الأربعاء، 1 يوليو 2015

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (13)
فخرى كرم
«جيد أن ينتظر الإنسان ويتوقع بسكوت خلاص الرب، جيد للرجل أن يحمل النير
في صباه، يجلس وحده ويسكت لأنه قد وضعه عليه» (مراثي3: 26-28)
أحياناً يكون السكوت عن الشكوى هو علامة نضج لشخصية الخادم، فكثيراً ما كانت ظروف وطبيعة الخدمة التي يضعها الرب على كاهلنا مؤلمة وصعبة، ولو استسلم الخادم للشكوى والتذمر ومقارنة نفسه بالآخرين فلن يستطيع القيام بخدمته، بل تكون الشكوى في هذه الحالة علامة على عدم نضج الخادم وعدم قدرته على تحمل المسئولية.
أكثر رجال الله تحملاً للألم بسبب خدمته كان أرميا بلا منازع، كانت حياته كلها سلسلة متصلة من الآلام، دعاه الرب للخدمة وهو بعد صبي صغير لا يزيد عن العشرين سنة، وبينما كان جميع أقرانه يستقبلون الحياة بصدر رحب وأذرع مفتوحة كان هو ينحني بكتفيه تحت نير ثقيل، نير الرسالة التي وضعها عليه الرب والتي ستضعه في مواجهة صادمة مع كل فئات المجتمع اليهودي آنذاك، كانت الرسالة التي في فمه رسالة قضاء ودينونة لكل فئات الشعب، وكانت نبواته تنذر بالخراب والسبي الوشيك، أبغضه إخوته بنو أمه وتآمروا عليه (أر12: 6) أبغضه الكهنة زملاء مهنته وطالبوا بعزله من الخدمة وعقابه (أر 20، 26) أبغضه الملوك وقادة الجيش ونكَّلوا به مرات عديدة (أر37: 15) حتى أن الفئة الوحيدة التي عاملته باحترام كانت فئة البابليين الغزاة!!
وقد واجه أرميا كل هذه الظروف المضادة بالسكوت البليغ!! كان رجلاً في تحمُّله للمسئولية، كان في كل مراحل خدمته ينتظر بصبر ويتوقع بسكوت خلاص الرب، كان قابلاً للجلوس دائماً وحده بلا شريك أو معين، أمره الرب ألا يتزوج ولا يكون له بنين أو بنات (أر16: 1) قضى حياته منبوذاً من شعبه ومات غريباً في أرض مصر على غير إرادته!!
ولو أضفنا إلى كل هذه المعاناة طبيعة أرميا النفسية لوجدنا هذه الآلام تتضاعف عدة مرات!! فطبيعة أرميا النفسية التي نفهمها من الوحي المقدس كانت طبيعة شديدة الحساسية مليئة بفيض من المشاعر الرقيقة تجاه كل افراد شعبه، كان انساناً مرهف الحس كثير البكاء، كان شخصيته أقرب للشاعر الأديب منها للمقاتل الصنديد، ولو نظرنا لسفر المراثي في لغته الأصلية لوجدناه مكتوباً بصيغة شعرية غاية في الروعة والجمال، مما يدفعنا للتساؤل: ما علاقة هذا الشاعر الرقيق بكل هذه الحروب والآلام؟!
 والإصحاح الثالث في سفر المراثي هو قصيدة شعرية كتبها أرميا عن معاناته هو الشخصية، لقد رثى في كل كتاباته جميع فئات الشعب ولكنه في هذا الإصحاح الفريد يرثي نفسه!! يسترجع في نهاية حياته التي قاربت على الثمانين ما تألم به منذ صباه، وفي هذه المرثاة الجميلة يكشف لنا أرميا عن سر سكوته طوال حياته، كيف لم يملأ الدنيا ضجيجاً وشكوى من الظلم الذي يتعرض له، وكان السر هو أنه أحب الرب ووثق في أمانته الكثيرة، قَبِل النير من يده وأراد أن يتمم مشيئته للنهاية، كان يردد دائماً في قلبه أنه من إحسانات الرب أننا لم نفن لأن مراحمه لا تزول، في كل صباح كان ينتظر مراحم جديدة لأنه يؤمن أن السيد لا يرفض إلى الأبد وأنه ولو أحزن يعود يرحم حسب كثرة رحمته!!

ليتك يا سيدي تصنع في حياتي رجلاً ناضجاً يحمل النير بصمت ويتوقع بسكوت خلاصك القريب، وللحديث بقية (يتبع)