الخميس، 6 سبتمبر 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (20)
بقلم : فخرى كرم
«سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث.. أما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة» (مت5: 33، 34)
ينتقل ربنا للحديث عن وصية أخرى من وصايا الناموس التي يتعامل معها الناس بسطحية شديدة وسذاجة، ألا وهي الوصية الثالثة «لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يُبرئ مَن نطق باسمه باطلاً» (خر20: 7)
كلنا نحب حين نتكلم أن نُكسب حديثنا مصداقية وقبولاً لدى السامعين، نريد أن يكون لكلماتنا سلطانها على الأخرين وأن يعيروها انتباههم، وهناك أساليب شتى لتحقيق هذا الغرض مثل تغيير نغمة الصوت وارتفاع النبرة واستخدام تعبيرات الوجه وحركات الأيدي أثناء الحديث...، لكن أشهر هذه الأساليب وأكثرها استخداماً هو «الحلف» الذي هو ببساطة ربط الكلام بأمر أو باسم مقدس لإكساب كلامنا قدسية ومصداقية.
والمشكلة هنا أن أحاديثنا لا يمكن أن ترتقي لمستوى القداسة والتنزيه، فناهيك عن الكذب المتعمد في أحيان كثيرة هناك دائماً الكثير من القصور والمحدودية والجهل يشوب أفضل أحاديثنا وأكثرها صدقاً!! فلذلك ينبغي ألا نضفي على أحاديثنا قداسة لا تستحقها ولا نسعى لإكسابها سلطاناً ليس لها.
ولقد اعتاد الأمم المحيطون بشعب إسرائيل أن يحلفوا دائماً بآلهتهم ليؤكدوا أقوالهم رغم احتوائها على الكثير من الأكاذيب والمغالطات، وفي الوصية الثالثة يحذِّر «يهوه» شعبه من استخدام اسمه بهذا الأسلوب لأن اسمه أقدس من أن يقترن بكلامنا الناقص وأعظم من أن يُستخدم ليعطي مصداقية لأقوالنا المملوءة بالأخطاء، وتأكيداً لهذا المعنى عاد موسى ليؤكد على الشعب أنه إذا أقسم أحدهم قسماً مستخدماً اسم الله فينبغي ألا يحنث بل يوفي ما أقسم عليه لئلا يقع تحت طائلة كسر الوصية (عد30: 1، 2)
لكن الشعب بكل التواء وخبث حاول أن يلتف على هذه الوصية ويجردها من معناها، فاستمروا يحلفون لتأكيد كلامهم لكنهم بدلاً من استخدام لفظ الجلالة في حلفهم استخدموا أسماء أخرى مثل «السماء» و«الأرض» و«أورشليم» و«رؤوسهم» أو «رؤوس» أبائهم!! محاولين بذلك أن يستمروا في الحلف واضفاء مصداقية على أقوالهم الممتلئة بالأكاذيب مع تجنب الإساءة لاسم الله!! لكن ربنا يفاجئهم بأن كل الأسماء التي يحلفون بها هي تنتمي أيضاً لله، وبالتالي استخدامهم لأسماء أخرى في الحلف لا يعفيهم من الوقوع تحت طائلة إهانة اسم الله.
ثم ينتقل ربنا بسامعيه إلى الهدف الأساسي لهذه الوصية والتحقيق الأكمل لها وهو أن يكون كلامنا صادقاً وبسيطاً فلا نحتاج لتأكيده بالحلف أو القسم، أن نقول «نعم» حين يكون الصدق هو «نعم» ونقول «لا» حين يكون الصدق هو «لا»، مع الأخذ في الاعتبار أن معرفتنا محدودة ونسبية، وبالتالي فما أراه صدقاً الآن قد أكتشف فيما بعد عدم صدقه، وأقوالي التي أعتقد اليوم أنها كاملة قد أكتشف غداً نقصها وعدم نفعها، فلماذا إذاً نزج باسم الله الكامل والمطلق لنؤكد أقوال ناقصة ومعيبة؟! 
ولقد لخَّص لنا يعقوب في رسالته هذا الحق قائلاً «يا إخوتي لا تحلفوا لا بالسماء ولا بالأرض ولا بقسم آخر بل لتكن نعمكم نعم ولاكم لا لئلا تقعوا تحت الدينونة» (يع5: 12) إن طبيعة الله هي الاستقامة والحق والصدق، ليس فيه ظلمة البتة، ليس عنده تغيير أو دوران، وبالتالي فهو يريد لأبناء ملكوته أن يكونوا مثله، أن يطرحوا عنهم الكذب ويتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه (أف4: 25) وللحديث بقية (يتبع)