الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (22)
بقلم : فخرى كرم
«لي النقمة أنا أجازي يقول الرب» (رو12: 19)

 لا يمكننا فهم تعاليم العهد الجديد عموماً وموعظة الجبل خاصة إلا في ضوء حق إلهي راسخ في كل الكتاب المقدس بعهديه ألا وهو عدالة الله وسلطانه القضائي (تث32: 34-42) الكتاب يعلمنا أن الله هو القاضي العادل الذي يسود على كل المسكونة (مز11: 4-7) كل طرقه مستقيمة وطوال الوقت هو يُجري عدلاً وحقاً (مز99: 4) وقضاء الله دائماً يشمل الانتقام من الشر ومجازاة الخير (تث32: 35)
إن اهتز إيماننا بوجود هذا القاضي العادل اهتزت الأرض تحت أرجلنا، وفقدنا ثباتنا في مواجهة الشرور التي تحيط بنا كل الوقت، وتصبح عندئذ كلمات موعظة الجبل غير منطقية وغير قابلة للتطبيق العملي (حاشا) فكيف يمكننا فهم قول ربنا «لا تقاوموا الشر» إلا في ضوء ادراكنا لوجود إله يقاوم وينتقم من الشر؟! كيف يمكنني ألا أنتقم ممن لطمني إلا في ضوء ثقتي في أن الله العادل سينتقم من هذه اللطمة؟! وكيف أحب وأصلي لأجل المسيء إليّ إلا في ضوء فهمي أن الله في علاه قد رأى الإساءة وكتب في سفر قضائه قصاصها العادل؟!!
إن الختوم والأبواق والجامات التي نقرأ عنها في سفر الرؤيا ما هي إلا أحكام الله العادلة التي تنتقم من شر الإنسان وفساده على الأرض، هذه الأحكام مكتوبة في سفر مختوم لا يستطيع أحد في السماء ولا على الأرض ولا تحت الأرض أن يفتحه ولا أن ينظر إليه بسبب شدة وقسوة الأحكام المكتوبة فيه، وحده الرب يسوع (الأسد الخارج من سبط يهوذا) سيأخذ هذا السفر ويفك ختومه ويأمر بسكب القضاء المكتوب فيه على الأرض (رؤ5-18) لأن الآب قد أعطى كل الدينونة للأبن (يو5: 22) وأقام يوماً هو مزمع أن يدين فيه كل المسكونة بالعدل بربنا يسوع المسيح (أع17: 31)
نتعلم من كلمة الله أن كل أعمال الأشرار تُدون في أسفار، وهذه الأسفار ستُفتح أمام العرش الأبيض العظيم وسيعطي الناس حساباً عن كل أعمالهم الشريرة التي صنعوها على الأرض (رؤ20: 11-15) وهذه الأسفار لا تحتوي على الأعمال فقط بل تشمل كل كلمة بطالة نطقوا بها (مت12: 36) بل تشمل أفكارهم الخفية وسرائرهم التي لم يعلم بها أحد سوى الله (رو2: 16)
على أساس هذا الحق الكتابي الراسخ يمكننا أن نفهم كلمات موعظة الجبل فهماً صحيحاً، فعندما يطالبنا الرب بألا ننتقم من الشر فهو يطالب أبناء ملكوته ألا يأخذوا صفة القاضي ولا يجلسوا على كرسي القضاء لأن القاضي العادل جالس بالفعل على كرسيه!! ونحن لا يمكننا أن نكون خصوم وقضاة في نفس الوقت!! لو كنا نؤمن أن القاضي العادل جالس على عرشه فينبغي أن نحيل أمرنا إليه ولا نمد أيدينا لننتقم من الشر، تماماً كما كان سيدنا يفعل معطياً لنا مثالاً وقدوة، الذي إذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل (1بط2: 23)
لو كان قاضينا العادل يتأنى في قضائه لأنه لا يُسر بموت الشرير بل برجوعه عن طرقه فيحيا (حز18: 23) ولو كان أبونا السماوي يؤجل القصاص ليمنح المخطئ كل فرص التوبة فلابد أن نقتدي به ونكون كاملين مثله، فلابد إذاً ألا ننتقم لأنفسنا بل نتأنى ونصلي لأجل خلاص المسيئين إلينا، ونُحسن إليهم بقدر طاقتنا موفرين لهم كل فرص التوبة والنجاة!! وللحديث بقية (يتبع)

الأربعاء، 3 أكتوبر 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (21)
بقلم : فخرى كرم
«سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن» (مت5: 38)

يشير ربنا هنا لوصية ضمن الوصايا التي أعطاها الله للشعب اليهودي ليؤسس بها دستوراً ينظم ويحكم علاقات أفراد الشعب داخل الدولة المزمع تأسيسها في أرض الموعد (لا 24 : 20) وهي الوصية التي أعاد موسى تأكيدها واستفاض في شرحها للشعب (تث19: 21) وهي تهدف لمقاومة الأعمال الشريرة ومنع انتشارها في المجتمع من خلال الخوف من القصاص الذي ينبغي أن يكون من نفس جنس العمل الشرير وبنفس مقداره (تث19: 19، 20) فلعل الإنسان يمتنع عن فعل الشر إذا علم أن نفس الشر الذي يريد أن يلحقه بالآخرين سوف يصيبه هو وبنفس المقدار.
ورغم أن جوهر هذه الوصية هو «مقاومة الشر بالشر» إلا أنها مازالت حتى يومنا هذا تمثل أساساً لمعظم القوانين التي تضعها الدول لمقاومة انتشار الشرور في مجتمعاتها، فلو لم يكن هناك قصاص معادل في قسوته للفعل الشرير لفعل الناس الشر بعضهم ببعض دون رادع!! فهذه الوصية تعبِّر عن أقصى ما يستطيع البشر أن يفعلوه للحد من انتشار الشر في المجتمع.
لكن ربنا يريد أن يرفع أفكار تلاميذه إلى مستوى أعلى للوصية ويصل بها إلى كمالها، لذلك نجده يفاجئ سامعيه بقوله «أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر»!! ولابد أن نفهم جيداً أن ربنا لا يضع هنا أساساً لقوانين جديدة ينبغي أن تحكم المجتمع البشري، بل هو يكلمنا عن طبيعة الله الآب وقوانينه التي تحكم ملكوته السماوي. إن طبيعة الله لا تقاوم الشر بالشر بل تحتوي الشر وتغلبه بالخير (رو12: 21) الله لا يمتلئ بالشر تجاه الأشرار بل هو ممتلئ دائماً بالمحبة والخير نحوهم، لا يمكن للشر أن يحرك رد فعل شريراً في قلب الله، حاشا، فطبيعة الله خالية من الشر ولا تحركه ردود الأفعال بل هو دائماً الفاعل الصالح والمقتدر المتحكم في كل مجريات الأمور، وأبناء الله الخاضعون لملكوته ينبغي أن يمتلكوا نفس طبيعته وموقفه تجاه الشر!!
الله لا يُسر بموت الشرير بل بأن يرجع عن طرقه فيحيا (حز18: 23) الله ينظر للشرير باعتباره مسكين يستحق الشفقة أكثر من كونه مجرم يستحق العقاب، لأنه بارتكابه للشرور يحكم على نفسه بالموت ويسير بها للهلاك الأبدي، لذلك فالآب السماوي يحتوي الشر بصبر وطول أناة ويتعامل مع الشرير برحمة ويعطيه فرصاً جديدة للتوبة والحياة، وهو يريد من أبنائه أن يكونوا ممثلين لطبيعته هذه على الأرض، لا يتعجلون القصاص من الشرير ولا يبادلونه شراً بشر، فتحويلي الخد الآخر تعبير مجازي عن غفراني للمسيء واستعدادي لمزيد من الغفران!! وتركي للرداء أيضاً يشير للطبيعة التي تُسر بالعطاء للمسيء عن رحمة وليس عن اضطرار!! وسيري الميل الثاني يؤكد أني سرت الميل الأول بدافع المحبة وليس بسبب السخرة!!
وغني عن البيان أن هذا الموقف القلبي لأبناء الملكوت لا يتعارض مع القوانين البشرية التي تحكم المجتمع الذي يعيشون فيه، كما أنه لا يتعارض مع عدالة الله التي تقتص في النهاية من الشر لو ظل الشرير على عناده ورفض التوبة واستهان بأناة الله وغنى لطفه، ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)