السبت، 1 ديسمبر 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (23)
بقلم : فخرى كرم
«احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم» (مت6: 1)

بعدما تكلم ربنا عن بعض وصايا الناموس وكيف يصل أبناء الملكوت لتحقيقها الكامل تشبهاَ بأبيهم السماوي الكامل، ينتقل بنا للحديث عن بعض السلوكيات المزيفة التي شاعت في المجتمع الديني في ذلك الوقت وما يقابلها من سلوكيات حقيقية ينبغي أن توجد في حياة أبناء الملكوت.
حرص رجال الدين اليهود على مر أجيالهم على وضع نظم وقوانين ومواقيت لأعمال البر مثل الصدقة والصلاة والصوم، ورغم أن الناموس لم يقنن أي شكل يحكم أعمال البر هذه وترك تحديدها لظروف كل فرد وعمق علاقته بالله إلا أن رجال الدين أبوا إلا أن يضعوا قوانين للعطاء (مت15: 5) ومواقيت للصلاة (أع3: 1) وأيام للصوم (لو18: 12)
وعادة ما تكون هذه النظم والقوانين أحمالاً عسرة الحمل يضعها القادة الدينيين على أكتاف أفراد الشعب العاديين الذين في الغالب لا يستطيعون حملها (مت23: 4) وهذا مقصود لكي يشعر أفراد الشعب دائماً بتقصيرهم وبأفضلية وتفوق رجال الدين عنهم، فينحنوا لهم خوفاً وخضوعاً وتقديساً!! ولهذا اعتاد رجال الدين على ممارسة أعمال البر بشكل علني واظهار أنفسهم للناس لكي يجتذبوا أنظارهم وإعجابهم ويزيدوا الفجوة الفاصلة بينهم وبين عامة الشعب اتساعاً!! 
ويصف ربنا هؤلاء القادة بـ «المراؤون» وهي كلمة تشير في أصلها للممثلين الذين يرتدون أقنعة على خشبة المسرح ليظهروا للجمهور على غير حقيقتهم!! وهنا يفاجئ الرب سامعيه بأن أعمال البر التي يمارسها رجال الدين لم يكن مقصوداً منها إرضاء الله بقدر ما كان المقصود هو الاختباء وراءها والظهور للناس بمظهر لا يعكس حقيقتهم، سعياً لجذب الأنظار والاعجاب!!
والرب هنا يلفت أنظارنا إلى داء يستشري في أعماقنا جميعاً، فالرياء الذي وصف به الرب القادة الدينيين في عصره مازال موجوداً في عمق كل واحد منا بدرجة أو بأخرى، الذات الكامنة في قلوبنا تسعى دائماً لتتجمل في عيون الآخرين لتجتذب أنظارهم واعجابهم، ذواتنا تشعر بالأمان والثقة إذا شعرت أن هناك من ينجذب إليها ويعجب بها، وعلى العكس هي تشعر بالخوف والاهتزاز إذا لم تشعر باهتمام الأخرين وتقديرهم، ولذلك هي لا تدخر جهداً في إظهار مهارتها ومواضع قوتها ولا تتوانى في إخفاء عيوبها ومواطن ضعفها!!
وإذا كان هذا السلوك للذات البشرية غير مستغرب في كل مجالات الحياة إلا أنه يصبح مستهجناً جداً إذا تسرب إلى المجال الديني والعلاقة مع الله!! فعندما تستخدم ذواتنا أعمال البر لكي تتجمل في عيون الناس بدلاً من السعي لإرضاء الله نكون قد ابتعدنا جداً عن الحياة الروحية الحقيقية، وعندما نتعمد اظهار ممارستنا الدينية لنخفي وراءها حقيقة قلوبنا الشريرة نكون مراؤون بكل تأكيد، وعندما تتحول العلاقة مع الله إلى ستار نخفي خلفه شهوة قلوبنا للتعالي والسيطرة على الأخرين نكون قد أخطأنا في حق الله ومستحقين للقضاء!!
وهنا ينتقل ربنا للكلام عن أبناء الملكوت وكيف ينبغي أن يمارسوا أعمل البر في علاقتهم بالله، فقط أبناء الله الحقيقيون يستطيعون بالروح القدس أن يكسروا سلطان هذه الذات الرديئة ويقدموا لله عبادة حقيقية تطلب وجهه فعلاً وتسعى لرضاه حقاً، الروح المولودة من الله هي فقط التي تستطيع أن تقدم لله اعمال بر ترضيه وتدخل السرور إلى قلبه، وحدها هذه الروح تستطيع أن تعبد الله في الخفاء بعيداً عن عيون الناس وتقييمهم، ولهذا حديث آخر (يتبع)

الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (22)
بقلم : فخرى كرم
«لي النقمة أنا أجازي يقول الرب» (رو12: 19)

 لا يمكننا فهم تعاليم العهد الجديد عموماً وموعظة الجبل خاصة إلا في ضوء حق إلهي راسخ في كل الكتاب المقدس بعهديه ألا وهو عدالة الله وسلطانه القضائي (تث32: 34-42) الكتاب يعلمنا أن الله هو القاضي العادل الذي يسود على كل المسكونة (مز11: 4-7) كل طرقه مستقيمة وطوال الوقت هو يُجري عدلاً وحقاً (مز99: 4) وقضاء الله دائماً يشمل الانتقام من الشر ومجازاة الخير (تث32: 35)
إن اهتز إيماننا بوجود هذا القاضي العادل اهتزت الأرض تحت أرجلنا، وفقدنا ثباتنا في مواجهة الشرور التي تحيط بنا كل الوقت، وتصبح عندئذ كلمات موعظة الجبل غير منطقية وغير قابلة للتطبيق العملي (حاشا) فكيف يمكننا فهم قول ربنا «لا تقاوموا الشر» إلا في ضوء ادراكنا لوجود إله يقاوم وينتقم من الشر؟! كيف يمكنني ألا أنتقم ممن لطمني إلا في ضوء ثقتي في أن الله العادل سينتقم من هذه اللطمة؟! وكيف أحب وأصلي لأجل المسيء إليّ إلا في ضوء فهمي أن الله في علاه قد رأى الإساءة وكتب في سفر قضائه قصاصها العادل؟!!
إن الختوم والأبواق والجامات التي نقرأ عنها في سفر الرؤيا ما هي إلا أحكام الله العادلة التي تنتقم من شر الإنسان وفساده على الأرض، هذه الأحكام مكتوبة في سفر مختوم لا يستطيع أحد في السماء ولا على الأرض ولا تحت الأرض أن يفتحه ولا أن ينظر إليه بسبب شدة وقسوة الأحكام المكتوبة فيه، وحده الرب يسوع (الأسد الخارج من سبط يهوذا) سيأخذ هذا السفر ويفك ختومه ويأمر بسكب القضاء المكتوب فيه على الأرض (رؤ5-18) لأن الآب قد أعطى كل الدينونة للأبن (يو5: 22) وأقام يوماً هو مزمع أن يدين فيه كل المسكونة بالعدل بربنا يسوع المسيح (أع17: 31)
نتعلم من كلمة الله أن كل أعمال الأشرار تُدون في أسفار، وهذه الأسفار ستُفتح أمام العرش الأبيض العظيم وسيعطي الناس حساباً عن كل أعمالهم الشريرة التي صنعوها على الأرض (رؤ20: 11-15) وهذه الأسفار لا تحتوي على الأعمال فقط بل تشمل كل كلمة بطالة نطقوا بها (مت12: 36) بل تشمل أفكارهم الخفية وسرائرهم التي لم يعلم بها أحد سوى الله (رو2: 16)
على أساس هذا الحق الكتابي الراسخ يمكننا أن نفهم كلمات موعظة الجبل فهماً صحيحاً، فعندما يطالبنا الرب بألا ننتقم من الشر فهو يطالب أبناء ملكوته ألا يأخذوا صفة القاضي ولا يجلسوا على كرسي القضاء لأن القاضي العادل جالس بالفعل على كرسيه!! ونحن لا يمكننا أن نكون خصوم وقضاة في نفس الوقت!! لو كنا نؤمن أن القاضي العادل جالس على عرشه فينبغي أن نحيل أمرنا إليه ولا نمد أيدينا لننتقم من الشر، تماماً كما كان سيدنا يفعل معطياً لنا مثالاً وقدوة، الذي إذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل (1بط2: 23)
لو كان قاضينا العادل يتأنى في قضائه لأنه لا يُسر بموت الشرير بل برجوعه عن طرقه فيحيا (حز18: 23) ولو كان أبونا السماوي يؤجل القصاص ليمنح المخطئ كل فرص التوبة فلابد أن نقتدي به ونكون كاملين مثله، فلابد إذاً ألا ننتقم لأنفسنا بل نتأنى ونصلي لأجل خلاص المسيئين إلينا، ونُحسن إليهم بقدر طاقتنا موفرين لهم كل فرص التوبة والنجاة!! وللحديث بقية (يتبع)

الأربعاء، 3 أكتوبر 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (21)
بقلم : فخرى كرم
«سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن» (مت5: 38)

يشير ربنا هنا لوصية ضمن الوصايا التي أعطاها الله للشعب اليهودي ليؤسس بها دستوراً ينظم ويحكم علاقات أفراد الشعب داخل الدولة المزمع تأسيسها في أرض الموعد (لا 24 : 20) وهي الوصية التي أعاد موسى تأكيدها واستفاض في شرحها للشعب (تث19: 21) وهي تهدف لمقاومة الأعمال الشريرة ومنع انتشارها في المجتمع من خلال الخوف من القصاص الذي ينبغي أن يكون من نفس جنس العمل الشرير وبنفس مقداره (تث19: 19، 20) فلعل الإنسان يمتنع عن فعل الشر إذا علم أن نفس الشر الذي يريد أن يلحقه بالآخرين سوف يصيبه هو وبنفس المقدار.
ورغم أن جوهر هذه الوصية هو «مقاومة الشر بالشر» إلا أنها مازالت حتى يومنا هذا تمثل أساساً لمعظم القوانين التي تضعها الدول لمقاومة انتشار الشرور في مجتمعاتها، فلو لم يكن هناك قصاص معادل في قسوته للفعل الشرير لفعل الناس الشر بعضهم ببعض دون رادع!! فهذه الوصية تعبِّر عن أقصى ما يستطيع البشر أن يفعلوه للحد من انتشار الشر في المجتمع.
لكن ربنا يريد أن يرفع أفكار تلاميذه إلى مستوى أعلى للوصية ويصل بها إلى كمالها، لذلك نجده يفاجئ سامعيه بقوله «أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر»!! ولابد أن نفهم جيداً أن ربنا لا يضع هنا أساساً لقوانين جديدة ينبغي أن تحكم المجتمع البشري، بل هو يكلمنا عن طبيعة الله الآب وقوانينه التي تحكم ملكوته السماوي. إن طبيعة الله لا تقاوم الشر بالشر بل تحتوي الشر وتغلبه بالخير (رو12: 21) الله لا يمتلئ بالشر تجاه الأشرار بل هو ممتلئ دائماً بالمحبة والخير نحوهم، لا يمكن للشر أن يحرك رد فعل شريراً في قلب الله، حاشا، فطبيعة الله خالية من الشر ولا تحركه ردود الأفعال بل هو دائماً الفاعل الصالح والمقتدر المتحكم في كل مجريات الأمور، وأبناء الله الخاضعون لملكوته ينبغي أن يمتلكوا نفس طبيعته وموقفه تجاه الشر!!
الله لا يُسر بموت الشرير بل بأن يرجع عن طرقه فيحيا (حز18: 23) الله ينظر للشرير باعتباره مسكين يستحق الشفقة أكثر من كونه مجرم يستحق العقاب، لأنه بارتكابه للشرور يحكم على نفسه بالموت ويسير بها للهلاك الأبدي، لذلك فالآب السماوي يحتوي الشر بصبر وطول أناة ويتعامل مع الشرير برحمة ويعطيه فرصاً جديدة للتوبة والحياة، وهو يريد من أبنائه أن يكونوا ممثلين لطبيعته هذه على الأرض، لا يتعجلون القصاص من الشرير ولا يبادلونه شراً بشر، فتحويلي الخد الآخر تعبير مجازي عن غفراني للمسيء واستعدادي لمزيد من الغفران!! وتركي للرداء أيضاً يشير للطبيعة التي تُسر بالعطاء للمسيء عن رحمة وليس عن اضطرار!! وسيري الميل الثاني يؤكد أني سرت الميل الأول بدافع المحبة وليس بسبب السخرة!!
وغني عن البيان أن هذا الموقف القلبي لأبناء الملكوت لا يتعارض مع القوانين البشرية التي تحكم المجتمع الذي يعيشون فيه، كما أنه لا يتعارض مع عدالة الله التي تقتص في النهاية من الشر لو ظل الشرير على عناده ورفض التوبة واستهان بأناة الله وغنى لطفه، ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)

الخميس، 6 سبتمبر 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (20)
بقلم : فخرى كرم
«سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث.. أما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة» (مت5: 33، 34)
ينتقل ربنا للحديث عن وصية أخرى من وصايا الناموس التي يتعامل معها الناس بسطحية شديدة وسذاجة، ألا وهي الوصية الثالثة «لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يُبرئ مَن نطق باسمه باطلاً» (خر20: 7)
كلنا نحب حين نتكلم أن نُكسب حديثنا مصداقية وقبولاً لدى السامعين، نريد أن يكون لكلماتنا سلطانها على الأخرين وأن يعيروها انتباههم، وهناك أساليب شتى لتحقيق هذا الغرض مثل تغيير نغمة الصوت وارتفاع النبرة واستخدام تعبيرات الوجه وحركات الأيدي أثناء الحديث...، لكن أشهر هذه الأساليب وأكثرها استخداماً هو «الحلف» الذي هو ببساطة ربط الكلام بأمر أو باسم مقدس لإكساب كلامنا قدسية ومصداقية.
والمشكلة هنا أن أحاديثنا لا يمكن أن ترتقي لمستوى القداسة والتنزيه، فناهيك عن الكذب المتعمد في أحيان كثيرة هناك دائماً الكثير من القصور والمحدودية والجهل يشوب أفضل أحاديثنا وأكثرها صدقاً!! فلذلك ينبغي ألا نضفي على أحاديثنا قداسة لا تستحقها ولا نسعى لإكسابها سلطاناً ليس لها.
ولقد اعتاد الأمم المحيطون بشعب إسرائيل أن يحلفوا دائماً بآلهتهم ليؤكدوا أقوالهم رغم احتوائها على الكثير من الأكاذيب والمغالطات، وفي الوصية الثالثة يحذِّر «يهوه» شعبه من استخدام اسمه بهذا الأسلوب لأن اسمه أقدس من أن يقترن بكلامنا الناقص وأعظم من أن يُستخدم ليعطي مصداقية لأقوالنا المملوءة بالأخطاء، وتأكيداً لهذا المعنى عاد موسى ليؤكد على الشعب أنه إذا أقسم أحدهم قسماً مستخدماً اسم الله فينبغي ألا يحنث بل يوفي ما أقسم عليه لئلا يقع تحت طائلة كسر الوصية (عد30: 1، 2)
لكن الشعب بكل التواء وخبث حاول أن يلتف على هذه الوصية ويجردها من معناها، فاستمروا يحلفون لتأكيد كلامهم لكنهم بدلاً من استخدام لفظ الجلالة في حلفهم استخدموا أسماء أخرى مثل «السماء» و«الأرض» و«أورشليم» و«رؤوسهم» أو «رؤوس» أبائهم!! محاولين بذلك أن يستمروا في الحلف واضفاء مصداقية على أقوالهم الممتلئة بالأكاذيب مع تجنب الإساءة لاسم الله!! لكن ربنا يفاجئهم بأن كل الأسماء التي يحلفون بها هي تنتمي أيضاً لله، وبالتالي استخدامهم لأسماء أخرى في الحلف لا يعفيهم من الوقوع تحت طائلة إهانة اسم الله.
ثم ينتقل ربنا بسامعيه إلى الهدف الأساسي لهذه الوصية والتحقيق الأكمل لها وهو أن يكون كلامنا صادقاً وبسيطاً فلا نحتاج لتأكيده بالحلف أو القسم، أن نقول «نعم» حين يكون الصدق هو «نعم» ونقول «لا» حين يكون الصدق هو «لا»، مع الأخذ في الاعتبار أن معرفتنا محدودة ونسبية، وبالتالي فما أراه صدقاً الآن قد أكتشف فيما بعد عدم صدقه، وأقوالي التي أعتقد اليوم أنها كاملة قد أكتشف غداً نقصها وعدم نفعها، فلماذا إذاً نزج باسم الله الكامل والمطلق لنؤكد أقوال ناقصة ومعيبة؟! 
ولقد لخَّص لنا يعقوب في رسالته هذا الحق قائلاً «يا إخوتي لا تحلفوا لا بالسماء ولا بالأرض ولا بقسم آخر بل لتكن نعمكم نعم ولاكم لا لئلا تقعوا تحت الدينونة» (يع5: 12) إن طبيعة الله هي الاستقامة والحق والصدق، ليس فيه ظلمة البتة، ليس عنده تغيير أو دوران، وبالتالي فهو يريد لأبناء ملكوته أن يكونوا مثله، أن يطرحوا عنهم الكذب ويتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه (أف4: 25) وللحديث بقية (يتبع)


الاثنين، 6 أغسطس 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (19)
بقلم : فخرى كرم
«سمعتم انه قيل للقدماء لا تزنِ...» (مت5: 27-32)
مازال ربنا يواصل حديثه عن كيفية فهم العمق الحقيقي لوصايا الناموس والوصول لتطبيقها الكامل عملياً، وكما نزل بوصية «لا تقتل» إلى جذورها العميقة فنهانا عن البغضة والاستهانة بالغير، ها هو يصل بوصية «لا تزنِ» إلى عمقها الحقيقي فينهانا عن الشهوة.
لقد ظن الانسان أن الله ينهى عن فعل الزنى فقط، فترك للشهوة الردية العنان لترتع في فكره ونظره وقلبه وظن أنه في مأمن طالما لم يرتكب الزنى عملياً، بل أوجد منفذاً شرعياً من خلال الطلاق لكسر رباط الزواج والارتباط بأخريات، فاذا تمكنت الشهوة من القلب تجاه امرأة أخرى بخلاف الزوجة فانه يقدم للزوجة كتاب طلاق ويذهب ليتزوج بالأخرى، وهو يشعر أنه بذلك لم يكسر الوصية!!
لكن الرب يفاجئ سامعيه أن غاية الوصية هو النهي عن الشهوة الردية التي لا تشبع ولا تكتفي بالزوجة ولا تقيم وزناً لقصد الله من وراء الزواج وتكوين الأسرة، لقد خلق الله في البدء آدم ثم بنى من أحد أضلاعه حواء، وهكذا صنع الله أول أسرة في تاريخ البشر من رجل واحد وامرأة واحدة، وكان قصد الله أن يختبر الرجل والمرأة في نطاق الأسرة معاني المحبة والاتحاد والمشاركة في ولادة الأبناء وتربيتهم، هذه هي المعاني السامية التي قصدها الله من وراء الغريزة الجنسية المغروسة في أجسادنا، وهي المعاني التي ينسفها تماماً وقوع الطلاق أو الانفصال بين الزوجين (مت19: 4-8)
إن كل خليقة الله صالحة إذا استخدمناها في نطاقها الصحيح، وهذا الحق ينطبق تماماً على الغريزة الجنسية، فهي متى أُستخدمت بشكل صحيح في نطاق الأسرة تصبح مادة بناء واشباع وتقدم، أما إذا خرجت الغريزة الجنسية عن السيطرة وتحولت إلى شهوة لا تفرغ تطلب لنفسها إشباعاً متجدداً، تصبح عندئذ أكبر تهديد يواجه استقرار الأسرة، عندئذ يصبح اشباع الغزيرة هو الهدف في حد ذاته وليس تكوين الأسرة واستقرارها، وهذا هو الزنى في عمقه وجذوره!!
فإذا سمح الرجل لقلبه وعينه ان تشتهي امرأة أخرى بخلاف زوجته فهو في نظر الله قد ارتكب الزنى، وإذا أراد أن يُكسب فعلته هذه شرعية فأعطى لزوجته كتاب طلاق ليتزوج بأخرى فهو يزني ويدفع مُطلقته للزنى (مت5: 32، مت19: 9) فالزنى في نظر يسوع هو كل ما يهدم مخطط الله تجاه الأسرة المكوَّنة من رجل واحد وامرأة واحدة، وهذا هو فكر الله من البدء، وإن كان قد سمح بالطلاق في العهد القديم فلأنه كان لا يزال يعطي مساحة لقساوة قلب الإنسان وبطء فهمه لمقاصد الله وعدم اكتراثه بتتميمها، أما في العهد الجديد فأبناء الملكوت ينبغي أن يعرفوا فكر الله الأصيل ويتعلَّموا كيف يتحكمون في غرائزهم ويستخدمونها بما يتمم مشيئة الله على الأرض!!
  ولأن ربنا يعلم أن هذه الغريزة متأصلة في جسد الإنسان استخدم تعبيرات قوية تحثنا على عدم التهاون مع الميول الخاطئة لهذه الشهوة، مثل اقتلاع العين وقطع اليد!! وهذه بلا شك تعبيرات مجازية لأن ربنا نفسه يعلِّمنا أن مصدر الزنى هو قلب الإنسان وليس أعضاء جسده (مر7: 21-23) لكن ربنا يريدنا أن نحكم بحسم وبشدة على أي تحرك غريب للشهوة بداخلنا كما لو أننا نتخذ قراراً باقتلاع العين أو قطع اليد!! وللحديث بقية (يتبع)

الخميس، 5 يوليو 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (18)
بقلم : فخرى كرم
«فاترك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك» (مت5: 24)
عندما أعطى الله الناموس قديماً كان هدفه هو الوصول بشعبه إلى حياة تحب «الحق والرحمة والإيمان» (مت23: 23) فهذا هو جوهر الناموس وأثقله على النفس البشرية التي لا تحب بطبيعتها الساقطة الحق والرحمة والإيمان، حتى أن ربنا لخَّص لنا وصايا الناموس كلها في وصيتين عُظمتين: «تحب الرب إلهك» و«تحب قريبك كنفسك» (مت22: 37-40) لو أحب الإنسان الرب إلهه من كل القلب وأحب قريبه كنفسه يكون قد وصل إلى جوهر الناموس وتمَّم مقصده الحقيقي، ولابد أن تمتلئ حياته بالقيم والسلوكيات العملية المتفقة مع الحق والرحمة والإيمان، وسيجد نفسه يتمم كل وصايا الناموس ببساطة وتلقائية بدون معاناة أو تظاهر.
لكن الإنسان دائماً يحاول الالتفاف على وصايا الله وتجريدها من جوهرها ومضمونها الحقيقي!! فترك قادة الشعب جوهر الناموس وأثقله واهتموا بالحفاظ على ظاهر الوصايا التي يراها الناس، خلت قلوبهم من محبة الله والقريب ولكنهم أمعنوا في اظهار تدقيقهم في تعشير النعنع والشبث!! اهتموا بتقديم الذبائح في الهيكل أكثر من اهتمامهم برحمة الأبوين واكرامهم!! والسبب وراء هذا الاهتمام بالعبادة الظاهرية هو رغبتهم في الوصول الى «البر» في عيون الناس وليس «البر» في عيني الله، حتى أن ربنا واجههم بتشخيص دقيق لحالتهم بقوله «هكذا أنتم أيضاً تظهرون للناس أبراراً ولكنكم من داخل مشحونون رياء وإثماً» (مت23: 28)
واهتمام الانسان بحصوله على صفة «البر» في عيون الناس يهدف الى المصلحة الشخصية، فهذا البر يعطيه سلطاناً على نفوس الناس وقدرة على التحكم بهم وتسييرهم بحسب هواه، ويجعله يجني الكثير من المكاسب المادية من وراء انجذابهم خلفه، أما البر في عيني الله فلا يعطي صاحبه كل هذه المكاسب الشخصية والمادية، فلذلك لا يهتم الانسان الساقط كثيراً بأن يكون باراً في عيني الله!!
في موعظة الجبل يؤكد ربنا لسامعيه على جوهر الوصية ومضمونها رغبة منه في تكميل الناموس والوصول به إلى غايته الحقيقية، ولكي يؤكد على حقيقة أن الله يهتم في المقام الأول بمضمون الوصية وليس بمظهرها أدهش ربنا سامعيه بقوله «ان قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك»!! ربنا يؤكد هنا أن الله يعنيه أن يكون هناك سلام في الخفاء بين الأخوين أكثر مما يعنيه أن يتصاعد دخان الذبيحة الى السماء أمام عيون جمهور العابدين!! الله يهتم أن يتنسم رائحة سرور من المحبة المتبادلة بين القلوب أكثر مما يهتم برائحة الشواء التي تملأ الانوف!!
ولنلاحظ أن ربنا لم يقل إن التصالح مع الأخ يُغني عن تقديم الذبيحة، بل بعد التصالح لابد أن يعود ويقدم ذبيحته، فتحقيق جوهر الوصية ليس بديلاً عن الاهتمام بتطبيق الجانب الظاهر للوصية، فربنا لم يأت لينقض أياً من وصايا الناموس بل ليصل بها إلى الكمال، السر كله يكمن في كلمة «أولاً»، فلابد أن نعرف ترتيب الأولويات في عيني الله، الباطن أولاً ثم الظاهر، الخفي أولاً ثم المُعلن، المحبة والحق والرحمة والإيمان أولاً ثم الطقس، وللحديث بقية (يتبع)

الجمعة، 1 يونيو 2018

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (17)
بقلم : فخرى كرم
«إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات» (مت5: 20)
هناك رغبة عميقة في قلب كل انسان للوصول إلى «البر»، أي الوصول إلى حالة التبرير وعدم الإدانة، فالبر هو عكس الخطية والذنب، والانسان بدون أن يشعر يبذل مجهوداً كبيراً طوال حياته ليظل مُبرراً في عيني نفسه وعيون الآخرين، ولذلك كان الكتبة والفريسيين يبذلون مجهودات كثيرة ليحفظوا ويتمموا وصايا الناموس لكي يصلوا إلى الإحساس بالبر.
ولكن ربنا يلفت نظرنا هنا إلى أن «البر» له مستويات مختلفة، فهناك البر في عيون الناس وهو نوعية بر الكتبة والفريسيين، وهناك البر في عيني الله وهو نوعية بر أبناء الملكوت، وهذه النوعية من البر تزيد كثيراً عن نوعية بر الكتبة والفريسيين. والذي يحدد أية نوعية من البر سيسعى إليها الإنسان هو اجابته على السؤال: في عينيّ مَنْ يريد أن يكون باراً؟!
إذا أحب الإنسان أن يكون باراً في عيون الناس فسيكتفي بحفظ ظاهر الوصية الخارجي وقشورها السطحية، بل قد يبالغ في تدقيق تفاصيل صغيرة ليست لها قيمة حقيقية، وسيكون حريصاً دائماً أن يكون في مرمى عيون الناس وتحت نظرهم، وإذا لمس تقدير الناس واعجابهم به يشعر براحة عميقة في ضميره واحساس داخلي بالتبرير والقداسة.
أما نوعية البر الذي ينشده أبناء الملكوت فهو البر بحسب عيني الله وحكمه، ولذلك هم لا يكتفون بظاهر الوصية بل بجوهرها، ولا ينشغلون بالتفاصيل السطحية التي يراها الناس بقدر انشغالهم بالحقيقة الداخلية التي يراها الله، ولا يعنيهم تقدير الناس وتبريرهم لأنهم يعلمون أن حكم الناس كثيراً ما يكون خاطئاً ومُضللاً!!
لو كنتُ أنشد البر في عيون الناس فسأكتفي بعدم مد يدي للقتل حتى لو كان قلبي ممتلئاً بالحقد والرغبة في التشويه، تماماً كما خطط الكتبة والفريسيين لقتل يسوع ولكن بأيدي الأمم ليظلوا محتفظين بإحساسهم المزيف بالبر لأنهم لم يمدوا أياديهم فعلياً للقتل!! سأحرص في تعاملي مع الآخرين أن يكون اسلوبي ناعماً وكلماتي رقيقة وتصرفاتي محسوبة لكي أظل باراً في عيونهم حتى لو كان قلبي يموج بالغضب والحقد وإرادة القتل!!
أما لو أردتُ أن أكون من أبناء الملكوت الذين ينشدون رضا الله وتبريره فعندئذ لابد أن يزيد بري عن هذا المستوى السطحي المملوء بالزيف والخداع، حينئذ سأدرك أن الوصية لا تنهاني فقط عن فعل القتل بل بالأحرى عن دوافعه وجذوره، وقتها سأهتم بأن يكون قلبي (الذي يراه الله لا الناس) خالياً من الغضب الباطل والاستهانة بالآخرين والرغبة في تجريحهم وتشويه سيرتهم.

وهكذا يقدم لنا ربنا مثالاً لكيفية الوصول بالوصية إلى الكمال، فهو لم يأتِ لينقض وصية الناموس التي تنهى عن القتل بل بالحري ليصل بها إلى مقصد الله الكامل من وراء هذه الوصية، فالله لا يريدنا أن نحمل في قلوبنا للآخرين غضباً أو تجريحاً أو اقصاءً، الله يريد أن يمنع القتل من بداياته الأولى ويقتلع شجرة الموت من جذورها الدفينة، الله يريد أن يخلق في المسيح شعباً باراً بالحق وليس مجرد قبور مُبيضة من الخارج، وللحديث بقية (يتبع)  

الجمعة، 4 مايو 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (16) 

بقلم : فخرى كرم

«قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل» (مت5: 21)

بعد تأكيد الرب لسامعيه أنه لم يأتِ لينقض الناموس والأنبياء بل ليكملهما، يتقدم ربنا في حديثه ليشرح لنا معنى اكمال الناموس والأنبياء، ويقدم لنا أمثلة من وصايا الناموس التي تحتاج أن تكتمل في الأذهان وبالتالي في الحياة العملية لأبناء الملكوت.
المثال الأول هو الوصية التي تنهي عن القتل، لقد حفظ اليهود هذه الوصية حرفياً وجاهدوا لكي يتمموها، وكانت ضمائرهم تشعر بالراحة لمجرد أنهم لم يمدوا أياديهم لقتل أي إنسان، ولكن ضمائرهم هذه عينها كانت لا تشعر بأي غضاضة في أن يملأ الغضب قلوبهم تجاه اخوتهم في الإنسانية، أقرباء كانوا أم أعداء، بل كان الأتقياء فيهم يحرصون على تأكيد تقواهم بإظهار غضبهم من الشرور المنتشرة في المجتمع والنطق بكلمات الإدانة والتحقير من شأن المخطئين والإسراع بالحكم والقضاء بقسوة عليهم.
والرب يؤكد أن حفظ اليهود لهذه الوصية أمر جيد بلا شك، بل أنه حماية للمجتمع من جرائم كثيرة، لكن هذه الوصية تحتاج الى مزيد من الوعي والإدراك، فحين أوصى الله بهذه الوصية في الناموس لم يكن ينهانا عن القتل كفعل مادي حرفي فقط بل كان ينهانا عن جذور هذا الفعل ودوافعه الرديئة.
الدافع الخفي للقتل هو اعتداد الانسان بذاته ومحبته لها وسعيه لإظهارها وتمجيدها، منذ أن سقط الإنسان في الجنة أصبح بداخل كل واحد منا «إله» يبحث عن المجد والسلطان، لقد ألقى إبليس في قلب الإنسان جذر الخطية ألا وهو الاعتقاد بأنه يستطيع أن يصير مثل الله، ومنذ ميلادنا في هذا العالم أصبحنا نمتلك هذه الذات الرديئة التي تعتقد أنها الأفضل والأعظم، ذات تحب نفسها جداً وتريد أن يخضع الجميع لأفكارها ورغباتها، هذه الذات المنتفخة هي الدافع الخفي وراء القتل.
هذه الذات تغضب جداً من كل مَن لا يخدم أغراضها ولا يلبِّي رغباتها، تحقد على من يخالفها الرأي لأنه باختلافه معها يحطم تقديسها لذاتها واعتدادها برأيها، وهذا الغضب يدفع الذات لمحاولة تشويه صورة الآخر المختلف عنها وإظهاره بصورة السفيه والأحمق، ليس لأنه هكذا فعلاً لكن لأنها تريد أن تقول إنها هي العارفة بالخير والشر ورأيها هو وحده الجدير بالاعتبار!!
اعتداد قايين بذاته وبعمله جعله يغضب من أخيه لمجرد أنه مختلف عنه، لم تحتمل هذه الذات الرديئة أن يكون هناك فرد واحد على الأرض يختلف عنها في معتقده وفعله، لأنه في اختلافه عنها يحطم اعتدادها بذاتها واعتقادها بصحة ما تعمله!! رغم أن هابيل لم يفعل أي شيء يضر بأخيه إلا أن الغضب تمكَّن من قلب قايين حتى قام على هابيل وقتله!! هذا هو أول مثال في تاريخ الإنسان للغضب «الباطل» الذي ينهانا الرب عنه هنا، والذي يستوجب نفس عقوبة القتل لأنه الدافع الحقيقي وراء القتل!!
خلف كل جريمة قتل توجد ذات غاضبة لأنها لم تستطع أن تصل لما تريد!! ذات تجلس على عرش الإله في قلب الإنسان وتريد أن كل الأشخاص والظروف تعمل لخيرها، ذات لا تتورع أن تجرح وتهين كل مَن يعطل مجدها أو يجذب الأضواء بعيداً عنها، ذات تعتقد أن من حقها أن تمد يدها بالقضاء والحكم بالموت على الآخرين لمجرد أنهم مختلفون عنها!! وسيحتاج هذا الحديث لبقية (يتبع)   

الثلاثاء، 3 أبريل 2018

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (15)

 بقلم : فخرى كرم

«لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل أكمِّل»(مت5: 17)

بعدما تكلم الرب عن صفات أبناء الملكوت وسبب وجودهم في العالم لا شك أن تساؤلات كثيرة بدأت تثور في أذهان سامعيه: ما هذه التعاليم الجديدة التي يتكلم بها يسوع؟ هل يسوع ينادي بإله جديد له شرائع جديدة تختلف عن ناموس إله اسرائيل؟ هل يسوع يعلن فشل المخطط الإلهي القديم الذي بدأه يهوه مع شعبه ولذلك هو ينقض هذا المخطط القديم ويقيم مخططاً جديداً؟! ولأن ربنا كان يرى هذه الظنون في أذهان السامعين بدأ يجيب عنها في المقطع التالي من موعظة الجبل.
يبدأ الرب كلامه بنفي هذه الظنون من أذهان السامعين، فالإله الذي ينادي به يسوع هو نفسه إله اسرائيل، وشريعته التي أعطاها لشعبه قديماً لا يمكن أن تُنقض، ولم يأتِ يسوع ليضيف تعاليم جديدة إلى الناموس بل ليسير به إلى الكمال!! يسوع هنا يعلمنا أن نؤمن بوحدة الكتاب المقدس بعهديه وبوحدة الإعلان الإلهي فيه وبوحدة القصد الإلهي من نحو الإنسان عبر التاريخ كله!!
حين أعطى الله الناموس للشعب القديم كان في قلبه قصد صالح من نحو الإنسان، كان يريد أن يخلِّص الانسان من السقوط الذي حصل في جنة عدن ويعود به إلى مشيئة الله ورضاه، وهذا القصد الإلهي لا يمكن أن يفشل أو يتغير قط، بل لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة منه حتى يكون الكل، ولم يأتِ يسوع إلى أرضنا إلا ليصل بهذا القصد الإلهي إلى الكمال!!
كان الله يريد من وراء الناموس أن يقدِّس لنفسه شعباً خاصاً يكون اعلاناً عنه لكل الأرض، وهذا تماماً ما أتى يسوع ليكملِّه، وصايا الناموس كانت ترسم للانسان خطوات الرجوع إلى رضا الله ومحضره، ويسوع أتى ليسير في هذه الخطوات ويزيدها وضوحاً وعمقاً، طقوس الناموس كانت تهدف لغرس بغضة للنجاسة وطلب للقداسة في نفوس العابدين، وهذا ما غرسه يسوع في نفوس تلاميذه بعمل روحه القدوس، ذبائح الناموس كانت ترسِّخ لمبدأ أن أجرة الخطية موت ولعنة أما رضا الله فهو حياة وبركة، وهذا بالضبط ما استطاع يسوع أن يعلنه في صليبه وقيامته!!
ما يعلنه يسوع هنا هو أن اعلان الله واحد في جوهره ولكنه متدرج نحو الكمال عبر التاريخ البشري، فاذا كان جوهر اعلان الله في الناموس باقٍ لا يمكن أن يُنقض إلا أنه في المسيح تقدم نحو الكمال، مقاصد الله من وراء الناموس صارت أكثر وضوحاً وامكانية للتنفيذ من خلال حياة يسوع وتعاليمه وعمله الكفاري، يسوع لم يأت ليسير في خط موازٍ أو متقاطع مع الخط الذي سار فيه الله مع شعبه القديم، لكنه أتى ليسير في نفس الخط وليصل فيه إلى الكمال.

لقد أحسن الكتبة والفريسين صنعاً عندما تمسكوا بالناموس باعتباره شريعة الله وقدِّسوا كلماته بل وحروفه ونقاطه!! لكنهم أخطأوا حينما ظنوا أن الناموس هو مجرد النصوص والكلمات ولم يدركوا أن المهم حقاً هو المعاني والمقاصد الإلهية التي تحملها النصوص والكلمات!! أحسنوا عندما افتخروا بأنهم الشعب الذي استأمنه الله على الناموس ولكنهم أخطأوا عندما ظنوا أن هذا الناموس هو آخر اعلانات الله للانسان ولا يمكن الاضافة اليه أو التقدم به نحو اعلان أكمل وأعظم!! وسيبدأ الرب في الأجزاء التالية من موعظة الجبل يشرح لنا كيف يمكن التقدم بوصايا الناموس نحو كمال تحقيقها، ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)     

الجمعة، 2 مارس 2018

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (14)
بقلم : فخرى كرم
«لكن إن فسد الملح فبماذا يُملَّح؟ ..لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعةعلى جبل ولا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال» (مت5: 13، 15)

كل امتياز يحمل في طياته مسئولية وكل نعمة تستلزم بالضرورة جهاد!! ولذلك أضاف الرب في حديثه عن امتيازات أبناء الملكوت إشارات واضحة عن مسئولياتهم وتحذير شديد من فشلهم في القيام بها، فإذا كان من امتياز أبناء الملكوت أنهم ملح للأرض فمسئوليتهم أن لا يفقدوا ملوحتهم، وإن كانوا نوراً للعالم فينبغي ألا يختفوا عن عيون الناس!!
تكلمنا قبلاً عن معنى «الملح» و«النور» ولكن تحذيرات الرب تدفعنا لنسأل عن مصدرهما، من أين نكتسب الملح والنور؟ هل أبناء الملكوت يحملون في ذواتهم البشرية أي ملح أو نور؟ كلا البتة، فأبناء الملكوت مثلهم مثل سائر البشر لا يمتلكون في ذواتهم أي صلاح (مت19: 17) إن مصدر الملوحة والنور هو روح الله الذي يحل في داخلهم بالإيمان بالمسيح، روح الله هو الذي يحمل طبيعة الله الصالحة المنيرة إلى أعماقنا المظلمة، روح الله هو وحده مصدر الملوحة التي تصنع الخير في حياة الناس وتقاوم انتشار الفساد بينهم، روح يسوع فقط هو النور الحقيقي الذي يطرد الظلمة وينير البصائر والأذهان. 
الملح يفسد من داخله أما النور فيُحجب عن الأنظار بعوامل خارجية مثل المكيال، إذاً فالرب يحذرنا هنا من خطر مزدوج: داخلي وخارجي!! الداخلي هو توقف عمل روح الله في داخلنا، والخارجي هو فشلنا في اظهار هذا العمل للآخرين. إذاً فأبناء الملكوت لابد أن يسيروا زمان غربتهم بخوف مزدوج، الخوف من أن يفقدوا تقديس الروح المستمر في داخلهم والخوف من فشل ارساليتهم للعالم، وطالما استمر هذا الخوف المقدس يلازمهم استمرت حياتهم مملحة بملح مشرقة بنور للعالم.

† الخطر الداخلي: إذا تهاون المؤمن في تعامله مع روح الله وتسبب ذلك في حزن الروح أو إنطفائه فسوف يفقد المؤمن فوراً تأثيره كملح للأرض، ولا توجد أي قوة تستطيع أن تعيد الملوحة للقلب الذي انطفأ فيه عمل الروح، فكل قوى النفس والجسد لا يمكنها أن تعوض غياب قوة الروح القدس، ولو ظن المؤمن المستهين أنه يستطيع بمهارته ومواهبه الطبيعة أن يعوِّض غياب عمل الروح القدس فهو واهم، والحقيقة أنه لم يعد يصلح لشيء إلا أن يُطرح خارجاً ويُداس من الناس!!
وكم من أمثلة نعرفها عن مؤمنين كانت حياتهم مؤثرة في العالم حينما كان لروح الله سلطاناً على الحياة وبعد انحسار هذا السلطان الإلهي اختفى تأثيرهم الإيجابي على حياة الآخرين رغم بقاء نشاطاتهم ومواهبهم الطبيعية كما هي، بل أحياناً قد يلجأ المؤمن لزيادة النشاط والاجتهاد في محاولة لتعويض لمسة الروح وتأثيره، ولكن هيهات!! فالرب يؤكد أن الملح إذا فسد لا يمكن لأي شيء على الأرض أن يُصلحه لأن مصدر الملوحة إلهي وليس انساني!!
الحل الوحيد للمؤمن الذي فقد ملوحته هو أن يتوب عن استهانته ويرجع يضع حياته مرة أخرى تحت سلطان الروح القدس، وإذا عاد سلطان الروح وعمله في القلب أعاد خلق ملوحة جديدة في الحياة، لا تضيع وقتك في محاولة اصلاح الملح الذي فسد لكن أطلب من الروح ملئاً جديداً وملحاً جديداً!!

† الخطر الخارجي: قد لا يخطئ المؤمن ضد الروح العامل بداخله لكنه يسمح للظروف والمخاوف الخارجية أن تمنع شهادته عن عمل الروح داخله، وهذا أيضاً فشل مؤلم!! لقد بنى الرب كنيسته على جبل لكي يراها العالم كله، أراد الرب لنوره الذي تركه في الكنيسة أن ينتشر إلى كل الناس، لم يوقد الرب سراج الكنيسة لكي يضعه تحت مكيال المشغوليات بل على منارة الشهادة ليضيء لجميع الذين في البيت، أرسل تلاميذه إلى العالم أجمع ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، طلب منهم أن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم ويعلِّموهم أن يحفظوا جميع وصاياه، أمرهم أن ينادوا على السطوح بكل ما سمعوه منه في المخادع، لم يطلب الرب قط من تلاميذه أن ينكفئوا على أنفسهم ويحجبوا نوره عن الآخرين!!

آه، كم أخطأنا في حق الرب وفي حق أنفسنا حين سمحنا لهموم العالم ومخاوفه أن يحجبوا نور الروح الذي أشرق به داخلنا ومنعنا وصوله للآخرين!! كم من مكيال مشغولية وُضع على مصباحنا وكم من جدران مخاوف بناها العدو في محاولة لإخفاء المدينة التي وضعها الرب على جبل!! ليت الرب يوقظ كنيسته لتعود ملحاً للأرض ونوراً للعالم!! وللحديث بقية (يتبع)     

الجمعة، 2 فبراير 2018

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (13)
بقلم : فخرى كرم

«أنتم نور العالم» (مت5: 14)

يكمل سيدنا تفسيره لوجود أبناء الملكوت وسط هذا العالم الموضوع في الشرير، ويضيف إلى جانب أنهم ملح الأرض حقيقة أخرى وهي أنهم أيضاً نور للعالم، والنور هو طاقة إيجابية تساعد الإنسان أن يرى الأشياء التي حوله، فبدون النور لا يمكننا أن ندرك بشكل كامل حقيقة الأشياء المحيطة بنا، أما الظلمة فهي شيء سلبي لا وجود حقيقي لها، فالظلمة هي ببساطة غياب النور!!
الرب يؤكد هنا أن أبناء ملكوت السماوات هم مصدر المعرفة الصحيحة في هذا العالم، بدون أبناء الملكوت لا يمكن للبشر أن يدركوا حقيقة الأشياء التي تحيط بهم وتحدث لهم في هذا العالم، روح الله هو الطاقة الإيجابية التي تعمل من خلال أبناء الله لتوضيح وكشف الحقائق بخصوص حياة الناس وأبديتهم.
يسوع المسيح هو النور الحقيقي الذي أتى إلى العالم لينير كل انسان (يو1: 9) وكل من يتبعه لا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة (يو8: 12) هو بذاته النور الكامل الذي أنار حقائق الحياة والخلود (2تي1: 10) وهو شمس البر الذي ينبثق منه النور ويتوزع إلى كل أبنائه في هذا العالم (مل4: 2) وكل واحد من هؤلاء الأبناء يصبح بالتالي نوراً للعالم في المكان والزمان الموجود فيه بحسب مقدار النور الذي أخذه من يسوع.
النور هو طبيعة الله نفسه (1يو1: 5) أي إنه ليس مجرد معرفة عقلية أو إدراك ذهني يمكن أن يمتلكه الإنسان ويعيش به منفصلاً عن روح الله، إن النور هو طاقة روحية حية تتدفق في روح الانسان وتجعله يدرك الأمور المحيطة به يوم بيوم وساعة بساعة، إنه استنارة داخلية متواصلة بمقدار تواصل الإنسان مع يسوع بواسطة روح الله، إن النور الحقيقي هو حياة تنبض بداخل أرواحنا وتنمو وتتزايد إلى النهار الكامل (أم4: 18)
كم من أناس أخذوا نوراً من الله في أرواحهم وأدركوا أموراً ثمينة لكنهم فيما بعد ترجموها إلى أفكار في أذهانهم وظنوا أن هذا الأفكار هي نفسها النور!! وأنهم بنقل هذه الأفكار إلى الأخرين ينقلون النور إلى العالم، وهذه محض كذبة!! فالنور الحقيقي هو قوة حياة في الأرواح وليس أفكاراً ميتة في الأذهان، النور الحقيقي هو طبيعة الله نفسه ولا يمكن ترجمته إلى أفكار مجردة، النور الحقيقي ينبغي أن يتدفق لحظة بلحظة في روح كل إنسان ولا يمكن وضعه في هيئة أفكار محفوظة تُختزن في الأذهان ليستخدمها الإنسان وقتما شاء وكيفما شاء، سيظل النور دائماً ملكاً لله وحده ولن يصير يوماً ملكاً للإنسان!!
أما الظلمة فهي شيء سلبي يملأ كل مجال لم يملأه النور، إذا كان النور يكشف الحق عن كل الأمور فالظلمة هي غياب الحق وانتشار الضلال والخداع والكذب عن ذات الأمور، كل أمر لا تستطيع أن تراه في نور الله ستضطر أن تقبل عنه مفاهيم خاطئة وكاذبة وتعيش بذهن تسوده الظلمة عن هذا الأمر، ولأن الظلمة شيء سلبي ميت فهي بعكس النور يمكن انتقالها بسهولة بين البشر، الظلمة لا تحتاج إلى تدخل روحي فوقي لكي تنتشر في العالم بل يكفي اختلاط وتعامل الناس بعضهم ببعض لكي تنتشر الظلمة وتنتقل من ذهن إلى ذهن ومن نفس إلى نفس ومن روح إلى روح!!

إذا كان الله هو رأس ملكوت النور ومصدره الوحيد فإبليس يؤسس ملكوته على الظلمة التي تسود هذا العالم (أف6: 12) لأنه الكذاب وأبو الكذب (يو8: 44) ولذلك يترك الله أبناء النور في الأرض لكي يضيئون بين الناس كأنوار في العالم (في2: 15) وللحديث بقية (يتبع) 

الخميس، 11 يناير 2018

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (12)
بقلم : فخرى كرم
«أنتم ملح الأرض» (مت5: 13)
بعدما تكلم ربنا في التطويبات عن الصفات وأعمال البر التي تميز أبناء ملكوت الله، وختم كلامه بأنهم سيتعرضون للطرد والتعيير والمقاومة بسبب هذا البر عينه، لابد أن سؤالاً ثار في أذهان السامعين: «لماذا إذاً يسمح الله أن يعيش أبناء الملكوت في هذا العالم الشرير الخاضع لسلطان الشيطان؟ ولماذا يعملون البر إذا كان العالم يرفض هذا البر ويقاومهم بسببه؟» والرب هنا يستأنف كلامه ويجيب عن هذا السؤال المنطقي.
الرب يقول إنه يتركنا نعيش في هذا العالم لكي نكون ملحاً للأرض، والرب هنا يشير إلى مادة شائعة يستخدمها كل بيت في إسرائيل لكي يشرح لنا معانٍ في غاية السمو، فالملح في تلك الأيام القديمة كان له تأثير في حياة الناس اليومية، كان يعمل أولاً على إضافة طعم مقبول للطعام وثانياً كان يقاوم انتشار الفساد في الأغذية المحفوظة، وهكذا تماماً يعمل أبناء الملكوت!!
الله يترك أبناءه في العالم لكي يجعل حياة البشر أفضل ويمكن احتمالها، فالحياة لا يمكن تصورها ولا احتمالها بدون أبناء الملكوت!! هل يمكنك تصور حياة غارقة في الماديات المنظورة فقط بدون مساكين بالروح يطلبون الله ويسعون نحوه لأجل أنفسهم والمحيطين بهم؟ هل تستقيم الحياة في المجتمع إذا كان الكل يهتم بما لنفسه فقط ولا يوجد من يحزن لأجل الآخرين ويتعاطف معهم؟ هل يمكنك العيش في مجتمع يتصارع ليلاً ونهاراً لأجل امتلاك الأرض بدون وجود ودعاء ينشرون المحبة والتسامح؟ هل هناك طعم لحياة خالية من أعمال البر والرحمة والتكافل الأخوي؟ هل نحتمل الحياة إذا كان الكل يكذب ويخدع ولا وجود للصدق ونقاء القلب؟ بل هل يمكننا تخيل التاريخ البشري بدون صانعي السلام الذين أطفأوا نيران الخصومات والحروب بين الأفراد والجماعات والشعوب؟!
هل يمكن تخيل تاريخ البشرية بدون رجل مثل إبراهيم قرر أن يرفع عينيه إلى فوق وينظر إلى المساكن الأبدية ويرفض أن يتعلق قلبه بمساكن على الأرض؟ رجل زرع بذرة الإيمان في حياة البشر معلماً إياهم أن هناك عالماً غير منظور له أساسات أثبت وأعظم من العالم المنظور، رجل منع بحياته سريان تيار المادية والانكباب على المنظور.   
هل يمكن تصور مستقبل شعب إسرائيل المُستعبد في مصر وهو يتعرض لكل صنوف الإذلال والإبادة بدون وجود إنسان مثل موسى رجل الله؟ ألم يكن موسى ملحاً للأرض في تلك الأيام القديمة عندما أعطى لشعبه رجاءً وسار به إلى حياة أفضل؟ ألم يكن ملحاً عندما منع انتشار فساد فرعون واتمام مخططه الشرير؟ بلى، كان موسى ملحاً للأرض رغم تعرضه للمقاومة من أعدائه ومن شعبه على حد سواء!!
هل يمكننا التنبؤ بأي منقلب ردئ كانت ستنقلب إليه مملكة إسرائيل المنقسمة لولا ظهور رجل مثل إيليا؟ الرجل الذي أعاد اسم الرب إلى ألسنة وقلوب الشعب المرتد، وتعامل بالنار والدينونة مع كل اسم غريب أراد أن يستشرى ويسود في وسط الشعب المغلوب على أمره!!

وماذا نقول أيضاً لأنه يعوزنا الوقت إن تكلمنا عن كل أبناء الملكوت في كل عصر وجيل، بل في كل مملكة ومدينة، بل في كل شارع وزقاق وبيت!! كانوا بشراً مثلنا لكنهم استطاعوا بحياتهم أن يضيفوا ألواناً بهيجة لحياة الناس المعتمة الكئيبة، ومن الناحية الأخرى استطاعوا أن يقفوا ضد تيار الشر الذي ما فتئ يحاول تدمير حياة البشر، لقد كانوا حقاً ملحاً للأرض!! وللحديث بقية (يتبع)  

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (11)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للمطرودين من أجل البر، لأن لهم ملكوت السماوات» (مت5: 10)
إن أبناء ملكوت الله لا يعيشون في عالم خاص بهم لكنهم يعيشون في وسط هذا العالم الشرير، ورئيس هذا العالم هو إبليس نفسه، والصفات والأخلاق السائدة في هذا العالم مختلفة بل مضادة تماماً لصفات وأخلاق ملكوت الله، وهذا يضع مسئولية مضاعفة على أبناء الملكوت، فالمطلوب منهم ليس فقط أن يعيشوا البر بل أن يعيشوه في وسط عالم يبغض هذا البر ويقاومه طوال الوقت!! مطلوب أن يعيشوا أخلاق ملكوت الله في قلب عالم لا يفهم هذه الأخلاق ويسلك بأخلاق إبليس نفسه!! ولو استطاع أبناء الملكوت أن يواجهوا هذا التحدي ويتمموا هذه المسئولية الصعبة يكونون مستحقين لتطويب جديد وأجر عظيم في السماوات!!
إذا كان أبناء الملكوت الإلهي يمتازون بالروح المسكينة المتضعة التي تشعر كل الوقت بالاحتياج الشديد لله فأبناء ملكوت إبليس يتميزون بالاعتداد والتفاخر بالذات، هذا الاعتداد عينه الذي أخرج إبليس قديماً من ملكوت الله، وهذا الاعتداد يجعلهم يتعاملون بجفاء وتعالي مع كل مَن يختلف عنهم، بل يصل الأمر إلى العنف والقسوة تجاه من يخالفهم المبدأ والرأي.
إذا كان أبناء الله يتعاطفون مع الآخرين وتمتلئ قلوبهم بالحزن لأجلهم فأبناء هذا الدهر لا يمكنهم أن يحزنوا لأجل الآخرين لأن قلوبهم ممتلئة بأنفسهم وذواتهم تحتل كل اهتمامهم، وإذا كانت صفة الوداعة تميز أبناء الله حتى أنهم يحبون ويقبلون حتى الأعداء فطبيعة أبناء إبليس هي على النقيض تماماً من الوداعة، إنهم يعيِّرون من يختلف عنهم ويطردونه من وسطهم بل يقولون عليه بالكذب كل كلمة شريرة لكي يبرروا أنفسهم ويخدعوا ضمائرهم.
إذا كان أبناء الملكوت يجوعون للبر ويسعون طول الوقت لفعله فأبناء هذا العالم يطردونهم وينبذونهم لأجل هذا البر عينه!! وإذا كانت الرحمة تميِّز طبيعة أبناء الملكوت فأبناء هذا العالم يميزهم القسوة والعنف تجاه الآخرين، أبناء الملكوت يهتمون أن يرفعوا الأحمال عن كاهل الناس أما منهج أبناء إبليس فهو أن يحزموا أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس (مت23: 4)
وإذا كان الرب يطالب أتباعه بأن يكونوا أنقياء القلب يهتمون بطهارة أعماقهم أكثر من اهتمامهم بجمال مظهرهم، فملكوت هذا العالم هو ملكوت الزيف والخداع الذي يهتم بالمظهر البرَّاق ويهمل العمق المظلم، نحن نعيش في عالم مزيف يهتم بنقاء خارج الكأس والصحفة وهما من داخل مملوآن اختطافاً ودعارة (مت23: 25)
وإذا كان أبناء الله هم صنَّاع السلام في هذا العالم فأبناء إبليس هم صنّاع الخصام والانشقاق بين الإخوة (أم6: 19) فبينما يسعى أبناء الملكوت للتجميع وحفظ وحدانية الروح برباط السلام يسعى ابليس وأتباعه كل الوقت لبذر بذور الانقسام والعداوة في كل مكان.

ربنا يؤكد لنا في ختام التطويبات أن كل الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى العالم على مدار التاريخ تعرضوا للرفض والإهانة من معاصريهم، مما يؤكد أن الصراع بين هاتين المملكتين هو قديم قدم التاريخ نفسه، فلم يكن هناك وقت تصالح فيه العالم مع ملكوت الله!!  كما يؤكد ربنا أيضاً أن أجرنا سيكون عظيماً في السماء إذا استطعنا أن نعيش مبادئ ملكوت الله رغم مقاومة وتهديد إبليس وأتباعه، مقتدين بسيدنا الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا نكل ونخور في أنفسنا (عب12: 3) وللحديث بقية (يتبع)