السبت، 3 يوليو 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (53)

بقلم : فخرى كرم

 

«لا تدينوا لكي لا تُدانوا» (مت7: 1)

ينتقل ربنا في حديثه إلى منطقة أخرى من مناطق السلوك الإنساني، ألا وهي الميل الداخلي لملاحظة أخطاء الآخرين وإدانتها والتطوع بإسداء النصح لهم ومحاولة تقويمهم، هذا الميل الغريزي نلاحظه فينا جميعاً بدرجة أو بأخرى، إنه الميل للجلوس على كرسي الديان وإصدار الأحكام على الجميع وتصنيفهم ووضعهم في درجات مختلفة ارتفاعاً وانخفاضاً.

بمجرد أن نبدأ التعامل مع أي إنسان تبدأ أذهاننا تكوّن عنه انطباعاً من خلال مظهره وطريقة كلامه ومسلكه، ونبدأ نتعامل معه في ضوء هذا الانطباع بل نقوم بنقل انطباعنا هذا للآخرين على أنه حقائق مؤكدة، وبناءً على هذا الانطباع نصدر أحكامنا على كل ما لا يروق لنا في هذا الإنسان، كل هذا يحدث بسلاسة وتلقائية دون أن ندرك أننا نرتكب جريمة ونسقط في عصيان، لأنه كثيراً ما تكون انطباعاتنا هذه خاطئة وسطحية وتتسبب في آلام عميقة وخسائر فادحة للآخرين!!

ولو تسائلنا عن الدافع الخفي وراء هذا الميل القوي في داخلنا لإدانة الآخرين نجد الرب يكشف لنا أن الدافع هو الرغبة في تبرير ذواتنا والتغطية على عيوبنا!! ان الإنسان الذي يلاحظ القذى في عين أخيه ويتبرع بمحاولة إخراجه هو في الحقيقة يشتت الانتباه لكي لا يلاحظ أحد الخشبة التي في عينه هو!! ليس الهدف وراء إدانة الآخرين هو أن تصير حياتهم أفضل وأطهر بل الهدف هو محاولة تشويههم لنبدو نحن أفضل منهم!!

في هذا الجزء من موعظة الجبل ينهانا ربنا تماماً عن إدانة الآخرين ويحذرنا من الانجراف وراء هذا الدافع الغريزي الكامن في أعماقنا، فالإنسان ينبغي ألا يكون دياناً لأخيه الإنسان لعدة أسباب:

(1) محدودية الإدراك: إن إدراكنا للشخص الذي نتعامل معه يكون في الغالب محدود جداً وسطحي للغاية، لأننا لا نرى من الإنسان إلا المناطق الظاهرة في حياته من كلمات وتصرفات، لكننا لا نرى ولا ندرك ما يكمن وراء هذه المظاهر، إننا لا نعرف الميراث الجيني والروحي الذي انتقل لهذا الإنسان من أجداده، ولا نعرف تأثير بيئته على تكوين شخصيته، ولا نعرف الظروف والأحداث التي مرت به وتركت بصمتها على تفكيره، إن ما لا نعرفه عن أي إنسان أكثر بكثير جداً مما نعرفه عنه!! بل لا نبالغ إذا قلنا إن الإنسان نفسه لا يعرف حقيقة نفسه بشكل كامل (أر17: 9)

لا يستطيع القاضي أن يصدر حكماً عادلاً إلا بعد الإلمام التام بكل تفاصيل القضية التي يحكم فيها، وبالتالي نحن غير مؤهلين بالمرة لأن نصدر أحكاماً على أي إنسان لأننا لا نلم بكل تفاصيل حياته ودوافعه، كم مرة تسرعنا في حكمنا على أناس وسببنا لهم آلاماً وجراحاً كثيرة ولما تكشفت لنا الحقائق أدركنا أننا أخطأنا في حكمنا وتسرعنا في إدانتنا لكن بعد فوات آوان التراجع، دعونا نترك الدينونة لله الذي له الحق وحده في الحكم على البشر، لأنه وحده فاحص القلوب ومختبر الكلى الذي كل شيء مكشوف أمامه.

(2) الخضوع لنفس الحكم: يعلمنا ربنا هنا مبدأ هاماً وضعه الله ليحكم علاقات البشر، هذا المبدأ هو أن ما يزرعه الإنسان لابد أن يحصده ومن نفس النوع (غلا6: 7) فلو اعتادنا على ادانة الآخرين فسوف يديننا الآخرون، ولو تسرعنا في حكمنا عليهم وسببنا لهم ألماً فلابد أن تدور الدوائر ويحكم الناس علينا ونعاني من نفس الإحساس بالألم، وبالكيل الذي نكيل به الاتهامات للآخرين لابد أن يُكال لنا!! وللحديث بقية (يتبع)