السبت، 1 ديسمبر 2018

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (23)
بقلم : فخرى كرم
«احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم» (مت6: 1)

بعدما تكلم ربنا عن بعض وصايا الناموس وكيف يصل أبناء الملكوت لتحقيقها الكامل تشبهاَ بأبيهم السماوي الكامل، ينتقل بنا للحديث عن بعض السلوكيات المزيفة التي شاعت في المجتمع الديني في ذلك الوقت وما يقابلها من سلوكيات حقيقية ينبغي أن توجد في حياة أبناء الملكوت.
حرص رجال الدين اليهود على مر أجيالهم على وضع نظم وقوانين ومواقيت لأعمال البر مثل الصدقة والصلاة والصوم، ورغم أن الناموس لم يقنن أي شكل يحكم أعمال البر هذه وترك تحديدها لظروف كل فرد وعمق علاقته بالله إلا أن رجال الدين أبوا إلا أن يضعوا قوانين للعطاء (مت15: 5) ومواقيت للصلاة (أع3: 1) وأيام للصوم (لو18: 12)
وعادة ما تكون هذه النظم والقوانين أحمالاً عسرة الحمل يضعها القادة الدينيين على أكتاف أفراد الشعب العاديين الذين في الغالب لا يستطيعون حملها (مت23: 4) وهذا مقصود لكي يشعر أفراد الشعب دائماً بتقصيرهم وبأفضلية وتفوق رجال الدين عنهم، فينحنوا لهم خوفاً وخضوعاً وتقديساً!! ولهذا اعتاد رجال الدين على ممارسة أعمال البر بشكل علني واظهار أنفسهم للناس لكي يجتذبوا أنظارهم وإعجابهم ويزيدوا الفجوة الفاصلة بينهم وبين عامة الشعب اتساعاً!! 
ويصف ربنا هؤلاء القادة بـ «المراؤون» وهي كلمة تشير في أصلها للممثلين الذين يرتدون أقنعة على خشبة المسرح ليظهروا للجمهور على غير حقيقتهم!! وهنا يفاجئ الرب سامعيه بأن أعمال البر التي يمارسها رجال الدين لم يكن مقصوداً منها إرضاء الله بقدر ما كان المقصود هو الاختباء وراءها والظهور للناس بمظهر لا يعكس حقيقتهم، سعياً لجذب الأنظار والاعجاب!!
والرب هنا يلفت أنظارنا إلى داء يستشري في أعماقنا جميعاً، فالرياء الذي وصف به الرب القادة الدينيين في عصره مازال موجوداً في عمق كل واحد منا بدرجة أو بأخرى، الذات الكامنة في قلوبنا تسعى دائماً لتتجمل في عيون الآخرين لتجتذب أنظارهم واعجابهم، ذواتنا تشعر بالأمان والثقة إذا شعرت أن هناك من ينجذب إليها ويعجب بها، وعلى العكس هي تشعر بالخوف والاهتزاز إذا لم تشعر باهتمام الأخرين وتقديرهم، ولذلك هي لا تدخر جهداً في إظهار مهارتها ومواضع قوتها ولا تتوانى في إخفاء عيوبها ومواطن ضعفها!!
وإذا كان هذا السلوك للذات البشرية غير مستغرب في كل مجالات الحياة إلا أنه يصبح مستهجناً جداً إذا تسرب إلى المجال الديني والعلاقة مع الله!! فعندما تستخدم ذواتنا أعمال البر لكي تتجمل في عيون الناس بدلاً من السعي لإرضاء الله نكون قد ابتعدنا جداً عن الحياة الروحية الحقيقية، وعندما نتعمد اظهار ممارستنا الدينية لنخفي وراءها حقيقة قلوبنا الشريرة نكون مراؤون بكل تأكيد، وعندما تتحول العلاقة مع الله إلى ستار نخفي خلفه شهوة قلوبنا للتعالي والسيطرة على الأخرين نكون قد أخطأنا في حق الله ومستحقين للقضاء!!
وهنا ينتقل ربنا للكلام عن أبناء الملكوت وكيف ينبغي أن يمارسوا أعمل البر في علاقتهم بالله، فقط أبناء الله الحقيقيون يستطيعون بالروح القدس أن يكسروا سلطان هذه الذات الرديئة ويقدموا لله عبادة حقيقية تطلب وجهه فعلاً وتسعى لرضاه حقاً، الروح المولودة من الله هي فقط التي تستطيع أن تقدم لله اعمال بر ترضيه وتدخل السرور إلى قلبه، وحدها هذه الروح تستطيع أن تعبد الله في الخفاء بعيداً عن عيون الناس وتقييمهم، ولهذا حديث آخر (يتبع)