الأحد، 1 فبراير 2015

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (9)
فخرى كرم
«صمتُّ، لا أفتح فمي، لأنك أنت فعلتَ» (مز39: 9)
هناك دائماً وقت لسكب شكوانا أمام الله، في هذا الوقت يمكننا أن نقول ما نريد ونعرض وجهة نظرنا ونطالب بما نراه حقاً وعدلاً، في هذا الوقت تنسكب مشاعرنا أمام إلهنا وتنزرف دموعنا وقد يتعالى أنيننا وصراخنا، والكتاب المقدس يزخر بالكثير من هذه الأوقات في حياة رجال الله، بل أن الكثير من هذه الأوقات غيَّرت مجرى التاريخ وأحدثت انقلابا في الأحداث، ويكفينا مثالاً صلاة ربنا المعبود في بستان جثسيماني قبيل الصليب عندما قدَّم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلِّصه من الموت، عندما صار عرقه ينزل كقطرات دمٍ من شدة الصراع النفسي والروحي والجسدي الذي كان يجتازه، إن مثل هذه الأوقات رغم صعوبتها ستظل علامات فارقة في تاريخ البشرية جمعاء.
لكن هذا الوقت له حدود بعدها يقرر الله أن يصنع مشيئته الصالحة الكاملة المرضية في حياتنا، بعدما استمع بكل محبته لما في قلوبنا تبقى الكلمة الأخيرة لشخصه لا سواه، وحينئذ تمتد يده لتُجري أحكامها وقضاءها في ظروفنا وأحداثنا، وهنا لابد أن يبدأ وقت آخر في حياتنا، وقت الصمت المقدس!! الصمت البليغ الذي يعلن أننا نقبل حكم الله وقضاءه في حياتنا، وأننا نثق تماماً في حكمته وعدالته مهما كانت وجهة نظرنا في الأمور، نحن نشكر الله لأنه يعطينا وقتاً نعبِّر فيه عن مشاعرنا وأفكارنا لكن هذا لا يعني أن نتمسك بمشاعرنا وأفكارنا هذه حتى بعدما يُجري الله أحكاماً قد تختلف عما تريده مشاعرنا وأفكارنا!! هناك فرق كبير بين التعبير عن وجهة نظرنا أمام الله وبين أن نظل نتمسك بوجهة النظر هذه حتى بعدما يقرر الله شيئاً آخر، هناك فرق كبير بين أن نعبِّر عن مشاعرنا وبين أن نتشبث بها ونعتبر أنها الصواب المطلق، إن كل أفكارنا ومشاعرنا محدودة وقاصرة جداً بطبعها الإنساني ولا يمكن أن ترتقي لترى الأمور في كمالها كما يراها الله، ورغم هذا القصور فان الله يحترم أفكارنا ومشاعرنا ويسمح لنا أن نعبِّر عنها ويستمع لها بصبر وأناة ولكنه في النهاية لابد أن يحكم بما يراه هو وليس بما نراه نحن، وفي هذا الوقت لابد أن نتعلم كيف نسكت ونقبل ما فعله الله ليس عن إحساس بالقهر بل عن ثقة أن ما فعله هو الحق المطلق والعدالة الكاملة!! وهذا هو المعنى الثالث لصمت الرب في وقت محاكمته:
† ثالثاً: السكوت يعبِّر عن خضوع الابن لمشيئة الآب: بعدما سكب ربنا مشاعره الإنسانية أمام الآب في جثسيماني وصارع كثيراً في مدى إمكانية أن تعبر عنه هذه الكأس لكيلا يشربها، شعر في روحه أن وقت الصراع قد انتهى، وأن الآب قد أصدر حكماً بأن تكتمل أحداث الصليب وان يُسلَّم ربنا في أيدي الخطاة إلى الموت، هنا وجدنا ربنا المعبود ينهض من صلاته ويتقدم بثبات لكي يتناول ويشرب الكأس من يد أبيه بكل رضا وسرور، لقد انتهى وقت الكلام وجاء وقت السكوت الذي يعلن ثقة الابن في عدالة وحكمة الآب السماوي، لم يحاول الابن المبارك أن يتنصل من الصليب بعدما تأكد أن الآب هو الذي حكم له بالصليب، لقد صمت ولم يفتح فاه لأن الآب قد فعل، لقد اعتبر ربنا أن أي كلمة سيقولها دفاعاً عن نفسه في وقت المحاكمة ستكون محاولة للهروب من مشيئة أبيه، وهو الأمر الذي لا يريده بالمرة، ولذلك قرر أن يسكت كالنعجة الصامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه!!    


ليتنا نتعلم التمييز بين وقت الكلام وسكب الشكوى وبين وقت السكوت احتراماً لقضاء الله واحكامه!! وللحديث بقية (يتبع)