الخميس، 7 أغسطس 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (3)
فخرى كرم
«في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه...
بعد هذا فتح أيوب فاه وسبَّ يومه» (أي2: 10، 3: 1)
تعرَّض أيوب لسلسلة من الأحداث المتوالية ذات السيناريو المتشابه بما يشي بأنها أحداث مدبَّرة وليست عشوائية، أحداث يقف وراءها عقل واحد جبار وذراع قادرة على الشر، أحداث تؤكد أن مَن يقف وراءها يبغض أيوب بغضة شديدة ويريد أن يسحقه سحقاً، أحداث حولته في فترة زمنية قصيرة من أغنى بني المشرق إلى أكثرهم مدعاة للشفقة والرثاء!!
لم يكن الإعلان الروحي والكتابي كاملاً في وقت أيوب بل كانت هناك معرفة بدائية عن وجود إله يتحكم في الكون، لم يكن هناك إعلان عن الشيطان الذي يشتكي على أبناء الله ليلاً ونهاراً، ولا عن قدرة مملكته الشريرة على تحريك البشر والرياح وكل الظروف لصناعة الموت والدمار، ولا عن قدرة هذه القوات الشريرة على تسبيب الأمراض والعلل في جسد ونفس الإنسان.
عندما نقرأ سفر أيوب يكشف لنا الوحي عما كان يدور في السماويات وما ترتب عليه من أحداث في الأرض، لكن هذه الحقائق لم تكن واضحة في ذهن أيوب ولا في روحه، معرفته البدائية عن الأمور الروحية لم تستطع أن تفسر له ما يحدث، عدم معرفته بوجود مملكة شريرة في السماويات جعله ينسب كل ما يجري لله وحده، وهو نفس التوجُّه الفكري الذي اتخذه أصدقاؤه عندما حاولوا أن يفسروا ما جرى له، وهذا القصور في المعرفة الروحية خلق للجميع معضلة صعبة تستعصي على الحل، ألا وهي: كيف يكون الله بهذه القسوة غير المبرَّرة؟ وكيف يمكن الجمع بين صورة الله الجميلة في خيال البشر وبين المفاسد التي تحدث في أرض الواقع؟ كيف يظل الإنسان يؤمن بعدالة الله ومحبته في ظل المآسي التي يتعرض لها كل يوم؟!
وأفضل حل لهذه المعضلة هو أن يعترف الإنسان بعجزه عن حلها!! كم هو مريح للإنسان أن يقرُّ بقصور معرفته ومحدودية إدراكه، كم هو جميل أن يتواضع الإنسان أمام جبروت هذه الأحداث القاهرة ويسلِّم بجهله وعجزه عن فهم ما يدور حوله، كم هو رائع أن يتخذ الإنسان موقف الفطيم الضعيف الذي يلوذ بحضن أمه ويجد فيه كل العزاء رغم عدم فهمه لما يدور حوله، كم هو حسن أن يتعلَّم الإنسان كيف يهدِّئ ويسكِّت نفسه ويتجنب كبرياء النفس الذي يدفعه للخوض بحماقة في العظائم والعجائب التي فوقه، إن السكوت المصحوب بالتسليم لإرادة وحكمة الله في هذه المواقف هو الأكثر بلاغة من أي كلام، السكوت المقترن بالثقة في صلاح الله والانتظار لإعلانه هو الأكثر مرضاة لله من أي مماحكات كلام باطلة.
لكن يبدو أن السكوت ليس أمراً سهلاً، بل أنه أحياناً يكون شديد الصعوبة!! لقد استطاع أيوب أن يسكت لبعض الوقت ولم يخطئ بشفتيه، وفي هذا الوقت القصير كان مازال متمسكاً بكماله أمام الله مسلماً بحكمة الله وصلاحه، لكن تحت وطأة المرض الذي مسّ جسده وعيون أصحابه الممتلئة بالشك والاتهام قرر أيوب أن يتكلم ويتصدى لمحاولة تفسير ما يجري له من أحداث، وهنا فقط بدأ التدهور من خطأ إلى خطأ ومن حماقة إلى أخرى، وكشفت كلماته عن مكنون قلب الإنسان الجاهل بطبيعة الله والممتلئ بالشك في صلاحه، للأسف لم تستمر بلاغة السكوت في حياة أيوب أكثر من سبعة أيام وبعدها بدأت حماقة الكلام!! ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)