الأربعاء، 31 مايو 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (5)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون» (مت5: 4)
من العجيب أن يطوِّب سيدنا الحزانى، فالمنطق السائد في العالم هو أن نطوِّب السعداء وليس الحزانى، وهذا يؤكد أن القوانين التي تحكم ملكوت الله تختلف جذرياً عن القوانين التي تحكم ملكوت هذا العالم!! ولكي نفهم طبيعة هذا الحزن المقدس لابد أن نراه في حياة يسوع على الأرض، فهو الذي قال عنه إشعياء «رجل أوجاع ومختبر الحزن.. أما الرب فسُر أن يسحقه بالحزن» (53: 3، 10) لقد وصل الحزن في حياة ربنا إلى درجة الانسحاق، لكن العجيب أن ربنا وهو ينسحق بهذا الحزن كانت تصعد منه رائحة سرور أمام الآب، والسبب هو أن نوعية هذا الحزن نوعية إيجابية مقدسة تُدخل السرور الى قلب الله!!
ما هي طبيعة هذا الحزن الذي ملأ قلب ربنا وسحق مشاعره؟ الجواب نجده في نفس كلمات إشعياء «لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها» (53: 4) لقد حمل ربنا أحزاننا وأوجاعنا وانسحق بها، لم يكن حزن يسوع حزن شخصي لأجل أمور تخصه، لكنه حمل أحزان شعبه وتألم معهم ولأجلهم، لقد وضع نفسه في مكان الإنسان وحمل أثقاله وتألم بها أمام الله، لقد حمل على قلبه كل أنواع الحزن في حياة البشر بداية من الأمراض والأوجاع والموت وصولاً لجذر وأصل كل الأحزان ألا وهو الخطية، رأيناه يتعاطف مع المرضى ويئن في مواجهة المقيدين بأرواح نجسة وتسيل دموعه عند قبر لعازر، وأخيراً حمل معاصينا وجُرح بها واحتمل آثامنا وانسحق تحتها (53: 5)
الحزن المقدس هو شعور فاعل وايجابي، عندما حزن يسوع لأجلنا لم يقف مكتوف الأيدي لكنه تقدم وحمل هذه الأحزان وقدم نفسه ذبيحة إثم لله لكي يرفع عنا هذه الأحزان، ان مشاركة الآخرين أحزانهم والعمل باجتهاد لرفع هذه الأحزان عن كاهلهم هي العلامة الأكيدة للمحبة الحقيقية، المحبة الحقيقة لا تكتفي بالرثاء للآخرين أو مواساتهم بكلمات لا تكلف صاحبها شيئاً لكنها تتقدم لتضع كتفها تحت أثقالهم وترفعها عنهم، وكما فعل يسوع معنا هو ينتظر منا أن نفعل مع الجيل الذي نعيش فيه، ينتظر منا أن نحزن لأجل أحزانهم ونحمل على قلوبنا معاناتهم، وأن تتحول مشاعر الحزن هذه إلى طاقة إيجابية تجعلنا نعمل بكل طاقتنا ونسكب نفوسنا أمام الله لكي يعطينا القدرة لرفع اثقالهم وتغيير واقعهم الحزين!!
كل نهضة مباركة حدثت على مدار التاريخ كانت بدايتها مشاعر حزن مقدس تحركت في قلب انسان مُحب لشعبه، قلب حمل أوجاع الناس وسكب نفسه أمام الله لأجلهم، قلب رفض أن يعيش بأنانية منحصراً في ذاته، قلب اعتبر قضية الشعب هي قضيته وأحزانهم هي أحزانه، قلب رفض أن يتعزى حتى يرفع الله أثقال الشعب ويغيِّر واقعهم، قلب تنطق نبضاته بكلمات النبي الباكي «يا ليت رأسي ماء وعينيّ ينبوع دموع فأبكي نهاراً وليلاً قتلى بنت شعبي» (أر9: 1) 

ان طبيعتنا البشرية لا تعرف هذه النوعية من الحزن المقدس، ان مشاعرنا أنانية بطبعها ولا تعرف أن تحزن لأجل الآخرين أو تحمل أوجاعهم، اننا نحزن فقط لأجل ما يخصنا، ننكفئ على أنفسنا وننحصر في آلامنا ونقضي أيامنا نرثي لذواتنا، هذا الحزن الأناني السلبي لا ينتج أي خير بل يُنشئ موتاً (2كو7: 10) نحتاج الطبيعة إلهية تنسكب في قلوبنا حتى نستطيع أن نقتدي بيسوع ونمتلك قلباً مثل قلبه، قلب يحمل أحزان الآخرين ولا يتعزى حتى تأتي تعزية السماء لهذه النفوس الحزينة، وللحديث بقية (يتبع)