الريح - لمعاتبته على محاولته إخضاع معاملات الله للمنطق البشرى، فحكمة الله لا يمكن وضعها تحت المنطق البشرى، ليس لأنها ضد المنطق البشرى بل لأنها فوق المنطق البشري!!

إيليا والتوقع المسبق

 قلنا سابقا إن خطورة التوقع المسبق تكمن في أنه يفقدنا مرونتنا في التجاوب مع مسار الأحداث الذي يرسمه الله، وهذا ما حدث مع إيليا: فبعد أحداث جبل الكرمل توقع إيليا أن يرجع الشعب إلى الله في توبة جماعية تطيح بعرش الوثنية في إسرائيل، لكنه فوجىء بأن هذا لم يحدث وأن إيزابل مازالت تجلس على العرش تمارس بطشها و تهديداتها ، لذلك أصابه الإحباط وترك مكانه وذهب إلى البرية، لذلك استحق أن يعاتبه الرب قائلا «مالك ههنا يا إيليا » ؟ وذلك بعد ما أجاز أمامه قواته من نار وزلزلة وريح محاولا أن يشرح له أن سير الأحداث بهذا الشكل الغامض ليس لنقص في قدرة الله على تغيير الأوضاع لكن لقصد آخر في قلب الله لا يستطيع إيليا أن يفهمه في الوقت الحاضر.

إنه وقت للإيمان !!

أخي، هل تمر الآن بوقت تبدو فيه الريح مضادة؟ هل تعجز عن فهم فكر الله وإرادته لحياتك ؟ هل يضغط عليك العدو بشكاية ضد صلاح الله؟ هل تشعر بأنك ريشة في مهب الريح»؟ هل تعتقد أن الأحداث الراهنة ستؤدي لتدميرك؟ هل فشل توقعاتك المسبقة أصابك بالإحباط؟ إنه إذن وقت للإيمان!! إنه الوقت المناسب لكى تمارس الإيمان الحقيقي، ثق في صلاح الرب وكن أمينا لله حتى وأنت متألم!! لا تدخل في محاولات عقيمة لوضع تعاملات الله تحت المنطق البشري بل اسلك طريق إيمان الأطفال البسيط، وطوبى لمن آمنوا ولم يروا !! وللحديث بقية.