فكر الإخلاء
«فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان في صورة
الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه» (في2: 5-7)
أروع ما في حدث ميلاد ربنا يسوع المسيح ليست الملابسات والظروف التي أحاطت به بل الفكر الذي كان في شخصه الكريم والذي تجسَّد في ميلاده، هذا الفكر الذي يمكننا أن نسميه «فكر الإخلاء»، والإخلاء كما نفهم من الشاهد المتقدم هو «التنازل الطوعي عن الحقوق لصالح الآخرين»، فربنا كان في صورة الله منذ الأزل، وهذه المكانة لها حقوق واجبة مثل أن يكون مرتفعاً عن بقية الخليقة وأن يُحاط بالتسبيح والتمجيد الدائم من الملائكة وأن يُخدم من كل الخليقة، ولكننا نرى في حدث الميلاد أن ربنا اختار طوعاً أن يتخلى عن هذه الحقوق ويقبل أن يتنازل ويُوضع قليلاً عن الملائكة، وفي المزود يختلط بخلائقه ليس فقط البشرية بل والحيوانية، وفي كل حياته يعيش يَخدِم ولا يُخدَم، وأن تكفّ من حوله أبواق التسبيح ويُسمح بأن تحيط به أبواق الشكاية والتجريح!!
لم يتنازل ربنا عن مركزه كابن الله المساوي لله في الجوهر، حاشا!! فربنا المبارك ظل محتفظاً بهذا المقام السماوي الرفيع حتى وهو يجول بيننا على الأرض في صورة العبد (يو3: 13) لقد تنازل ربنا فقط عن الأمجاد والحقوق التي تحيط بهذا المركز، وهذا التنازل لم يكن مطلقاً بل مؤقتاً وإلى حين تتميم مشيئة الله من نحونا نحن البشر، وفي نهاية مهمته طلب من الآب أن يُعيد له «المجد» الذي كان له قبل كون العالم (يو17: 5) لم يطلب أن يستعيد «المقام»، حاشا، بل فقط «المجد» المحيط بهذا المقام!!
ومشيئة الله التي أراد ربنا أن يتممها هي أن يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد (عب2: 10) وتتميم هذه المشيئة كان يستلزم أن يأتي ربنا في ثياب بشريتنا ويسير بيننا ويحمل خطايانا في جسده على الخشبة، ولم يكن ممكناً أن يتم هذا وهو مُحاط بأمجاد لاهوته، لذلك اختار ربنا يتنازل مؤقتاً عن حقه الأصيل في المجد لكي يمنحنا الفداء والخلاص والحياة الأبدية، لقد تنازل ربنا باختياره عن حقوقه لكي يمنحنا حقوقاً لم تكن لنا بالمرة، وتخلّى بإرادته عن أمجاد مقامه السرمدي ليعطينا أمجاداً لا نستحقها على الإطلاق!!
إن هذا الفكر الذي تجسَّد بكماله في ميلاد ربنا يسوع المسيح نراه يلمع بشكل جزئي في حياة الكثيرين من رجال الله على مر العصور، نراه في إبراهيم الذي اختار أن يسكن الخيام في أرضه الموعودة، ونراه في موسى الذي تنازل عن كل أمجاد وخزائن مصر، وفي يوسف الذي قَبِل أن يُعامل كعبد وكمذنب وهو ليس كذلك، وفي المعمدان الذي اختار أن ينقص ويتوارى لكي يزيد المسيح ويُستعلن، وبولس الذي تنازل طوعاً عن حقوقه الرسولية لكي لا يضع عائقاً لإنجيل المسيح...، ويعوزنا الوقت لكي نسرد كل هؤلاء الذين حملوا قبساً ضئيلاً من «فكر الإخلاء» فصنع الله بهم أعمالاً عظيمة وتمم بهم مشيئته على الأرض.
والرسول يطالبنا أن نفتح كياننا ليكون فينا هذا الفكر الذي كان في المسيح يسوع، أي «فكر الإخلاء»، أن يكون عندنا الاستعداد للتخلي عن بعض حقوقنا لبعض الوقت لأجل منفعة الآخرين، ألا يفكر كل واحد في ما لنفسه فقط بل في ما هو للآخرين أيضاً، ولاشك أن هذا الفكر غريب عن طبيعة البشر التي تسعى لامتلاك الحقوق وليس للتنازل عنها، ولا شك أن الحياة بهذا الفكر في مجتمعنا المعاصر ستكون حياة غريبة وصعبة، ولكن كلما اقتربنا من هذا الفكر وقبلناه كلما اقتربنا من جوهر الميلاد وفهمناه وكلما صرنا أكثر استعداداً لخدمة الرب وتتميم مشيئته على الأرض!! وكل عام وأنتم بخير.