موعظة الجبل (35)
بقلم : فخرى كرم
«واغفر لنا ذنوبنا» (مت6:
12)
بعد أن علَّمنا الرب أن نطلب
خبز الكفاف لأجسادنا نجده يعلّمنا أن نعطي وقتاً في صلاتنا
للاعتراف بخطايانا وطلب المغفرة من الآب السماوي، وهذه الطلبة تعبِّر عن احتياج أساسي لنفوسنا لا يقل أهمية عن احتياج أجسادنا
للخبز، فأجسادنا تحتاج للخبز لتكتسب الطاقة اللازمة للنشاط الجسدي ونفوسنا تحتاج إلى
الشعور بالغفران والتبرير لتكتسب الطاقة اللازمة للنشاط النفسي، وإذا كانت أجسادنا تحتاج للخبز عدة مرات في اليوم الواحد
هكذا نفوسنا تحتاج للغفران والتبرير عدة مرات في كل يوم!!
إن طعام النفس هو الشعور
بالدفء والأمان والمحبة، ولذلك فالشعور بالذنب والإدانة والرفض هو أقسى شعور تواجهه
النفس البشرية، ويشبه تماماً شعور الجسد بالحرمان من الطعام،
وإذا استمرت النفس لفترات طويلة تحت وطأة الإحساس بالذنب فإنها تضعف وتمرض بل وتموت!!
وإذا كانت صحة أجسادنا ترتبط
بشكل مباشر بطبيعة وقيمة الطعام الذي نتناوله فصحة نفوسنا ترتبط أيضاً بطبيعة وقيمة
التبرير الذي نشعر به، وكما أن تناول الإنسان لطعام مغشوش يصيب جسده بالأمراض هكذا
أيضاً نفوسنا تمرض إذا تغذت على أنواع مغشوشة من التبرير!! والكتاب المقدس يكلمنا
عن أنواع مغشوشة من التبرير قد يلجأ إليها الإنسان ليسد بها جوعه النفسي:
(1) التبرير الذاتي (لو18: 10-14): الكثير من الناس يتغذى على تبريره هو لذاته، ذهنه كل الوقت
في حالة دفاع مستميت عن تصرفاته، وضميره دائماً يلتمس الأعذار لكل أخطائه، وفي نفس
الوقت يتلذذ باصطياد الأخطاء للأخرين ليبدو أمام نفسه باراً، إنه
مثل ذلك الفريسي الذي وقف في الهيكل يعدد محاسنه ويدين باقي الناس، ولقد وصف الرب بالحق صلاة ذلك الفريسي عندما قال إنه وقف ليصلي «في نفسه»!! أنها صلاة المنكفئ على
ذاته، الباحث عن تبريره لذاته وليس عن تبرير الله له، إنه يصلي أمام نفسه وليس أمام
الله، يهتم بأن يرضي ضميره ولا يعنيه رضا الله، إنه يغذي نفسه بطعام
مغشوش لا يمكن أن يعطيه إشباعاً حقيقياً للنفس، ولذلك قال الرب أنه نزل إلى بيته دون
الحصول على أي تبرير حقيقي!!
إننا لا نجد في صلاة الفريسي
أي اعتراف بأية أخطاء، فبالنسبة لهذه النوعية من الناس يكون الاعتراف بالخطأ أمراً
في منتهى الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً!! إنهم لا يريدون أن يظهروا
أمام ذواتهم مخطئين، يخشون من احساسهم بالخطأ أكثر من خشيتهم من الخطأ نفسه!! يضعون
لأنفسهم مقاييس وموازين للصواب والخطأ ويقيسون أنفسهم عليها، وعادة ما تكون هذه المقاييس
مغشوشة وغاشّة ولكنهم يشعرون بالراحة متى توافقوا معها، أما مقاييس الله وموازينه فلا
يعرفونها ولا يعنيهم أن يعرفوها!!
مأساة هؤلاء القوم أنهم في اليوم الأخير سيقفون للمحاكمة أمام الله
وليس أمام ضمائرهم، وهناك سيكتشفون أنهم يحاسبون بحسب مقاييس الله وليس مقاييسهم، وحياتهم
توضع في موازين الحق وليس موازينهم المغشوشة، وعندئذ سيكون عليهم أن يواجهوا الحقيقة
المريرة التي عاشوا عمرهم كله يتجنبون مواجهتها، حقيقة أنهم خاطئون وغير مبررين أمام
الله!! وللحديث بقية (يتبع)