الجمعة، 10 أكتوبر 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (5)
فخرى كرم
ولكني قد نطقت بما لم أفهم، بعجائب فوقي لم أعرفها» (أي42: 3)
خطأ الكلام لا يكمن عادة في الكلمات المجردة التي ننطق بها بل في دافع الكلام وروحه وهدفه، يكمن في اعتقاد الإنسان انه يفهم كل شيء وأنه مؤهل لإسداء النصائح والتوجيهات، الإنسان يظن أن بعض المعلومات السطحية التي عنده تعطيه الحق أن يصدر قرارات وأحكام على الظروف والأشخاص وحتى على الله نفسه، وكل من أيوب وأصحابه الثلاثة وقع في هذا الخطأ.
أيوب أصدر أحكاماً على حياته وعلى يوم ميلاده، حَكَم على حياته بأنها لا تستحق أن تُعاش وأن قرار مجيئه إلى الدنيا كان قراراً خاطئاً، ورغم أنه تحاشى في البداية أن يتهم الله بالقساوة بكلمات صريحة وتجنَّب أن ينسب الخطأ لله بشكل مباشر إلا أن روح الكلام وهدفه الخفي هو أن ينسب انعدام الحكمة والقساوة لشخص الله!! إذا كنا نؤمن أن الميلاد والحياة والموت بيد الله فتكون شكايتنا على يوم ميلادنا أو على ظروف حياتنا هي شكاية على الله نفسه!! بعض الأحداث الخارجية التي حدثت لأيوب جعلته يعتقد أنه مؤهل لإصدار الأحكام على الحياة والأيام والميلاد والموت وهي كلها أمور من شأن الله وحده الذي بيده آجالنا، أيوب لا يفهم لماذا سمح الله له أن يأتي إلى هذه الحياة ولا لماذا سمح له بالظروف التي مرت به ولا يعلم ما سوف تنتهي إليه الأحداث في المستقبل ولا البركة التي ذخرها الله له في نهاية الأيام، ورغم كل هذا الجهل وعدم الفهم إلا أنه تكلم بما لم يفهم وخاض في عجائب فوقه لم يعرفها.
المدقق في كلمات أصحاب أيوب الثلاث يكتشف أنها خالية من أي أخطاء لاهوتية أو تعليمية، بمنطق الكلمات المجردة هي كلمات صحيحة تحمل معانٍ ومفاهيم في غاية الروعة، كلماتهم تحاول أن تبرر الله وتنزهه عن كل خطأ أو ظلم، أقوالهم تعتبر نموذجاً للخطاب الديني الممجد لله والداعي لطريقه القويم، ومع ذلك نجد الله يدين أقوالهم هذه ويأمرهم أن يعتذروا عنها لأيوب ويطلبوا صفحه عنهم وصلاته لأجلهم!! أين الخطأ إذاً؟! مرة أخرى نؤكد أن الخطأ ليس في نص الكلمات أو فحواها بل في إدعاء الفهم لبوطن الأمور واصدار الأحكام بدون معرفة.
 رؤية أصحاب أيوب للأحداث التي حاقت به جعلتهم يعتقدون أنه بلاشك ينال عقوبة من الله عن شرور مستترة، وبدأوا يتكلمون معه بروح المعلم الذي يفهم ما يجري وهم في الحقيقة غير فاهمين لحقيقة ما جرى لأيوب، وكان كلامهم بدافع إلصاق التهم بأيوب ودفعه دفعاً للتوبة عن شر غير موجود ولا يدري أيوب عنه شيئاً، لقد كانت كلامتهم صحيحة وتحمل تعاليم رائعة لكن مع ذلك كانت أحاديثهم خاطئة ينبغي الإعتذار عنها!! لكي يكون كلامنا صحيحاً لا يكفي أن يكون مضمونه صحيحاً بل ينبغي أن يكون مضمونه صحيحاً ويُقال للشخص الصحيح في التوقيت الصحيح!! كلام أصحاب أيوب كان كلاماً يحمل مضموناً صحيحاً لكنه لم يُقال للشخص الصحيح ولا في التوقيت الصحيح، لم يكن أيوب هو الشخص الخاطئ الذي في مخيلتهم ولم يكن في هذا التوقيت يحتاج إلى مَن يُكيل له الإتهام ويضيف على ضيقه ضيقاً، كان أيوب في هذا الوقت يحتاج لمَن يرثي له ويجلس بجانبه في سكوت بليغ لكي يساعده أن يهدأ ويرفع نظره إلى الله لعل الله يكشف له سر البلاء الذي أصابه، لكن الإنسان في غروره يأبى أن يسكت ولا يرضى إلا بأن يلعب دور الفاهم والعارف ببواطن الأمور.

لقد استذنب أيوب الرب لكي يبرر نفسه وكان في هذا مخطئاً، ولقد إستذنب الأصدقاء الثلاثة أيوب لكي يبرروا الله وكانوا في هذا مخطئين أيضاً!! لم يكن ثمة خطأ من جانب الله أو أيوب، لقد كان الله باراً في كل ما سمح به وكان أيوب أيضاً باراً في حدود فهمه وعلمه كانسان، لقد دخل أيوب التجربة باراً بشهادة الرب وخرج منها وهو أكثر براً!! لم يكن هناك خطأ أصلاً يحتاج إلى تبرير سواء من جانب الله أو من جانب أيوب، هل تتصور أن كل المجادلات والحوارات في سفر أيوب هي في الحقيقة محاولة لتبرير خطأ غير موجود أصلاً!! لكن هذا هو دأب الإنسان وولعه الشديد بالكلام وإدعاء الفهم، وللحديث بقية (يتبع)